هذه سردية شائعة جدًا: بدافع من الذنب، تسعى شخصية ذات امتيازات إلى إنقاذ أخرى مُضطهَدة. برعت السينما الأمريكية في هذه الفئة، وبرزت منها أفلام مثل «يرقص مع الذئاب» و«أ ڤاتار» و«عبدٌ لاثني عشر عامًا»، وغيرها الكثير. بل إن انتشار مثل هذه الأعمال، وفكرة «المُنقِذ الأبيض» المتكررة الكامنة ورائها، جعلها هدفًا سهلًا للسخرية اللاذعة. ومن بين أطرف الأمثلة الأخيرة على ذلك مسلسل «أتلانتا»، الذي بُثَّ آخر موسم منه في سبتمبر (أيلول) 2022، والذي فكَّك بشكل فَطِن العلاقة المريبة بين نَسَق «المُنقِذ الأبيض» والصوابية السياسية.
«وداعًا جوليا» ليس فقط أول فيلم سوداني يصل إلى مهرجان كان، ولكنه أيضًا على الأرجح أول «فيلم ذنب» عربي. تنتشل امرأة شمالية مسلمة ميسورة الحال شابة جنوبية مسيحية مُفقَرة من الشارع، وتغرقها بالمال والرعاية. لماذا؟ لأن زوج الأخيرة قتله زوج الأولى في «سوء تفاهم» مُفجِع. يفتح هذا الجرح الشخصي جرحًا وطنيًا أكبر قد ولَّى بلا التئام -كما نعرف- بانفصال جنوب السودان عن شماله. إنها قصة يختلط فيها «الذنب الشخصي» (الخطأ في حق الآخر) بـ«الذنب الأخلاقي» (المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر)، إذا أردنا الاقتراض من فيلسوف «الدَّين اللامحدود»، إيمانويل ليڤيناس.
يطرح المخرج محمد كردفاني علينا حكاية منى (إيمان يوسف) وجوليا (سيران رياك) بأسلوب شيق، وإن كان -أحيانًا- سنتمنتاليًا وحماسيًا أكثر من اللازم. هناك أيضًا رمزية مُسرِفة وحالة وعظيَّة تعوزها البراعة. كما اتسم النهج الإخراجي بطموح سردي وبصري بدا معه الفيلم، الذي يمتدُّ إلى ساعتين، مُتخمًا ومُطَوَّلًا؛ فقد سعى إلى تناول كل شيء تقريبًا: العنصرية، والذكورية، والتزمُّت الديني، والتحرش الجنسي، وحرية المرأة، والفساد البيروقراطي، إلخ: كل المصطلحات الشائعة التي يسيل لها لعاب الجوائز حينما يتعلق الأمر بالأفلام القادمة من تلك البقعة من العالم. فلا يمكن للمخرج في أغلب الأحيان أن يكون «عالميًا» إلا إذا ارتدى عباءة المُخبر المحلي، بالدلالة الأنثروبولوجية.
ربما كان البُعد الغرائبي -لحسن الحظ- هو العنصر الغائب، والذي استحوذ عليه فيلم سوداني آخر هو «ستموت في العشرين»، على الرغم من عدم خلو «وداعًا جوليا» من مشهد «إكزوتيكي» هنا وهناك (مشاهد حمام الدخان، على سبيل المثال). ومن بين الأسباب الأخرى لتضخُّم العمل أنه الفيلم الطويل الأول لمخرجه. فمن عادة الأعمال الأولى أن تحاول قول وتجريب كل شيء، ولذلك قد يتحول الخوف من الإهدار إلى هاجس معنوي ومادي، أو إلى «ندَّاهة» قد يؤدي اتباعها إلى نسيان الغرض الأساسي من العمل.
ومع ذلك، وللغرابة، لم تُشِر القصة إلى الحكم الاستعماري البريطاني، وكيف قسَّم السودان إلى شمال «حداثي» وجنوب «متخلِّف» خلال النصف الأول من القرن العشرين، وبالتالي رفع نصيب البريطانيين من «الذنب». صحيحٌ أن أحداث الفيلم تدور خلال الفترة الواقعة بين مصرع جورج قرنق، زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في عام 2005، واستقلال الجنوب في عام 2011، لكن صحيحٌ أيضًا أن العمل مليء بالإحالات التي اتَّسعت إلى كل شيء إلا تأثير الحكم الأنغلو-مصري على العلاقات القَبَلية.
يُحسَب لكردفاني -على أية حال- أن شخصياته الرئيسة مُركبة، بحيث يصعب على المُشاهِد الوقوف في صف واحدةٍ ضد أخرى، أو الوقوع أسيرًا لموقفٍ مُسطَّح. تتململ من الرجعية الخانقة لزوج منى، أكرم (نزار جمعة، الذي مثَّل الدور بكفاءة عالية)، لكنك ترى شيئًا من طيبته. تتعاطف مع مظلومية ماجير (غِير دواني)، لكنك ترى كيف أكلته المرارة. تنزعج من منى في مشهد وتُعجَب بها في مشهدٍ تالٍ. وجوليا؟ تعتقد أنها ساذجة حتى يقترب الفيلم من نهايته. شخصيات كردفاني، أيضًا، تتسرَّب إليك بسهولة، وتتفاعل معها دون أن تفكر مرتين.
«وداعًا جوليا» يُشبه «وداعًا لينين»، الفيلم الشهير لڤولفغانغ بِكَر، ولكن ليس اسمًا فقط. كلاهما يدور حول موت عالَم وظهور آخر، حول لحظة انتقالية كبرى؛ من الوحدة إلى الانفصال في الأول، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية في الثاني. وكلاهما، أيضًا، يرثي الماضي أكثر مما يُرحِّب بالمستقبل. فالماضي، على ما به من ظلم وخوف وضغينة، قد يبدو أكثر احتمالًا من المستقبل المجهول. إنها سُلطة المألوف والمُعتاد والخوف الذي نعرفه، مقارنةً بذلك الذي لا ندريه.
إن طرح «وداعًا جوليا» لمشكلة العنصرية المُمأسسة -في بلد كان قبل الانفصال أكبر بلدًا إفريقيًا مساحةً- يستفزُّ نقاشًا أجَّلَته -لوقت طويل- أو ألغته النُخب التي حكمت الدول القومية الحديثة في العالم العربي. رغم ذلك، لا يمكن لهذا النقاش أن يكون نقاشًا مُثمرًا حقًّا، إلا إذا تناول أيضًا آثار الإرث الاستعماري.