ترجع بدايات السينما المصرية إلى عهد السينما الصامتة، والتي بدأت بتقديم بعض الأفلام الدعائية والتسجيلية البسيطة، إلى أن ظهر في 1923 الفيلم الروائي القصير الساخر «برسوم يبحث عن وظيفة» للمخرج محمد بيومي. لكن التأريخ لميلاد السينما المصرية يرتبط بتقديم أول فيلم روائي طويل. ومن الشائع أن يُذكر فيلم «زينب» للمخرج الكبير «محمد كريم»، الذي عُرض في 1930 كأول فيلم مصري طويل. فهذا ما تجده في كثير من المراجع ويتعلمه طلاب السينما. وورد في كتاب «مذكرات محمد كريم» الذي يتناول مسيرته الفنية، فقد جاء فيه نصًا أن «فيلم زينب هو الصفحة الأولى في كتاب السينما المصرية».
كان كريم قد عاد إلى مصر في 1926 من جولة في أوروبا، حيث عمل ممثلًا في أدوار صغيرة في إنتاجات سينمائية كبرى. ثم عمل في شركة «مصر للتياترو والسينما» التي أنشأها الاقتصادي الكبير طلعت حرب عام 1925، وكانت الشركة مكلَّفة بإخراج أفلام دعائية وتسجيلية قصيرة.
تجنب «كريم» الإشارة إلى الأفلام التي سبقت فيلم «زينب»، فبدت الساحة فارغة وكأنها تنتظر قدومه. ولكنه يفاجئ القارئ عند سرده أحداث العام 1950، حيث ينعى بإجلال كبير الفنانة «عزيزة أمير» مشيدًا بشجاعتها وبأنها أنتجت أول فيلم عربي، ذاكرًا بدقة تاريخ عرض فيلمها في عام 1927.
هذه المفارقة الكاشفة تقودنا إلى البحث الكبير للدكتور «علي شلش» عن نشأة وتطور «النقد السينمائي في الصحافة المصرية» الذي يضعنا في قلب أحداث هذه النشأة، عبر تتبع عشرات الصحف والمجلات المعاصرة لها، ومنها: العروس، والهلال، والصباح، وروز اليوسف، والستار، والكواكب، والملاهي المصورة، وغيرها.
فقد قُدم الحدث الكبير الذي تطلع إليه المشاهدون بنفاد صبر كبير في سينما متروبول، مساء الأربعاء 16 نوفمبر عام 1927، ليعرض فيلم «ليلى» من إنتاج شركة «إيزيس» التي أسستها «عزيزة أمير». وكانت كواليس صناعة الفيلم الأول تشغل الصحافة والقراء، منذ أعلنت أمير أنها تعمل على إنتاج فيلم روائي طويل هو «نداء الله» والذي لم تقدمه للجمهور لأنه خرج مخيبًا للآمال؛ حتى أعلنت عن عملها على فيلم «ليلى» الذي طُوِّر من الفيلم السابق، بعد أن استخلصت منه الأجزاء الصالحة للتطوير، والذي عاونها فيه شريكها في البطولة الفنان «إستيفان روستي» وقام بالإدارة الفنية لتصوير الأجزاء الجديدة منه.
أحدث ظهور الفيلم المصري الأول دويًّا هائلًا، فقد ضاق الجمهور ذرعًا بأنه لا يشاهد غير الأفلام الأجنبية. فكانت تتوالى على الصحف رسائله التي تطالب بإنتاج أفلام مصرية، وجمعيات هواة السينما المنتشرة تغص بأحلام ومشاريع لصنع أفلام مصرية، لكنها تصطدم بعدم توفر التمويل. وكان «طلعت حرب» يعارض القيام بهذه الخطوة بحجة أن الأفلام الروائية تحتاج إلى مجهودات فنية وخبرات تمثيلية لم تتوفر في مصر. فبُحت الأصوات من مناشدة رجال الأعمال باتخاذ هذه الخطوة التي أحجموا عنها، حتى جاءت أخيرًا على يد ممثلة شجاعة تعمل بفرقة رمسيس المسرحية.
