صدر حديثاً كتاب "الوطنية المغربية-تحولات الأمة والهوية" عن المركز الثقافي للكتاب بالمغرب، وهو من تأليف الباحث وأستاذ علم السياسة حسن طارق. يحتوي الكتاب على عشرين مبحثًا، موزعة على ثلاثة فصول، تستعرض جميعها الوطنية المغربية في مختلف سياقاتها وسردياتها وتطوراتها الثقافية والتاريخية في الأدبيات الكولونيالية والوطنية. يحوي الكتاب في 248 صفحة، شاملة فهرسا عاما [1].
1- أصالة الطرح وعمق الموضوع:
رغم أن الكتاب قد يبدو ليس الأول من نوعه في طرح مشكلات تم تناولها في مطارحات ودراسات متعددة ومتنوعة على مر العقود، وخاصة بعد توجيه اهتمام الفكر العربي المعاصر إلى قضايا الدولة الوطنية، مثل قضية الأمة والقومية، ومن ثم التنمية السياسية والانتقال الديمقراطي و"الهوية الوطنية"، إلا أن الكتاب يعتبر مميزًا في تجميع هذه الأفكار والمشكلات وإعادة تقديمها بطريقة تبدو جديدة ومعمقة.
يظهر أن كل هذه النقاشات في مختلف أبعادها الثقافية والانتمائية والوجدانية تتمتع بمشروعية مستمرة وتستجيب لحاجة حقل ثقافي مغربي معين، وتسعى لإنتاج نوع خاص من المعرفة التي نعتبرها محسومة ومؤكدة ذاتيًا وليست مدعاة للتساؤل، ونصوغها أحيانا بطابع إيديولوجي "مفكك"، غير واقعي، رغبة في التعميم وسعيا منا إلى "وهم" الثبات. وهي الفروقات التي تنعكس سياسيا واجتماعيا في دائرة من الاحتمالات تبدأ غالبا بالتعصب المناهض للاختلاف، وتنتهي بالتفكك واندثار المشترك
وهي الفروقات التي تنعكس سياسيا واجتماعيا وتبدأ غالبا بالتعصب المناهض للاختلاف، وتنتهي بالتفكك واندثار المشترك.
إن مبتغى رؤى الكاتب، تنبع من الأهمية البالغة للفرضيات التي تسوقها في مسعى لمقاربة سؤال " كيفية استثمار الخفوت اللافت لتوترات الهوية، وأجواء ما بعد الحوار العمومي الواسع حول إعادة التعريف الجماعي للأمة [خصوصا الإجابة عن من نحن[2]؟]" (ص 24)
هكذا إذن، تنهض مشروعية هذا الكتاب، من أسئلته وغاياته، وما أفرزه من تراكم سردي ومعرفي؛ يجترح أفقا للنقاش، ويفتح مساحة للنقد، ليساير إشكالا غير هين.
ورغم أن الكتاب بالسرديات والأدبيات التي أثثت مضامينه، من مؤرخين وسوسيولوجيين وأنثرولولوجيين، لا يعبر عن "توزيع إجرائي لمناولات الحقول المعرفية الأخرى للهوية الوطنية"، أو "رغبة في إبراز المائز من التخصصات"، إلا أن الكاتب (ارتكانا لنسبه المعرفي) ، لم يوغل-وقد أمكنه ذلك- في الاستناد على علم السياسة، بعدته المنهجية وشبكته المفاهيمية، وهويته الخاصة؛[3] بعيدا عن "الاصطفاف" في عباءة حقول معرفية أخرى، شكلت موضوعة الهوية الوطنية مجالات اهتمامها؛ وذلك إيمانا بأن مفهوم الهوية من أكثر المفاهيم فقرا على المستوى الإبستمولوجي، في مقابل تمتعه بفاعلية إيديولوجية كبرى.
وأيضا بحسبان المبحث الذي يتصدى له هو أكثر تعقيدا وتشابكا، مما اقتضى معه الكثير من الحذر الابستمولوجي[4]، وإعمال مقاربات انتقائية ومركبة لفهم طبيعة تفاعلاته وتحولاته ودينامياته الاجتماعية والسياسية والمعيارية. وبحكم أنه لا يمكن اختزال دراسة الهوية الوطنية واستجلاء قوانينها وارتياد مآلاتها المحتملة، في بعد واحد أو بعدين.
2– الإشكال والمقاربة
يعكف الكتاب على دراسة موضوع الهوية الوطنية بمقاربة يصفها صاحبها بالمقاربة التي "لا تقف على حدود تمجيد التعدد، ولا تتوقف عند عتبة الاحتفاء بالمكونات الفرعية والروافد، لكنها تلتفت إلى الأهم: ترصيد المشترك الوطني الجامع"(ص 17).
