في الذكرى العشرين لاغتيال رفيق الحريري دُعي علي أومليل لإلقاء محاضرة ببيروت عن الدلالة الخاصة لإحياء هذه الذكرى هذه السنة بالذات. فقد سقط نظام بشار الأسد المتهم باغتيال الحريري، وحزب الله الذي اتهمت المحكمة الدولية الخاصة بعض عناصره بالضلوع في عملية الاغتيال قد اضطر بعد الضربات التي تلقاها من إسرائيل إلى قبول قرار مجلس الأمن القاضي بنزع سلاحه والتسليم بانتخاب رئيس جمهورية دشن عهدًا جديدًا لا رقابة للحزب عليه.
وقد حضر هذه المحاضرة شخصيات لبنانية منها رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة ونائب رئيس الحكومة الحالية طارق متري ووزير الثقافة حاليا غسان سلامة، كما حضرها السفير السعودي وليد البخاري.
في شهر فبراير من العالم الجاري مضى على اغتيال الرئيس رفيق الحريري عشرون عاماً. وهي ذكرى تختلف أيّما اختلاف هذا العام. ويكفي أن نذكر ما حلّ بالثنائي المتهم باغتيال الحريري: فبشار الأسد قد سقط نظامه ولاذَ بالفرار. وحزب الله قد اغتيل أمينه العام وعدد من قادته وقُطعت طريق إمداده بالسلاح عبر سوريا كما نزعت منه السيطرة على المطار والميناء والمعابر، فاضطر إلى قبول قرار مجلس الأمن بنزع سلاحه وخضوعه لآلية مراقبة تنفيذ هذا القرار. وانتُخب رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء ليسا من صُنعه.
حين عاد رفيق الحريري عودة نهائية إلى لبنان ليخوض فيه غمار السياسة وليصبح أهمّ زعمائها حققت عودته هاته شيئين:
أولا: إعمار لبنان خاصة عاصمته بيروت بعد الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية التي امتدت عقدا ونصف، فكان أكبر إعمار في أقصر وقت في لبنان.
ثانيا: خاض غمار السياسة اللبنانية وبلغ فيها ما لم يبلغه قائد سياسي آخر إذ صار أقوى شخصية سياسية سواء داخل لبنان أو في علاقاته الخارجية الوثيقة مع كبار العالم. وبسبب نجاحه هذا الذي لا يضاهى تربّصوا به فاغتالوه اغتيالا كان بمثابة زلزال ضرب لبنان وترددت هزاته خارجه.
زرته أياماً قبل حادث التفجير الذي أودى بحياته وسط بيروت التي أعاد إعمارها. أذكر أن الحديث كان عن الانتخابات التي كان لبنان مقبلا عليها. لقد كان واثقا من أنه سوف يكسبها وستكون له الأغلبية في البرلمان. ودَّعته وأنا أتساءل في قلق: هل مسموح أن تكون للحريري الأغلبية في البرلمان المقبل، والحال أن البرلمان هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية ويمدد له، وكان الخلاف آنذاك قد بلغ مداه بين الحريري ورئيس الجمهورية إيميل لحود الذي قرر الرئيس السوري بشار الأسد التمديد له، وأيضا فبرلمان أغلبيته حريرية يمكن أن يتخذ قرار إنهاء الاحتلال السوري للبنان. الغالب أن قرار اغتيال الحريري قد اتُّخِذ حين أصدر مجلس الأمن القرار رقم 1959 القاضي بإخراج الجيش السوري من لبنان وبنزع سلاح مليشياته أي بنزع سلاح حزب الله، لاسيما وأن المعنيين بالقرار أي النظام السوري وحزب الله اتهما رفيق الحريري بأنه كان وراء استصدار قرار مجلس الأمن المذكور.
حين خاض رفيق الحريري غمار السياسة اللبنانية واجهه عائقان: الطائفية السياسية وسيطرة النظام السوري المتحكّم في لبنان.
