ينشغل التفكير السياسي على المستوى العالم بتداعيات رسوم دونالد ترامب الجمركية وحربه التجارية ، لكن من المفيد أيضًا التفكير في محاولاته العشوائية لتحقيق السلام. فقد كانت ثلاث عواصم عربية هي المحطات الرئيسية التي اختارتها إدارة ترامب لاستضافة مفاوضات دولية، كل منها تتعلق بصراع مهم ، فهل يشير ذلك إلى تغير هيكلي في المدن التي تعتبر "قواعد" لصناعة السلام؟
أبرز هذه المحطات، هي العاصمة العمانية مسقط، ففي الحادي عشر من أبريل استضاف وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي محادثات نووية بين واشنطن وطهران، في إحياء لقناة الاتصال الخلفية التي نجحت في التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني عام 2015. بالطبع، تبدو الصورة مختلفة في عام 2025 ما يضع مهارات عمان في حل النزاعات أمام تحد جديد. فقد تخلّى ترامب عن الاتفاق السابق مع إيران بشكل فجّ، وقد عاد الآن إلى نفس المكان لإعادة التفاوض على اتفاق جديد. ولا بد أن مسقط تتساءل عن تدابير بناء الثقة التي تمكنها من إنجاح مثل هذا السيناريو.
محطة أخرى لـ"صنع السلام" ضمن محاولات ترامب هي العاصمة السعودية الرياض. فقد استضافت المملكة العربية السعودية المحادثات الأمريكية – الروسية في 18 فبراير الماضي، وهي الأولى منذ ثلاث سنوات. كما كانت مقرًا لاجتماع 11 مارس بين الولايات المتحدة وأوكرانيا بشأن إنهاء الصراع الذي أشعله الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا. وفي 23 مارس، عُقدت جولة المتابعة من المفاوضات الأمريكية مع أوكرانيا وروسيا في الرياض.
وفي هذه الأثناء، وبمعزل عن أي مبادرة من إدارة ترامب، تواصل قطر لعب دور رئيسي في المحادثات بين جمهورية الكونغو الديمقراطية والمتمردين المدعومين من رواندا (حركة( M23 في محاولة لوقف القتال في شرق الكونغو.
من اللافت للنظر هنا، وجود مثلث من "عواصم السلام" في الشرق الأوسط، أي المدن التي تروّج لدورها السابق أو الحالي في الوساطة وتسعى للاعتراف بها كمواقع طبيعية للمفاوضات العالمية الكبرى.
في الماضي، كان من المُسلَّم به تقريبًا أن تُجرى المفاوضات الدولية في دول مثل سويسرا. فقد استوفت هذه الدول المتطلبات الاستعمارية وما بعد الاستعمار لأنها تتمتع بالحياد، رغم أن العديد من المحللين يرون أن الوسيط الناجح لا يجب أن يكون محايدًا بالضرورة، بل قادرًا على التأثير، أو حماية، أو توسيع مصالح كل طرف في النزاع. وكان هناك أيضًا تصور بأن المواقع الغربية أكثر ملاءمة لتكون مدن سلام لأنها أكثر "تطورًا".
وتظهر دراسة أكاديمية شملت 39 معاهدة واتفاقًا وبروتوكولًا تم توقيعها بين عامي 1919 و1981، أن جنيف كانت صاحبة النصيب الأكبر بثمانية اتفاقيات، تليها واشنطن العاصمة وموسكو بستة لكل منهما، وحصلت باريس على ثلاث، ولندن على اثنتين. وبعد اجتماع هلسنكي الناجح عام 1975 لمؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، اكتسبت العاصمة الفنلندية أيضًا صورة دولية مماثلة لجنيف. كما أن النرويج، من خلال ترويجها النشط في التسعينيات للحوار الإسرائيلي–الفلسطيني، ومنظماتها غير الحكومية، ونشاطها في الإغاثة الإنسانية، والمراقبين الحقوقيين، حظيت بسمعة محترمة كوسيط دولي. لكن العالم يتغير.
"صانعو السلام" العرب
فماذا يعني أن تستضيف دولة عربية في الوقت الراهن جهود الوساطة الدبلوماسية التي يقودها أمريكيون بشأن حرب أوروبية؟ وكيف يمكننا فهم واقع أن دولة خليجية تشارك في السعي لحل صراع بعيد في وسط أفريقيا؟ الإجابة على السؤال الثاني تبدو أسهل من الإجابة عن السؤال الأول.