وتأسيسا عليه، تنهض الدراسة، على رغبة جامحة في القطيعة مع الطرائق والمقاربات المعهودة، وتستند على إرادة تجاوز الأعطاب ومظاهر الاصطفافات التي تعتور تعاطي العديد من المصادر والكتابات والخطابات. وهو سعي حثيث ليس لتأصيل الموضوع والتأسيس له، وإنما للتنقيب في المصادر وتشريح الوثائق وبعض الشهادات، حرصا على إفساح المجال أمام تعدد الأصوات وضمان إثراء النقاش المعرفي.
مثلما نلفي حضورا مكثفا لمنطق التجاوز، بدا من خلال حرص الكاتب على التقاط معالم إشكالية نوعية من أعطاف فترات تاريخية أشبعت بحثا، وعدم ركونه إلى ما انتهت إليه الدراسات والسياقات والاتجاهات "الإيديولوجية" من خلاصات ورؤى.
هذا النفس والرغبة في التجاوز، يشكل مؤشرا نوعيا ومميزا؛ يقود إلى طرح استفهامات منطقية ارتاد الكاتب عبرها بياضات بحثية "مهملة"، واتجاهات راهنة ومتجددة حول الهوية (التيار الموري، تامغربييت، التفكير في الإنسية المغربية..)،لم تطأها بوفرة أقلام الباحثين، ناهيك عن إشكالات التعددية والتعايش، عبر سبر مبحث تدبير سياسات الهوية والانتماء؛ بحسبانها (في نظرنا) مجموع إجراءات تؤسس لتجارب "سلطوية" أحيانا و"ظالمة" غالبا، لأعضاء مجموعات اجتماعية ما.
وكان هذا استكمالا وعطفا على كل الإشكالات الثقافية والمعيارية التي سبق وطرحها الكاتب عقب دستور 2011.[5] وهذا النفس التجاوزي، أضفى تميزا على مقاربة الكاتب للدينامية التي رافقت التقاطبات والقطائع والسياقات التي رافقت بناء الوطنية المغربية في التجربة المغربية.
إن مقدمة الكتاب تطفح برغبة جامحة في إبراز تلازم الإشكال الهوياتي مع العجز الديمقراطي، (التحول المعاق للديمقراطية حسب تعبير الكاتب)، والرغبة في رفع منسوب هوية وطنية "منسجمة". وهو إسهام نوعي في صرح الإسهامات المنجزة في الموضوع.
الحال أن الأعمال المنجزة سابقا إن كانت قد انشغلت ببحث "الدولة الحديثة والقومية وأسئلة الإصلاح" خلال فترة ما بعد الاستعمار. فإن فهما أعمق وأجلى لهذا المبحث، يستوجب أيضا، إثارة سؤال "من نحن؟" والتقاط عناصر إجابة أولية عن سؤال " مدى نجاح الوحدة الوطنية في تيسير الانتقال السياسي؟ وإن كانت الدولة الوطنية بكيانها الخاص قد انتصرت كأفق للتغيير السياسي والانتماء الجماعي؟.
وجعل ذلك مقرونا بالتفكير في استفهام آخر، هو لماذا الوطنية لا تزال أفقا للتفكير؟ وإن كانت إيديولوجية السوق وأفكار التطرف والتعصب، والانكماش الهوياتي والعصبية "الوطنية" هي السر الكامن وراء ذلك؟.
إن كل هذه العوامل المسؤولة عن التحولات الطارئة حول الهوية والوطنية، تعود أيضا إلى "الدولة الوطنية باعتبارها الفاعل القوي في الساحة الدولية كما لو كانت تمثل ثأرا مشهديا للأمم والثقافات والرموز من التخيلات التنميطية للعولمة"(ص 24) ومن تم، لا تبرز أصالة الطرح في اختبار المفاهيم والأفكار، بما يقابلها من نقد ونقض واصطفاف، وإنما اقتحام ساحة المشترك، وترصيد تفسيرات أكثر جدة وعمقا و"هدوءا".
3- الوطنية المغربية كأفق للتفكير
يتحسس القارئ حرصا وإشارة لمختلف المصادر التاريخية بشأن موضوع الوطنية وتحولاتها، وتمحيصها والإدلاء بمواقف بخصوصها.