العائق الأول بنيوي لأن النظام الطائفي عريق في لبنان ضارب جذوره في بنيته الاجتماعية والسياسية. إن مساوئ هذا النظام الطائفي اللبناني كثيرة، إلا أن سيئته الكبرى هي أنه يشطر لبنان شطرين متنافرين: لبنان الحداثة، بفضل نظامه التعليمي ومستوى جامعاته وانفتاحه الاقتصادي ونوعية نخبته المتمكنة من أفضل المعارف والمهارات التي تتيح لها الاندماج في عالم اليوم، وحيوية رأسماله البشري في الداخل والشتات. لكن مع لبنان الحداثة هذا هناك لبنان آخر، لبنان العتيق بنظامه الطائفي، والذي معه لا دولة مدنية ديمقراطية ممكنة لأن النظام الطائفي هو نقيضها:
- ففي الدولة المدنية الديمقراطية تكون المواطنة هي الهوية الجامعة، وليس الهويات الطائفية.
- واستقلال القضاء هو عماد الدولة المدنية الديمقراطية، في حين أن القضاء في الدولة الطائفية مناصبه محاصصة بين الطوائف.
- وهوية الأفراد الطائفية في النظام الطائفي تحدّد سلفاً وجودهم. وعلاقاتهم الاجتماعية مطبوعة بهويتهم الطائفية؛ والتي ترسم الحدود لمسارهم السياسي.
لذا فإن مشكل اللبنانيين العميق هو توزعهم بين هذين اللبنانين، الحداثي والعتيق. ورهان لبنان -أو ما ينبغي أن يكون- هو أن يكون واحداً ومتعدداً، ليس التعددية التي هو عليها الآن، أي التعددية العتيقة الطائفية والمذهبية، بل التعددية بمعناها الديمقراطي الحديث، تعددية الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنابر الرأي.
أما العائق الثاني الذي واجهه رفيق الحريري وهو يخوض غمار السياسة فهو النظام السوري الذي كان يمسك بخناق لبنان. فالطبيعة الاستبدادية لهذا النظام لا تقبل من أي سياسي لبناني سوى التبعية المطلقة.
ليس هذا وحسب، بل إن النظام السوري السابق كان هو النقيض الشامل للبنان، فهما نقيضان في نظام الاقتصاد الذي هو منفتح في لبنان ومنغلق موجّه في سوريا، ونقيضان في مستوى نظام التربية والتعليم ومستوى الجامعات، ونقيضان في هامش حرية الرأي والنشر في لبنان ومنعها أو مراقبتها في سوريا. والمفارقة أن النظام السوري وهو الحاكم المتحكم في لبنان كان هو نفسه الذي يصدّر إليه أفواج العاطلين، وهو الذي كانت تأتي طبقة أعيانه إلى لبنان للاستشفاء في مستشفياته، وفي مصارفه تُودع أموالها.
إن سرّاء لبنان وضرّائه يأتيان من محيطه. فلحقبة طويلة امتدت من الربع الأخير من القرن التاسع عشر إلى سبعينات القرن الماضي عشية اندلاع الحرب الأهلية ظل لبنان مطلوباً له جاذبية لدى محيطه. ففي مصرالتي كانت لها ريادة النهضة العربية ساهمت نخبة من اللبنانيين في إرساء معالمها الثقافية. وكان للصحافة اللبنانية جاذبيتها وتأثيرها خارج حدود لبنان بفضل هامش الحرية والمهنية. كما أن للإعلاميين اللبنانيين الفضل في تأسيس وإدارة عدد من المنابر الإعلامية في عدد من البلدان العربية.
لكن ومنذ سبعينات القرن الماضي انقلبت علاقة لبنان بمحيطه. فلبنان الذي ظل لعقود طويلة منفتحاً ومطلوباً من محيطه انقلب هذا المحيط ليصبح مصدر الخطر على كيانه. ويكفي النظر في خريطة لبنان: ففي شماله وشرقه سوريا التي كان نظامها يمسك بخناقه. وفي جنوبه إسرائيل التي عانى لبنان من عدوانها المتعاقب منذ أن طردت إليه عدداً هائلاً من فلسطينيي النكبة عام 1948. وهناك إيران البعيدة جغرافيا لكنها منذ الثورة الخمينية أصبحت بسبب النظام الطائفي للبنان لاعباً أساسيا في ساحته السياسية.
