أسس قيام دولة إسرائيل لقطيعة في التراث اليهودي الناطق والمكتوب بالعربية، ذلك التراث الذي ازدهر وأبدع غناء وفلسفة وشعرا ونثرا لقرون طويلة، بينما كان اليهود في أوروبا يعانون التمييز والاضطهاد طوال نفس القرون. لكن قيام إسرائيل كفكرة صهيونية اشكنازية في الأساس، وإلحاحها على استقطاب غالبية التجمعات اليهودية العربية كخزان بشري لمشروعها التوسعي في فلسطين التاريخية، جعل من يهود البلاد العربية مواطنين في المرتبة الثانية للأوروبيين، وقطع سياق إنتاجهم الفكري ضمن تيار الثقافة العربية الإسلامية. وعلى سبيل المثال يجادل الكاتب الإسرائيلي عراقي الأصل، شمعون بلاص (1930-2019) بأن إسرائيل كانت معنية بقطع الصلة بين اليهود المزراحيين (يهود الشرق الأوسط وشمال إفريقيا) مع الثقافة العربية التي كونت وعيهم، وهي القضية نفسها التي طرحها عالم الاجتماع الإسرائيلي عراقي الأصل يهودا شنهاف في مؤلفه "اليهود العرب" والذي تحدى فيه سطوة الحركة الصهيونية للفصل بين كل ما هو يهودي وعربي.
لكن وجود اليهود في الحضارة العربية الإسلامية وتفاعلهم فيها كغيرهم لم يقتصر على فترة زمنية أو منطقة واحدة في جغرافيا الحضارة الإسلامية، بل امتد من العراق إلى الأندلس كما يبين الدكتور، احمد شحلان أستاذ الدراسات العبرية وعضو أكاديمية المملكة المغربية في هذا المقال المأخوذ من ورقة بحثية مطولة حول الموضوع.
المعارف والنظر في اليهودية قبل الإسلام
لم تتجاوز المعارف اليهودية قبل الإسلام، الموروثَ اليهودي المتمثل في كتاب "العهد القديم" وعلومه، من لغة وتفسير وتشريع وما تمثل في التلمودَين البابلي والفلسطيني، لاستنباط القضايا التشريعية ومجريات التاريخ. وظلت هذه الدراسات كلاسيكية منعزلة عن العلوم التي شغلت أهل المجتمعات التي عاش اليهود بين ظهرانيهم، سواء فيما بين النهرين (العراق)، أو الشام، أو الجزيرة العربية، أو شمال إفريقيا ،أو البلاد الغربية التي استقر بها اليهود بعد الشتات.
وظلت معارف اليهود أيضاً منعزلة عن ثقافات الشعوب التي عاشوا بينها، بسبب النظرة التمييزية من تلك الشعوب لليهود من جهة، وبسبب مانع عقدي لدى اليهود منعهم من المشاركة في تلك الثقافة باعتبارها وثنية أو تثليثيه. لكن هذا لم يحدث في المجتمعات الإسلامية، نظراً لتناظر الأصول العقدية اليهودية والإسلام. فأقْبل اليهود الذين ضمتهم بلاد الإسلام، بل ومن كان في غير بلاد الإسلام فيما بعد، على معارف الإسلام كلها على الرغم من بعض اعتراضات الأحبار، خاصة وأن اللغة العربية كانت جامعة لمن ضمتهم البلدان العربية الإسلامية من يهود وغيرهم.
وهكذا نجد معارف اليهود الأولى في الشرق والغرب الإسلاميين، ترتبط أولا بعلوم التوراة، إذ اهتموا بتفاسيرها تبعاً للمذاهب الكلاسيكية والكلامية الإسلامية. ونهج الرِّبِّيون منهم، وهم سدنة النهج التقليدي، نهج العلماء المسلمين الذين تشبثوا بعلوم النقل ولم يحيدوا عنها. في حين أن اليهود القرائين الذين نشأوا في بيئة بغدادية مسها الكثير من علم اليونان نهجوا نهج أساتذتهم المعتزلة، وحكَّموا بناء على معارفهم، العقلَ ورفضوا التلمود وتوابعه. بل لا نعدم في هذا التوازي المعرفي، مذهباً يهودياً في اليمن تأثر بمذهب الشيعة الزيدية.