أشعل «ليلى» الفرح في قلوب الجمهور وعلت موجة من الحماس الوطني نحو سينما مصرية صميمة. فقد كانت للجاليات الأجنبية في مصر شركاتها التي تقدم أفلامًا تتناول الحياة في مصر مستعينة بممثلين مصريين. ولكنها حسب وصف «عزيزة أمير» قدمت صورة مشوهة عنا.
والمطلع على حواراتها في الصحف يدرك هذا البعد الوطني في مشروعها. وقد خاضت معركة مع من ادعوا أن فيلم الأخوين «لاما» «قبلة في الصحراء» هو الفيلم المصري الأول. وكان قد سبق فيلمها بثلاثة أشهر وعُرض في الإسكندرية. قدم الأخَوان لاما ذوا الأصل الفلسطيني من أمريكا اللاتينية، وكان أحدهما اسمه «بدرو»، غيرّه فيما بعد إلى «بدر». فحسمت أمير هذا الجدل في حوارها بمجلة «روز اليوسف»، إذ قالت إن الفيلم يكون مصريًا عندما يُنتج بأموال مصرية. كما اتهمت صناع الفيلم بالجهل الشديد بالتقاليد المصرية. ولكن إلى الآن، ستجد بين المراجع ما ينسب للأخوين لاما أول فيلم مصري.
ولم تكن «عزيزة أمير» وحدها التي طمحت إلى تقديم أفلام مصرية صميمة بأموال مصرية، فقد كان هذا هو موقف الفنانات اللاتي سارعن بتقديم أفلامهن بعد فيلم «ليلى». وخضن منافسة قاسية بميزانيات متواضعة وإمكانيات بسيطة. حيث عُرضت أفلامهن جنبًا إلى جنب مع الأفلام القادمة من هوليوود وأوروبا.
وإن كنا لا نعثر على شهادات لهؤلاء الفنانات عن مدى صعوبة البدايات، حين كانت الكاميرات بدائية ويُعتمد على ضوء الشمس في المشاهد النهارية، وتستعمل الكثير من الحيل البدائية في التصوير الداخلي كوضع المرايا وتكثيف الضوء بالورق المفضض، أو أسقف الأقمشة البيضاء الشفافة، فإن مذكرات كريم أفاضت في شرح هذه الصعوبات والكثير غيرها، التي واجهها في إخراج «زينب».
وفي إثر «ليلى» انطلقت أفلام النساء وأغلبهن من ممثلات المسرح. ففي عام 1928 أنتجت «فاطمة رشدي» فيلم «فاجعة فوق الهرم» و«فردوس حسن» فيلم «سعادة الغجرية»، وفي عام 1929، قدمت «آسيا داغر» فيلم «غادة الصحراء» وهي الممثلة لبنانية الأصل التي استمرت كمنتجة لعشرات الأفلام، من أشهرها فيلم «الناصر صلاح الدين». وفي نفس العام، قدمت «عزيزة أمير» فيلمها الثاني «بنت النيل» من كتابة «محمد عبد القدوس».
وفي عام 1930 قدمت «إنصاف رشدي» فيلم «تحت ضوء القمر»؛ فأثنى النقاد على تصوير مناظره في الريف. ومن اللافت أنه تزامن مع تصوير فيلم «زينب» الذي وصف «كريم» الصعوبات الجمة لتصويره في الريف، حين كان تعطل السيارة في طريق العودة إلى القاهرة يعني قضاء الليل في الصحراء والتعرض لهجوم الذئاب.
ونحن لا نعرف شيئًا عما واجهته «إنصاف رشدي» بإمكانياتها الإنتاجية البسيطة عند تصوير فيلمها في الريف. لكننا نعرف الكثير عن معاناة كريم، رغم أن شركة «رمسيس» كانت وراؤه بميزانيتها الكبيرة، والتي قدمت له ممثلي مسرح رمسيس وفتحت له مخازن ديكورات المسرح، ووفرت له الفنيين إضافة إلى الاستعانة بفنيي استوديو مصر. حتى إنها وضعت الأوركسترا الخاص بمسرح رمسيس تحت تصرفه، ليعزف بقيادة المايسترو الأجنبي المقطوعات الحزينة حين يهيئ الممثلين لتمثيل المشاهد الحزينة، ويعزف في الاستراحات المقطوعات الخفيفة والراقصة لترفه عنهم، التي كانت تحب «بهيجة حافظ» بطلة الفيلم أن ترقص عليها رقصة الشارلستون. وتجدر الإشارة هنا إلى مغالطة أخرى شائعة، تنسب إلى شركة طلعت حرب إنتاج فيلم «زينب»، بينما أنتجته شركة «رمسيس» المملوكة للفنان «يوسف وهبي».
