في تسعينيات القرن الماضي، كان ملايين الأمريكيين يجتمعون يوميًا أمام شاشات التليفزيون لمشاهدة برنامج "ذا جيري سبرينغر شو" والذي كان عبارة عن سيرك فوضوي من العراك، والفضائح العلنية، والدمار العاطفي المتنكر في هيئة ترفيه.
ما اعتُبر حينها مجرد ترفيه تافه يناسب وقت الظهيرة، حين تتراجع أعداد المشاهدين، كان في الحقيقة نبوءة تليفزيونية قادمة من المستقبل على الهواء. ربما لم يدرك المشاهدون ذلك وقتها، لكن جيري سبرينغر كان البروفة. كانت أمريكا تهيئ نفسها لحقبةٍ يصبح فيها الاستعراض سيد الواقع، ويصبح فيها مدير حلبة العرض رئيسًا.
دونالد ترامب لم يكن صدفة. بل هو النتيجة المنطقية لتطور ثقافي أصبح فيه جذب الانتباه عملة، والصراع ترفيهًا، والعار شيئًا من الماضي. لقد تشكّل مشهد إعلامي يكافئ الغضب ويكافئ أولئك الذين يتقنونه. لم يُنتخب رجل، بل تم انتخاب قالب اجتماعي.
ترامب هو تجسيد لما يمكن أن يسمى برئاسة جيري سبرينغر، في صورة صاخبة، استعراضية، فجة وفخورة بجهلها. لكن بينما كان "سبرينغر" يحصر جنونه في جمهور الاستوديو وفترات البث بعد الظهيرة، نقل ترامب المسرح إلى المكتب البيضاوي. هذه هي النتيجة حين يصعد الاستعراض إلى السلطة. وما كان يُضحكنا، أصبح الآن يملك القدرة على إحراقنا.
المصارعة مع السلطة
ما يحدث ليس مجرد ظاهرة أمريكية. مثل الجينز الأزرق، والكوكاكولا، وأبطال مارفل الخارقين، فقد انتشرت ثقافة الحشو الأمريكية عالميًا. في عام 2018، نظّمت الـWWE (شركة المصارعة العالمية للترفيه) عرضًا ضخمًا بنظام الدفع مقابل المشاهدة في المملكة العربية السعودية، شمل الألعاب النارية، والمؤثرات البصرية، ومصارعين مسنين يتمايلون في عنفٍ مُعد سلفًا. في بلدٍ يُقمع فيه المعارضون السياسيون، وسُمح فيه للنساء على التو بقيادة السيارات، لم يكن هذا الاستعراض الفج للذكورة الأمريكية في موضع ترحيب من السلطات الأمريكية فقط، بل إنها دعمته كذلك.
والحال أن صورة كهذه ليست مجرد قوة ناعمة. بل هي نمط لاستعمار ثقافي من خلال محتوى تافه. نحن نشهد نوعًا من الإمبريالية الترفيهية، حيث يصبح الاستعراض السطحي هو اللغة المشتركة لعصرنا. القيم التي تروج لها برامج الواقع ،الإهانة، السطحية، الصراع الزائف، هي القيم التي باتت تشكل قيادة العالم.
وعندما تصل هذه الثقافة إلى قمة السلطة السياسية، فإنها لا تصبح مجرد ترفيه، بل سلطة تحكم.
سقط القناع
اتسمت سنوات الولاية الأولى لترامب بالفوضى، لكنها كانت فوضى في وجود مكابح. كان لا يزال هناك موظفون حكوميون محترفون داخل إدارات الدولة، ولا يزال هناك عدد قليل من "الكبار في الغرفة"، ولا تزال هناك مؤسسات قادرة على مقاومة اندفاعاته غير المتزنة. أحيانًا، كان هناك من يقول "لا".