علوم التفسير
ومن أوائل العلوم التي سار فيها يهود البلاد الإسلامية على نهج المسلمين، علم التفسير، وكانوا فيه مذهبين:
أولا: مذهب القرائين، أي الذين لا يؤمنون إلا بالعهد القديم (التوراة)، وتأثر فيه أصحابه بمذهب المعتزلة وساروا على نهجهم. ومن أعلامهم أبو الحسن يافت بن علي البصري، الذي عاش في بيت المقدس في المنتصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، ومن أهم آثاره ترجمته العهد القديم إلى اللغة العربية، وكذا تفسيره الذي حرّره باللغة العربية لغةً وخطًّا. وأيضا يوسف البصير الذي عاش بفلسطين خلال القرن الحادي عشر الميلادي. ومن مؤلفاته كتاب المحتوى الذي وضعه بلغة عربية على عادة علماء اليهود في أرض الإسلام.
ثانياً: مذهب الرِّبيين من أشهر العلماء الربيين سعديا گؤون الفيومي (882-942م)، وهو الذي أنجز في حضن الثقافة العربية الإسلامية، أول ترجمة عربية للعهد القديم، وسماها "تفسير التوراة بالعربية" ولم يسمها ترجمة. وكَتبها بحروف عربية ليتمكن حتى أولئك الذين لا يستطيعون قراءة الحرف العبري، يهودًا أو غير يهود، من الاطلاع عليها. وجُل هؤلاء ألفوا بالعربية بخط عبري، إلا أعلام القرائين فقد ألفوا بالعربية لغة وخطًا. ونذكر من بين المفسرين أبرهام بن عزرا الططيلي القرطبي (1089م-1164م)، وبدأ مشروع تفاسيره لما انتقل إلى شمال أوروبا ووجد أبناء دينه يفتقرون كثيرا من المعارف التي كانت نهجًا متبعًا عند إخوانهم في شرق وغرب الإسلام. وكان أول من تجرّأ في تفاسيره على ما كان من الممنوعات عند الرِّبيّين قبله. وقد يكون هذا بتأثير من ابن حزم الذي اشتهر بمناقشاتهم العلمية الرصينة مع يهود الأندلس خاصة في قرطبة التي ولد فيها ابن عزرا بعد وفاة ابن حزم بسنوات قليلة. ولعله لذلك كان هو من فتح الطريق لسبينوزا الذي يعتبر أول وأجرأ من انتقد التوراة من يهود أوروبا. وسبينوزا يعترف باطلاعه على تفاسير ابن عزرا. وباعترافه هذا، يعترف بتأثير ابن حزم القرطبي في مذهبه، ويكاد نقده للعهد القديم يكون نسخة من نقد ابن حزم.
لم يقتصر التفسير في الأندلس على نص التوراة (العهد القديم)، ولكنه شمل أيضاً وبالعربية نص التلمود. وقد أشار إلى ذلك أبرهام بن داود كوهن، في كتابه (كتاب الأسانيد) حيث ذكر أن الربي (الحاخام) يوسف بن إسحق بن شطناش، المعروف بابن أبيتور، ترجم التلمود باللغة العربية للحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر (985-1021) لما سافر من الأندلس إلى مصر..
الدراسات النحوية
وعلى الرغم من وجود دراسات نحوية لغوية قديمة لدى يهود البلاد العربية، إلا إنها لم تزدهر إلا في حضن الثقافة الإسلامية، فتنوعت إلى مدارسَ بغدادية أو بصرية أو أندلسية. وتأثرت الدراسات النحوية اللغوية بالمنهج العربي الإسلامي، وتعدّدت القراءات في النص التوراتي، كما تعددت في النص القرآني. ومن هنا وضعت الأسس لعلم القراءات في اللغة العبرية. واختلاف القراءات أدى إلى ظهور مشكلة الناسخ والمنسوخ في النص التوراتي، كما كان في النص القرآني.