توالت أفلام النساء في الأعوام الأولى من الثلاثينات، فأنتجت آسيا في عام 1931 فيلم «وخز الضمير» من إخراج الأخوين لاما وبطولتها. وانضمت إليهن «بهيجة حافظ» في 1932 كمنتجة ومخرجة لفيلم الضحايا، الذي ألفت أيضًا موسيقاه التصويرية؛ فكانت قد درست الموسيقى في أوروبا. وقدمت «فاطمة رشدي» فيلم «الزواج» عام 1933، إنتاجًا وتأليفًا وإخراجًا. وقدمت آسيا «عندما تحب المرأة». وفي عام 1934، قدمت «عزيزة أمير» فيلم «كفري عن خطيئتك»، وآسيا «عيون ساحرة»، و«بهيجة حافظ» «الاتهام» من إخراجها، ثم «ليلى بنت الصحراء» الذي كتبته وأخرجته. وفي 1937، كانت تجربة فريدة للممثلة "أمينة محمد» وهي خالة الفنانة «أمينة رزق» حيث أعلنت في الصحف عن فتح باب الاكتتاب من أجل إنتاج فيلمها «تيتا وونج»؛ فلاقت اهتمامًا كبيرًا من شباب الهواة الذين تحمسوا للعمل في الفيلم والمشاركة في تمويله، ومن بينهم أسماء لمعت فيما بعد كمخرجين كبار.
وما تطلعنا عليه صحف هذه الفترة يحفل بالتشجيع والإطراء لهؤلاء الفنانات. فلم يغب عن النقاد تثمين مبادراتهن التي عُدت إنجازًا وطنيًا. وقدموا نصائحهم الفنية بلطف، آخذين في الاعتبار ضعف الإمكانيات وقلة الخبرة. وكانت الدعاية لهذه الأفلام تخاطب الجمهور بعبارة: «واجبكم الوطني يحتم عليكم شهودها».
ثم راحت في الصفحات التالية من تاريخ السينما تتبلور طبيعتها كصناعة وتجارة كبرى، مبتعدة عن براءة البدايات على أيدي الهواة.
الاحتفاء بمبادرات النساء في السينما ينتمي للتيار الذي ساد الحقبة التي تلت ثورة 1919، وهو ما بدأ بتشجيع مشاركتهن السياسية في الثورة، ثم فتح المجال أمام تعليم الفتيات الذي لم يكن مسموحًا باستمراره بعد الدراسة الابتدائية، وبدء مناقشة حقوقهن في قوانين الأحوال الشخصية، ونشوء حركة نسوية نشطة بزعامة السيدة «هدى شعراوي». إنها الحقبة التي شهدت الاحتفاء بأول رخصة قيادة سيارة تُمنح لامرأة، وأول فتاة تقود طائرة، وأول دفعة طالبات يتخرجن من الجامعة.
من الواضح أن برحيل الجيل الذي عاصر هذه النهضة التي ربطت بين تقدم المجتمع ونهوض المرأة، بدأ النكوص. فلنا أن نتساءل: كيف لم تُحفظ أفلام النساء الأولى كما حُفظت أفلام نفس الجيل من الرجال؟ ولماذا جرى التعتيم على ما قدمنه لزمن طويل؟
يرصد شلش في كتابه أن أول إنكار للأولوية التاريخية لأفلام النساء جاء بعد عام 1952 على يد الباحث «سعد الدين توفيق». فربما يتسق هذا التبدّل مع موجة إعادة كتابة التاريخ السابق لثورة يوليو وفقًا لرؤيتها. فهل رغب مناصريها حقًا في تطهير نشأة السينما المصرية من بصمات النساء، أم أنه محض عمل فردي لباحثين لم يستطيعوا مغالبة تعصبهم الذكوري؟