تغير الوضع في الولاية الثانية، فالمكابح لم تعد موجودة. ترامب بات محاطًا بشكل متزايد بـ"المطبلين" الذين لا دور لهم سوى الإيماء بالموافقة. لقد استبدل المهنيين المحترفين بالمخلصين والموالين، والأيديولوجيين، وشخصيات إعلامية لا تفرّق بين الحكم وبين حصاد الشهرة على الإنترنت. الذين كانوا يضعون له حدودًا اختفوا؛ ومن تبقّى في محيطه سيكتفون بالتصفيق للرئيس وهو يقود الجميع نحو حافة الهاوية.
وهو بالفعل يحدق نحو تلك الحافة منذ عودته إلى البيت الأبيض. لقد طرح أفكارًا مثل شراء غرينلاند، والسيطرة على قناة بنما، وضم كندا إلى الولايات المتحدة كولاية رقم 51. هذه ليست نكات تُقال في حانة، بل نقاط نقاش حقيقية في اجتماعات السياسات. تُؤخذ على محمل الجد، وتُناقش، ويُوضع لها سيناريوهات محتملة. ما كان يُعتبر سابقًا هذيان طفل كبير، أصبح الآن افتتاحية مذكرات حكومية.
ولزيادة الطين بلة، فقد تفتت المشهد الإعلامي الذي كان يومًا ما قادرا على محاسبة الرئيس . كانت وسائل الإعلام التقليدية- رغم ضعفها- قادرة على المقاومة في ولايته الأولى. أما اليوم، فقد نشأت منظومة إعلامية بديلة ضخمة، تهدف إلى تطبيع أوهامه، وتقديمها على أنها عبقرية استراتيجية، وتشويه كل من يشكك بها بوصفه "عميلًا للعولمة".
جنون الرسوم الجمركية
ولا شيء أكثر خطورة من ذلك في مجال الاقتصاد. فهوس ترامب بالتعريفات المتبادلة- حله الكرتوني لاختلالات التجارة- قد يدفع بالاقتصاد العالمي نحو حافة الانهيار. "صيغته"، والتي قيل إنها اختيرت لأن النماذج الاقتصادية الحقيقية "مملة جدًا"، ليست سياسة، بل مجرد خدعة تسويقية. إنه خداع اقتصادي.
في الواقع، بلغ من السخف درجة أنه تم اقتراح فرض تعريفات على جزر نائية تسكنها البطاريق فقط، لأن الولايات المتحدة، تقنيًا، تعاني من عجز تجاري معها أيضًا.
لكن هذا ليس مجرد أمر مضحك. إنه أمر مهلك. ففي عالم يعاني أصلًا من صدمات تضخمية، وحروب، واتساع هوة عدم المساواة، قد تكون حرب ترامب التجارية هي القشة التي تقصم ظهر الاقتصاد. البنوك المركزية، والتي تُعتبر آخر خط دفاع، أصبحت بلا أدوات. بعد أزمة 2008، خفضت الفائدة إلى ما يقارب الصفر لتحفيز النمو. لكن تلك المعدلات لم تتعافَ أبدًا. واليوم، الصندوق أصبح فارغًا.
لنفهم الأمر ببساطة: في 2008، كنا نحاول الهبوط بطائرة معطوبة لكن لديها عجلات للهبوط. أما اليوم، فنحاول الهبوط بطائرة مشتعلة على طريق سريع، بدون عجلات، بدون مكابح، وقائدها يعتقد أن المطبات الهوائية مؤامرة.
الاحتياطي الفيدرالي، الذي يتعرض بالفعل لضغوط، أصبح هدفًا مباشرًا لترامب. لقد لمّح إلى إمكانية إقالة رئيسه، قبل أن يتراجع عن التهديد، لأنه لا يخفض الفائدة بسرعة كافية. هذه ليست تصرفات ديمقراطية عقلانية. بل هي استعراض عضلات لطاغية طموح.
