هل كان قادة حماس وهم يخططون للهجوم الكبير والمفاجئ الذي شنّوه في السابع من أكتوبر الماضي يدركون الزلزال الهائل الذي سيُحدثونه؟
لقد أعاد هذا الهجوم إلى الواجهة القضية الفلسطينية بعد أن نسيها العالم وتناساها العرب. إلا أن ما يثير الانتباه هو الموجة العارمة في الغرب لنصرة إسرائيل - ولو أنها آخذة في الانحسار مع توالي مشاهد الدمار الشامل والقتل بالجملة.
إن للغرب بالقضية الفلسطينية علاقة خاصة. فإذا كانت قضايا العالم بالنسبة إليه قضايا خارجية، فإن هذه القضية قضية داخلية تثير انقساما عميقا في مجتمعاته. لكن الملاحظ أن تحولا في البنية السياسية والاجتماعية حدث في عدد من بلدان الغرب كان له أثره البالغ في الموقف من القضية الفلسطينية: وهو ضعف القوى التي كانت تناصرها؛ أي الأحزاب اليسارية والتقدمية والمنظمات الحقوقية والشخصيات ذات القيم المتحررة لتتصاعد قوى اليمين خاصة الشعبوي المتعصب. ومعلوم أن مبرر الصعود السياسي لهذا اليمين الشعبوي هو الحضور البارز الذي أصبح للمهاجرين وسلالتهم من بلدان إسلامية في عدد من البلدان الأوربية. فهؤلاء في نظر هذا اليمين الشعبوي يهددون هوية الغرب ومؤسساته وقيمه الثقافية. لذلك فهو إذ يساند إسرائيل بقوة في حربها على غزة فبسبب عدائه للمسلمين في بلاده والذين لا يعتبرهم مواطنين ولو حملوا الجنسية لأن الجنسية عنده لا تعني المواطنة.
هذه حرب إبادة جماعية مع سبق إصرار. حرب وضعت على المحك كل ما نصّ عليه القانون الدولي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. بل إن القضية الفلسطينية نفسها ومنذ النكبة وضعت على المحك كل موايثق حقوق الإنسان. أليس العام الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) هو نفسه عام النكبة؟
إسرائيل دولة أنشئت باسم حق اليهود في العودة إلى أرض موعودة بوعدٍ جاء في التوارة. لكن متى كان كتاب ديني ولو كان مقدساً وثيقة ملْكية عقارية؟ أما الفلسطينيون الذين طردوا بالأمس القريب فقط من أرضهم وممتلكاتهم ويملكون وثائق ملكية عقارية حقيقية فلا حقَّ لهم في العودة!
إسرائيل وهي مدينة بإنشائها وبقائها للغرب لها به علاقة خاصة لا تشبه غيرها من العلاقات، وذلك لأسباب ثلاثة: أولا، اشتراك إسرائيل دينيا مع الغرب المسيحي في العهد القديم من الكتاب المقدس. ثانيا، المحرقة التي دفع الغرب "ديتها" بإنشاء إسرائيل على أرض الفلسطينيين وحمايتها مهما اقترفت. ثالثا، وجود طوائف يهودية في بلدان الغرب لها النفوذ الكبير في السياسة والإعلام والمال والثقافة تُسخّره لخدمة إسرائيل.
والسؤال: إلى متى ستظل إسرائيل معتمدة على سندها الأول وهو الغرب؟ إن قوة الدول والإمبراطوريات تتبدّل وتتداول، أي أن لها عمرها الافتراضي. فإلى متى سوف يرتبط عمر دولة إسرائيل بعمر قوة الغرب بقيادة الولايات المتحدة؟ إن هناك آسيا الصاعدة وفي مقدمتها الصين، وهي ليس لها مع إسرائيل أواصر وثيقة كتلك التي تربط الغرب بإسرائيل. فالأديان والعقائد الآسيوية ليس لها أي صلة بالكتاب المقدس الذي هو صلة قُربى دينية بين اليهودية والمسيحية، وليس بآسيا طوائف يهودية تشكّل مجموعات ضغط لصالح إسرائيل كما هو الحال في بلدان الغرب. وليس لآسيا أي علاقة بالمحرقة وذاكرتها الشقية حتى تكفّر عنها كما يكفر الغرب بإنشائه ودعمه المطلق والمستمر لإسرائيل. فهل ستجد إسرائيل في المستقبل دائما كما وجدت عقب "طوفان الأقصى" دولة مثل أمريكا تحرك من أجلها أساطيلها وتفتح لها مخازن أسلحتها وتُغدق عليها ملايير الدولارات؟ وهل ستجد كما وجدت في الغرب رؤساء دول وحكومات يهرولون نحوها تعبيراً عن المساندة المطلقة كما حصل بعد السابع من أكتوبر؟
لقد مضى أكثر من سبعين عاماً على وجود إسرائيل وما اندمجت إطلاقا كدولة عادية بين دول المنطقة، فكيف ستندمج وهي التي تُصرّ على أن تكون دولة يهودية خالصة، وهي التي دائما يدها على الزناد لتفرض بالقوة أمراً واقعا ظالما ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة ومجلسها الأمني؟ وكيف ستندمج لتصبح دولة عادية في المنطقة بعد حربها المدمّرة على غزة؟ عمارات تُقصف وتتهاوى بالجملة، أكثر من مليون ونصف من سكانها بشيوخهم ونسائهم وأطفالهم هائمون على وجوههم تحت القصف بحثا عن ملجأ ولا ملجأ، وأطفال جرحى أو مبتورو الأعضاء أو في الأكفان محمولون على الأيدي، وجثث ملقاة في الشوارع، وقتلى مصفوفون على الأرض في الأكفان البيضاء والدفن بالجملة في حفر جماعية، ومستشفيات تحولت إلى ملاجئ تُحاصر وتُقصف، والعمليات الجراحية تُجرى بلا مخدِّر، والضحايا تجاوزوا الأربعين ألفاً عدا الجرحى والمعوقين والمدفونين تحت الأنقاض. فكيف سيُنسى هولوكوست غزة الذي اقترفته دولة مافتِئت تذكّر العالم بالهولوكوست الذي كان اليهود ضحيته؟ إن المحرقة جريمة ضد الإنسانية، ذلك لأن إسرائيل حولتها إلى ذاكرة ريع وابتزاز لتظل جرحاً غائرا في ضمير الغرب وليستمر الأحفاد يكفّرون عن جريمة اقترفها الأجداد.
لقد عادت القضية الفلسطينية لتحتل مركز الصدارة من بين قضايا العالم، ولتضع على المحك أكثر من أي وقت مضى القانون الدولي والنظام الحقوقي الإنساني. عادت لتطلق هبّة كبرى على مستوى العالم جعلت من الموقف تجاه القضية الفلسطينية معياراً للحكم على سياسات الدول تجاه إسرائيل وليكون الحق هو العدل وليس ما تفرضه بالقوة إسرائيل، وليتوقف اعتبارها وحدها من دون دول العالم لها العصمة والحصانة مهما تصرّفت كدولة سائبة.