إن معارضي إيران يعارضونها لأسباب، منها تصدير ثورتها الخمينية خارج حدودها وأطماعها في الهيمنة في المنطقة معتمدة على أتباعها من المتمذهبين بمذهبها الشيعي الإثني عشري وولائهم لولاية الفقيه. لكن الذي لحق لبنان من النظام الإيراني كان أفدح: فقد تغلغل في نسيجه الاجتماعي والسياسي لدرجة استئصال قسم من شعبه وإلحاقه بإيران إلحاق التبعية المطلقة. وهذا الإلحاق عائق أساس لقيام الدولة الوطنية واستقرارها في لبنان للأسباب التالية:
- فلا مجال لرسوخ شعور وطني الذي هو ولاء للوطن وللدولة الوطنية، لأن ولاء أتباع إيران في لبنان إنما هو لإيران ولمرشدها الأعلى، وليس حصريا لدولتهم الوطنية ولمؤسساتها.
- ولا مجال لقيام هوية وطنية جامعة أي هوية المواطنة العابرة للهويات الخاصة كالهوية المذهبية، لأن الهوية المذهبية هي الهوية الحصرية لأتباع إيران في لبنان.
- ولا ضمان للسيادة الوطنية التي هي من مقومات الدولة الوطنية. وذلك لأن الطوائف في النظام الطائفي يستقوى بعضها على بعض باستدعاء تدخل قوى خارجية، وحزب الله هو الأكثر استقواء بالخارج أي بإيران، وما يفتأ قادة هذا الحزب يعلنون على الملأ ولاءهم لإيران ولمرشدها الأعلى.
أما جوار لبنان الجنوبي أي إسرائيل فلم يأته منها سوى الشر منذ العام 1948، عام النكبة حين طردت آلاف الفلسطينيين إلى لبنان. ومنذ ذلك الحين أصبحت القضية الفلسطينية شأنا داخليا لبنانيا ورقماً أساسياً في المعادلة السياسية اللبنانية.
وقد أنشأت إيران حزب الله لتجعل منه رأس حربة صراعها مع إسرائيل. وبنى هذا الحزب وجوده السياسي على شرعية المقاومة لاحتلال إسرائيل أجزاء من جنوب لبنان. وهي مقاومة جعل حزب الله نطاقها الجغرافي يتجاوز حدود لبنان لأنها مقاومة من أجل القضية الفلسطينية ولتحرير القدس. وحين أطلقت حماس طوفانها الأقصى في السابع من أكتوبر عام 2023 دخل حزب الله في مواجهة مع إسرائيل إسناداً لحماس في حربها الدائرة مع إسرائيل في غزة. ثم كانت النتيجة هي ما نعرف: اغتيال قيادة حزب الله وعلى رأسها حسن نصر الله الأمين العام الذي لا يعوض، وتدمير القدرات العسكرية والبشرية لهذا الحزب وهو ما اضطره إلى قبول قرار مجلس الأمن القاضي بنزع سلاحه ومراقبة تنفيذ هذا القرار من قبل لجنة يرأسها ضابط أمريكي!
ولأول مرة منذ حقبة طويلة انتخب اللبنانيون رئيسا للجمهورية ليس من صنع حزب الله، كما انتخب رئيس للحكومة من خارج البيئة السياسية اللبنانية المعهودة، فساد شعور لدى اللبنانيين أو غالبيتهم أن لبنان سينصرف أخيراً إلى شأنه الوطني نائيا بنفسه عن المحاور التي جعلت منه ساحة لصراعاتها. لكن لتحقيق ذلك لابد من توافق اللبنانيين على حياد لبنان، وأن تستقر الأوضاع في سوريا. لكن هل ستترك إسرائيل لبنان للانصراف لشأنه حتى ولو توافق اللبنانيون على حيادهم واستقلالهم؟ كل القرائن تدل على أنها لن تترك لبنان لشأنه، بل ستسعى إلى أن تفرض عليه تطبيعا لن يكون في حقيقته سوى استتباعاً.