قطر لديها مصلحة مباشرة في هذا الملف الإفريقي إذ أن لديها استثمارات كبيرة في رواندا، وتفكر في استراتيجية نمو في جمهورية الكونغو الديمقراطية ومنطقة البحيرات العظمى الإفريقية ككل. لكن في الوقت نفسه، لدى قطر حضور في ما يمكن تسميته "صناعة السلام"، بما في ذلك في أفريقيا. فقد توسطت قبل ثلاث سنوات في اتفاق بين المتمردين والحكومة الانتقالية في تشاد. وفي صراع الشرق الأوسط، لطالما لعبت قطر دور الوسيط بين حركة حماس وإسرائيل. كما استضافت قطر المحادثات مع حركة طالبان التي أسفرت عن اتفاق الدوحة عام 2020 لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان.
أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية، فإن تفضيل ترامب الشخصي للمملكة وقيادتها موثق جيدًا. وفي ولايته الثانية، يعتزم ترامب أيضًا تمييز الرياض كأول محطة خارجية يتوجه إليها. وسواء حظيت السعودية بموافقة رئاسية أم لا، فإن من الصحيح القول بأن السعودية قامت بالكثير خلال السنوات الثلاث الماضية لترسيخ حيادها في ما يخص الصراع الروسي الأوكراني. فقد انتهجت المملكة سياسة "الحياد الإيجابي"، مما مكنها من إدانة العدوان العسكري الروسي علنًا باعتباره انتهاكًا للقانون الدولي، مع رفضها في الوقت ذاته الانضمام إلى المحاولات الغربية لمنع روسيا من بيع نفطها في الأسواق العالمية. كما أن الرياض تتعاون مع روسيا في إطار "أوبك+"، لكنها استضافت أيضًا الرئيس الأوكراني في قمة جامعة الدول العربية لعام 2023.
في غضون ستة أشهر من غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير 2022، شارك ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في جهود ناجحة للإفراج عن عشرة أسرى حرب أجانب كانوا محتجزين لدى وكلاء روس في أوكرانيا. كما عرض مرارًا التوسط بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
تحاول السعودية أيضًا، وعلى غرار قطر، تعزيز قدراتها في الوساطة على جبهات أخرى. فقد عملت مع الإمارات العربية المتحدة للتوصل إلى اتفاق سلام بين إريتريا وإثيوبيا في عام 2018، منهية أكثر من عشرين عامًا من الحرب. وخلال رئاسة بايدن، توسطت السعودية والولايات المتحدة في أول هدنة رسمية، وإن كانت قصيرة الأمد، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
فهل أصبح صانعو السلام الجدد موجودين في الشرق الأوسط؟ إنها فكرة جريئة ومثيرة للجدل لأسباب متعددة، ليس أقلها أن هناك نقصًا في الأدلة على أن وسطاء السلام الإقليميين الجدد منخرطون بصدق، أو راغبون، أو قادرون على حل النزاعات الأقرب إلى ديارهم.
لكن دعونا نأخذ في الاعتبار كلمات الدبلوماسي الأمريكي الراحل هارولد سوندرز، الذي يُنسب إليه الفضل في صياغة مصطلح "عملية السلام" في سياق المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية. ففي عام 1991، قال سوندرز: "عندما لا تعود العدسات القديمة قادرة على جلب انتباه العالم، ولا تصف المفردات التقليدية الواقع بدقة، فإن من الواقعي والحكمة أن نصقل عدسات جديدة ونقدم لغة جديدة". فهل يكون دور وسطاء السلام الجدد في الشرق الأوسط هو تحضيرنا لرؤية العالم والتحدث عنه بطرق جديدة؟
هذه الدول العربية الثلاث لديها وجهات نظر مختلفة تمامًا عن مواقع السلام التقليدية السابقة. فهي ليست ديمقراطيات، وترى العالم من خلال منظور ثقافي مميز متأثر بالدين الإسلامي. كما أن حداثتها جاءت في الأساس بعد العصر الصناعي. ومما لا شك فيه أن هذا يوفّر عدسات ولغة جديدة في عالم الدبلوماسية.
رشمي روشن لال، حاصلة على درجة الدكتوراه، تكتب في الشؤون الدولية وتعمل محاضرة في جامعة جولدسميث في لندن. وتدوّن في موقع www.rashmee.com