من ذلك، عرضه لسياقات التأسيس بين عاملي الدولة والإسلام في ضوء المحددين الفكريين للسلفية والليبرالية(ص 27 وما بعدها)، وكذا تمحيص الكاتب لتشكل الوطنية المغربية في سياق العروض الأيديولوجية والانتماءات المجاورة من الشرق والغرب، وكيف تم الربط بين المرجعية العربية الإسلامية وبناء الوطنية الحديثة (ص 51 وما بعدها).
ومن ذلك أيضا عرضه للطروحات الحديثة، التي تؤثث المكتبة المغربية؛ حول الوطنية ومضامينها ومكوناتها ومصادرها ونخبها وتياراتها، وتأويلاتها في مغرب ما بعد الاستقلال، ومن ضمنها كتابات الفاعلين والسير الذاتية والمذكرات التي صدرت من معين الحضن الثقافي للحركة الوطنية.[6](ص 101 وما بعدها)
بيد أن الرجوع إلى ما تناولته المصادر والدراسات والشهادات التي أشار إليها الكاتب، يبرز أن بعضها لم يقف عند حدود الوعي بالكيان الوطني والانتمائي، والخوض في جدة الوعي به من قدمه، وفي السياقات الحقيقية للوطنية ومضمونها، ومكونات الهوية المغربية وبناءاتها، والتحولات التي اعترت الذات الوطنية (إرادات المحو الاستعمارية؛ استثمار الشعور الديني والوعي العروبي؛ الانبثاق التاريخي للأمة في محطات وطنية، إنتاج الشرعية السياسية من موارد رمزية وتاريخية..).
بل تعدته نحو الإجابة عن الخصائص العميقة والمتجذرة لدى "الشخصية القاعدية" المغربية، أو "من هم المغاربة؟ كسؤال غائب في أدبيات الوطنية المغربية"(ص 154) وبعد الإشارة إلى إهمال المصادر لهذا السؤال، اتخذ الكاتب من هذا الاستفهام منطلقا للبحث، لتجميع خصائص العقلية و"النفسانية" المغربية، التي دونها كل من "عبد الكريم غلاب"[7] و"يحيى بن سليمان"[8]؛ كالصبر، والضيافة، والشجاعة، والإطناب والتضخم، والتشبث بالقانون، والنضال، والانفتاح، واللامسؤولية...(ص 155 وما بعدها).
وفي سياق الترافع حول ما وسمه الكاتب ب"ابتكار وطنية جديدة"، يستدعي المؤلف "ما يشبه زيارة جديدة للمفهوم الذي كان الراحل علال الفاسي قد طوره بمناسبة حديثه عن الإنسية المغربية" (ص226) باعتبار الأخيرة، دعامة لاستثمار الاعتراف بتعدد مكونات الهوية، وسبيلا للسعي نحو منطق الوحدة الجامعة والأفق الثقافي الموحد والمدمج. كما استدعى الكاتب في مساءلاته الحقوقية والفلسفية، كل ما يلطف من الشحنة الإيديولوجية والهوياتية للانتماء الوطني.
ولعل التعبير الذي ختم به الكاتب مؤلفه"وطنية أكبر ومواطنة أكثر"، لا يعكس بجلاء رغبة تجاوز الوطنية باسم المواطنة؛ وإنما دعوة إلى تنسيب الوعي بحدود مطالب النقد الحقوقي لفكرة "الوطن"، وبأن "الوطنية المغربية الحديثة هي وطنية سياسية في عمقها بالمعنى الذي يجعلها بعيدة عن أن تمثل أفقا إثنيا للانتماء" (ص 247) وإنما مدخلا للحداثة السياسية ولبناء الجماعة السياسية المدنية، كونها كانت -منذ البدء- حاملة لفكرة التحرر والديمقراطية، وللشكل الجنيني لتبلور المواطنة؛ كالتزام تجاه المشترك وكواجب أخلاقي في اتجاه المجموعة.
لقد امتلك الكاتب الكثير من الخبرة والشغف و"القطيعة" اللازمة لمواصلة تعميق التفكير في "نهر" الوطنية المغربية، واستطاع بهذا الجهد أن يعبد للباحثين، مسالك للنقاش والتأمل؛ بما يضمن إنضاج ومراكمة معرفة علمية و"شاملة" بموضوع الهوية الوطنية.
[1] لا يمكن اعتبار هذه الأسطر قراءة في الكتاب، ومناقشة لمضامينه، وإنما تقديما وإيرادا عاما لأبرز عناوينه. وهذا المنزع يروم التعريف بمساهمة نوعية في صرح الإنتاج العلمي، بحكم اقتحام الكاتب لبعض البياضات التي لم تصوب نحوها أقلام الباحثين على نحو كاف، وهو ما يسمح بإضاءة بعض مواطن العتمة في تاريخ الوطنية المغربية.