وقد بدأت الدراسات النحوية الحقة مع علماء اليهود الذين تمكّنوا من الثقافة العربية الإسلامية. ولم يظهر كبار اللغويين والنحويين اليهود إلا في الغرب الإسلامي (شمال إفريقيا والأندلس). وأول نحوي وضع كتاباً شاملا على الإطلاق هو مروان بن جناح القرطبي (ق.11م) وعنوان كتابه الشامل في النحو واللغة هو كتاب التنقيح وألفه بالعربية بحروف عبرية، ومرجعه كتاب سيبويه.
وثاني النحاة ممن وضعوا كتاباً شاملا في النحو واللغة، أبو إبراهيم إسحق ابن برون السرقسطي المالقي (ق. 11م-12م)، وعنوان كتابه: الموازنة بين اللغة العبرانية والعربية، وقد كتبه باللغة العربية وبالحرف العبري. وأتى في الكتاب بكثير من الشعر العربي القديم والأحاديث والقرآن والحديث والأمثال العربية.
أما الكتابات الفقهية والتشريعية اليهودية في ظل الحضارة الإسلامية فقد تفرعت إلى مذهبين: مذهب القَرَّائِين، ومذهب الرِّبِّيين. وكانت العراق منبت مذاهب القرائين، ووضعوا كتبهم باللغة العربية لغة وحرفاً، ومن أعلام المذهب الربي أيضا موسى ابن ميمون (1135-1204م) وَليدُ قرطبة، الذي سكن بفاس ثم في مصر. وقد ألّف جل كتبه بالعربية وكتبها خطًّا بالحرف العبري..
وقد كان للتصوف الإسلامي أثره البالغ في نشأة وتطور التصوف اليهودي، وأول كتاب في التصوف اليهودي على الطريقة الإسلامية ألفه يحيى بن ياقودا الأندلسي وكتبه بعربية فصيحة بحروف عبرية على عادة أعلام اليهود في الشرق والغرب الإسلاميين. وقد اعتمد خاصة كتاب الغزالي إحياء علوم الدين. وقد أورد فيه من القرآن والحديث، وكثيرا من المأثورات العربية والإسلامية. وكان له اطلاع واسع على مؤلفات في التصوف الإسلامي.
الشعر والشعراء
التراث العربي الأندلسي مليء بالإشارات إلى ما بلغه يهود الأندلس من حظ في المعرفة والغوص في الثقافة العربية الإسلامية ومداخلة مشهوري أعلام الفكر. وورثت فيهم عائلاتٌ قولَ الشعر والإجادة فيه، من ذلك آل حسداي، وهم كثر. وكان أشهرُهم وأشعرهم أبا الفضل حسداي بن يوسف، وقد أرخت له جل مؤلفات الغرب الإسلامي، كطبقات الأمم لصاعد الأندلسي، وقلائد العقيان للفتح بن خاقان، والمغرب في حلى المغرب لابن سعيد، ونفح الطيب للقري، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام، والمطرب في أشعار المغرب لابن دحية، وعيون الأنباء في طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة. وأوردت هذه المؤلفات مقتطفات رائعة له من قول الشعر، كما أوردوا له ترسلات بديعة حلقت بعيدًا في ضروب صور البديع. كما ذكر ابن بسام الشنتريني في كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، عدداً من شعراء يهود الأندلس. ولم تذكر لهم هذه الكتب إلا أشعارهم بالعربية وحسب. كان بجانب هذه الطبقة، شعراء آخرون اشتهروا بقول الشعر باللغة العبرية على سنن الشعر العربي أوزاناً وقوافي ومواضيع ومنهاجاً، وسلكوا فيه مسالك البيان والبديع العربيين. وقد تتبعتْ مؤلفات الشعر العبري التي ألفها يهود، مسارَ هؤلاء الشعراء في الأندلس.
من بين هؤلاء يهود الحريزي المولود بالأندلس في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، و كان شاعراً ومؤلف مقامات اقتدى فيها بمقامات الحريري وترجم مقاماته إلى العبرية، كما ترجم من العربية إلى العبرية كتبا لفلاسفة مسلمين ونظم الشعر بالعربية والعبرية. كما تأثر بمقامات بديع الزمان الهمداني.