وفي هذه الأثناء، تحصل الشركات الكبرى، خاصة عمالقة التكنولوجيا، على إعفاءات من التعريفات. أشباه الموصلات، والإلكترونيات، وكل ما هو حيوي للشركات العملاقة والمليارديرات، يتم استثناؤه. لكن ماذا لو كنت صاحب عمل صغير؟ أو مصنعًا؟ أو مستهلكًا من الطبقة العاملة؟ فأنت في ورطة. هذا ليس قومية اقتصادية؛ إنه تمثيل استعراضي للسرقة، حيث يمنحك الوصول إلى الملك فرصة الإعفاء من القانون.
من وول ستريت إلى تونس
الولايات المتحدة لا تعيش بمعزل عن بقية الدول، فقراراتها تترك صدى عالميًا. الأزمة المالية في عام 2008، التي بدأت في أسواق القروض العقارية الأمريكية، تسببت في تباطؤ اقتصادي على مستوى العالم. بعض الباحثين يرون أنها كانت عاملًا رئيسيًا في اندلاع الربيع العربي.
في تونس، كان اليأس الاقتصادي قد بدأ في الغليان: بطالة مرتفعة، نمو متراجع، ومستقبل ضائع. ثم جاء محمد البوعزيزي، بائع متجول تعرض للمضايقة من الشرطة، وأضرم النار في نفسه احتجاجًا. وقد أشعلت نيرانه المنطقة بأكملها.
غالبًا ما نتحدث عن الربيع العربي من زاوية سياسية. لكن جذوره كانت في اليأس الاقتصادي. وعندما تدخل الولايات المتحدة في ركود جديد،هذه المرة ليس بسبب قروض الإسكان، بل بسبب حرب رسوم جمركية يقودها نرجسي مهووس، فأي نوع جديد من اليأس سيتفشى؟ وأي شاب محبط، في أي بلد منكوب، سيشعل عود الثقاب التالي؟
لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل، لكن يمكننا الشعور بارتجاجاته.
الصين: "العاقل" في الغرفة
هذا الفراغ الهائل من الكفاءات، تتحرك الصين لتملأه. كانت مبادرة "الحزام والطريق" أولى خطوات بكين لإثبات نفسها كبديل عالمي للقيادة الأمريكية. لكن ترامب، من خلال سلوكه المتقلب، فعل من أجل تعزيز مكانة الصين عالميًا أكثر مما يمكن لأي دبلوماسي صيني أن يفعله.
بينما تغرد أمريكا، تبني الصين. بينما يهدد ترامب، يعرض نظيره الصيني قروضًا وبنى تحتية. نعم، يأتي ذلك بشروط. لكن عندما ينظر العالم إلى واشنطن فلا يرى سوى الفوضى، يبدو النظام الذي تقدمه بكين، حتى لو كان استبداديا، أكثر إغراء.
قد يكون حكم ترامب قد سرّع صعود الصين لعقد من الزمن، وربما أكثر. إنه لا يُدمّر الإمبراطورية الأمريكية. إنه يسلمها.
الثقافة تلتهم الحضارة
دعونا لا نخدع أنفسنا بالاعتقاد أن هذا الأمر يتعلق بالسياسة فقط. إنه يتعلق بالثقافة. ترامب ليس المرض؛ بل هو الطفح الجلدي. المرض الحقيقي أعمق: حضارة تكافئ العرض على المبدأ، والانتشار على الرؤية، والقسوة على الكفاءة. هذه نتيجة مجتمع أصبح مهووسًا حد الجنون باستعراضه الذاتي.
لقد بنينا مدرجًا رومانيًا... ثم تفاجأنا عندما بدأت الأسود بالفوز في الانتخابات.
قد يكون استعراض "جيري سبرينغر شو" قد انتهى، لكن حمضه النووي أصبح الآن مدموجًا بالحكم. المؤسسات أصبحت ديكورات لبرامج الواقع. الدبلوماسية أشبه بمصارعة WWE. وصناعة السياسة تقودها بالمشاعر، والميمز، ونقرات الغضب.
ما كان ترفيهًا، أصبح حُكمًا. وما كان لا يُصدق، أصبح يوم ثلاثاء عاديًا.
نحن لا نُحكم... نحن نخضع لجلسة تصوير!