[2] لعل السؤال الذي يواجه البشر منذ الأزل فرديا وجماعيا: من أنا أو من نحن؟ ثم يستكمل هذا السؤال من خلال أسئلة أخرى تتعلق بالعمل والمشروع، الذي يمثله الإنسان، نشأة وانتماء كمعطى أول، وفيما بعد عملا وصيرورة كمعطى ثان. الأول سيكون معطى دون خيار، أما الثاني فهو خيار؛ أي أنه تفضيل بين خيارات، وبالتالي سيكون خيارا واعيا ومكتسبا، من خلال وعي وعملية خلق. وإن كان الأول طبيعيا، فإن الثاني يعرب عن الإرادة البشرية (التدخل الإنساني ) لإكساب الهوية شكلا جديدا مفتوحا وقابلا للتطور.
راجع: عبد الحسين شعبان، الهوية والمواطنة: البدائل الملتبسة والحداثة المتعثرة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2017، ص 20.
[3] كان المأمول، الخوض في ما اعترى صيرورة الهوية في النظرية والفكر والاتجاهات السياسية.
[4] الحديث عن الدينامية الهوياتية وتحولاتها مغربيا، لا يقتضي من الدارسين والباحثين لقضايا التحول تهافتا معرفيا، بقدر ما يبتغي إبستمولوجيا حيطة وحذرا بالغين، خاصة في إطلاق الأحكام والتوصيفات، نظرا لما يحمل هذا المجتمع من مميزات وخصوصيات، تقتضي تكييفا نسبيا للتراث النظري الذي خلفه الزخم المقارباتي الملحوظ في التعاطي مع مختلف مظاهر التحول المتعدد الأبعاد والمستويات. وهذا الحذر الإبستمولوجي هو ناتج بالضرورة عن البنية المجتمعية التي اختار لها الراحل " بول باسكون" وصف "المجتمع المركب"، إذ يبدو للمتتبع العادي أن هذا المجتمع يعيش تحولات عديدة وفق صيرورة متسارعة سواء في المجال السياسي، الاقتصادي وحتى في الجانب الاجتماعي والقيمي والثقافي. لكن هذا لايمنع من وجود مظاهر المحافظة الغالبة.
[5] سبق للكاتب تناول نقاش الهوية في الحياة السياسية في المغرب، قبيل دستور سنة 2011، في مؤلفه: السياسات العمومية في الدستور المغربي الجديد، بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، سنة 2012.
[6] للتوسع في هذه الطروحات، يمكن أن نسوق الإسهامات الهامة لبعض الباحثين الاجتماعيين الوطنيين:
-أكنوش عبد اللطيف،" تاريخ المؤسسات والوقائع الاجتماعية بالمغرب"، إفريقيا الشرق البيضاء، الطبعة الأولى 1987.
-أحمد التوفيق، "المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر"، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، الطبعة الأولى 1983.
-عبد الله الحمودي، "الانقسامية والتراتب الاجتماعي والسلطة السياسية"، ترجمة عبد الأحد السبتي وعبد اللطيف الفلق، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط، عدد11، 1985.
-Ayache (Albert), "Le Maroc, Bilan d'une colonisation", Ed, E.S, édition 1956
-Ayache (Germain), "La fonction d'arbitrage du makhzen", In: B.E.S.M, N° 138-139, édition 1979, pp.5-21.
-Hammoudi (Abdellah), "Segmentarité, stratification sociale , pouvoir politique et sainteté- reflexion sur les thèses de Gellner, "In revue Hesperis - Tamuda, volum 15, 1979, pp 18-147.
-Ettibari (Bouasla), "Les Structures rurales au 19ème siècle", In B.E.S.M, N° 157-158, 1986.
-Mekki (Bentahar) et Ettibari (Bouasla), "La sociologie coloniale te la société marocaine de 1830 à 1960", In la sociologie marocaine contemporaine , Pub de la fac des lettres ,Rabat, 1988.
-chkroun (Mohamed), "Crise de la société ou crise de la sociologie" , In B.E.S.M, N° 153-154, 1984, pp 78 et s.
-Khatibi (Abdelkébir), "Maghreb Pluriel", Ed Denoël, Paris, édition 1983.
[7] عبد الكريم غلاب، الشخصية، شخصية المغرب نموذجا، منشورات دار أبي رقراق، الرباط، ط 1، 2017
[8] يحيى بن سليمان، نحن المغاربة: مشاكل النمو بين التقليد والتجديد، شركة النشر والتوزيع المدارس، البيضاء، ط 1، 1985.