ومن كبار شعراء اليهود الأندلسيين يهودا اللاوي، الذي اعتُبر أمير شعراء اليهود في الأندلس. ولد بطليطلة قبل سنة 1075م، وتربى تربية عربية عبرية على عادة أبناء العائلات اليهودية الموسرة. نظم بعض أشعاره بالعربية، غير أنه كان مكثراً في النظم باللغة العبرية. وله موشحات استعمل في أقفالها العامية الأندلسية واللغة الإسبانية.
المعارف الفلسفية وعلماء الكلام
يهود الأندلس هم من ألّفوا أكثر في الفكر الفلسفي، وكانوا فيه واسطة بين الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي. واصطبغت المدرسة الفلسفية اليهودية في حضن الثقافة العربية الإسلامية بنفس صبغة المدرسة العربية الإسلامية، بل تبنت مفاهيمها المحدِّدَة لمسارها الفكري، وانقسمت إلى مدرسة غزالية ومدرسة رشدية كما كان فيها أتباع لأفلاطون وأرسطو أو الأفلاطونية المحدثة اقتداء بالفلاسفة المسلمين.
وتعتبر الأندلس المنبت الحقيقي للعلوم الفلسفية عند اليهود. فبعد أن قرأوا فلاسفة الإسلام وبعد أن نقلوا كثيراً من نصوصها إلى الحرف العبري ليضفوا عليها القداسة الواجبة لتصبح مقبولة في مُجمع التراث اليهودي، طعَّموا بها كتبهم الدينية لتصبح في مستوى شبيهتها في التراث الإسلامي. ولم تخل منها كتبهم التفسيرية كتفاسير سعديا گؤون الفيومي أو أبرهام بن عزرا. أو كتبهم اللغوية ككتب مروان ابن جناح. أو أشعارهم، كشعر ابن گبرول ، أو كتبهم النثرية كتحارير يهودا الحريزي، أو كتبهم النقدية ككتاب المحاضرة والمذاكرة، أو كتبهم الصوفية كالهداية إلى فرائض القلوب.
وأعلام اليهود المهتمين بالفلسفة في الغرب الإسلامي كثر. ومنهم: يهودا اللاوي التطيلي وإليعزر بن نحمان بن أزهر المرسي، ويوسف بن الصديق، وأبرهام برحِيا، وأبرهام بن داود. وهو من الذين بدأوا بنقل الفلسفة الأرسطية إلى الفكر اليهودي، وموسى بن ميمون أهم هؤلاء الفلاسفة ومؤلف كتاب اشتهر كثيرا هو كتاب دلالة الحائرين كتبه بالعربية وبحروف عبرية مثله مثل علماء اليهود بالأندلس. وقد أصبح الكتاب توراة الفلسفة عند اليهود، حوله يدور الدرس والنقاش والمجادلة، ورغم أنه لم يذكر مراجعه إلا نادراً، فقد استخرج الباحثون مصادره التي نهل منها في كتابه ومنها كتب عربية عبرية، إذ اعتمد مؤلفات يهود مثل سعديا گؤون الفيومي وبحيى بن بقودا وسليمان بن جبرول ويهودا اللاوي وأبراهام بن بحيي بن داود وأبراهام بن عزره، وهؤلاء من الربيين. وأخذ عن القرائين كثيراً من آرائهم مع أنه كان ينتقدهم باستمرار. ونهل بواسطة الموسوعة الإغريقية الإسلامية، من أفلاطون وأرسطو وتامستيوس والإسكندر الأفرود يسي وفيثاغورس وإقليدس وبطليموس وجالينوس. والغزالي وابن باجة والفارابي وابن طفيل والرازي وابن رشد. واطلع على مذهب المتكلمين من معتزلة وأشعرية.
لم يبق هذا التراث اليهودي المتأثر بالثقافة العربية الإسلامية حبيس المنطقة التي عاشوا فيها، بل امتد خارجها و كان له أثره في شمال إسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا قبيل عصر النهضة وخلاله وبعده.