لطالما كانت الدعاية، بمفهوم "البروباغندا" عنصرًا أساسيًا في الحروب منذ القدم. فقبل اندلاع أي صراع، كان يتعين تغذية الجماهير- أولئك الذين يفترض أن أرواحهم غالية- بجرعات مكثفة من رسائل الإقناع، ليضحوا بأرواحهم طائعين عندما يحين الوقت. إن الإلحاح المتواصل يبرمجنا برسائل إقناع داخلية من نوع "نحن ضدهم"، "الخير ضد الشر"، "النصر سيكون حليفنا"، و"الحرب جحيم، لكن لا خيار لنا سواها". هذا التكرار نفسه هو ما يضمن اصطفاف غالبية المواطنين ضد "العدو"، بدلاً من رفض التجنيد ،أو ما هو أسوأ مثل التمرد على قادتنا الذين يكونون في كثير من الأحيان مجرد وحوش أنانيين.
لكنكم ربما لاحظتم، أن الحرب التي شهدناها مؤخرًا بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة لم تسبقها تلك التعبئة الدعائية الضرورية. إذ نفذت إسرائيل هجومًا مفاجئًا وصادمًا على إيران، في حين شاركت حليفتها العظمى في عملية دبلوماسية خادعة، ظاهرها تجنب الحرب، لكن باطنها كان يمهد لإشعالها. لكن آلة الدعاية بدأت العمل بوتيرة متسارعة بعدما بدأت إسرائيل هجومها في 13 يونيو.
لو كنت ممن شهدوا الفترة 2002-2003 أثناء التحضير لغزو العراق بقيادة جورج بوش الابن وتوني بلير، فستعرف جيدًا كيف تُدار الدعاية الحربية. الأمريكيون، الذين كانوا لا يزالون يعانون من آثار أسوأ هجوم إرهابي في تاريخهم، تم خداعهم بترويج كذبة مفادها أن الرئيس العراقي صدام حسين كان على صلة بتنظيم القاعدة وشارك في أحداث 11 سبتمبر. أما البريطانيون، فتم إقناعهم بأن العراق على وشك مهاجمتهم بأسلحة دمار شامل – رغم أن العراق كان قد تخلى عن تلك البرامج منذ زمن طويل، كما كشفت أجهزة الاستخبارات والمفتشون الدوليون. وقد قامت وسائل الإعلام بنقل هذه الأكاذيب بامتثال، مرفقة بقصص إضافية عن وحشية النخبة الحاكمة في العراق، واضطهاد النساء والأقليات، وغيرها. كنت أعمل حينها في بي بي سي، عدد قليل منا نحن الصحفيين كان يميل إلى الشك في هذا الاندفاع المحموم نحو الحرب، في حين انخرطت الأغلبية في السردية الرسمية – كما يفعلون للأسف من جديد اليوم.
تكررت نفس أساليب الدعاية في حروب أخرى تم شنها لخدمة الطموحات الإمبريالية الأمريكية. فبعد الحرب الباردة، شهدت التدخلات العسكرية في سوريا وليبيا وكوسوفو وأفغانستان والصومال حملات دعائية مُمنهجة، بدأت من الإحاطات والتصريحات الحكومية، بدعم حماسي من وسائل إعلام موالية أو "محايدة". غالبًا ما كانت هذه الحملات تتضمن إنذارًا أخيرًا لإضفاء مسحة من الشرعية قبل إطلاق العنان للحرب، كما حدث حين منح الرئيس بوش صدام حسين ونجليه "48 ساعة" لمغادرة العراق، وإلا فإن "رفضهم سيؤدي إلى صراع عسكري يبدأ في الوقت الذي نختاره".
أما عملية إسرائيل الخاطفة لتصفية واغتيال واستهداف البنية التحتية الإيرانية، فقد أظهرت كيف تغيّر السيناريو بالكامل في عهد ترامب ونتنياهو. فلم تعد هناك حاجة لحملات دعائية تهيّئ الرأي العام لحرب "لا مفر منها"، بل صيغت روايات دبلوماسية مضللة هدفها خداع إيران ومهاجمتها على حين غرة.
كان الهدف الواضح لتل أبيب وواشنطن توجيه ضربة قاصمة لقيادة الجمهورية الإسلامية والصف الأول من القيادة العسكرية في لحظة غفلة تؤدي إلى انهيار حكمهم. أما قصف منشآت الطاقة النووية واغتيال العلماء، بحجة أن إيران على وشك تطوير أسلحة نووية، فلم يكن سوى غطاء. الهدف الحقيقي كان إغراق آخر دولة عدوة لإسرائيل في دوامة الفوضى والانهيار، تمامًا كما حدث مع العراق في عهد صدام، وليبيا في عهد القذافي، وسوريا في عهد الأسد. لكن إيران لم تسقط بعد الضربة؛ بل تعافت من الصدمة ، وتمكنت خلال 12 يومًا غير مسبوقة من إلحاق خسائر فادحة بمهاجميها الإسرائيليين.
ومع استمرار فشل الحرب في فرض السيناريو الإسرائيلي/الأمريكي، بدأ انكشاف تعثر آلة الدعاية في الوقت الحقيقي. فالصواريخ الإيرانية انهالت على إسرائيل كما لم يحدث من قبل، والجماهير على وسائل التواصل الاجتماعي – الغاضبة من مجازر غزة – احتفلت بما أصاب دولة ظلت تقصف جيرانها العرب بلا رحمة طوال عام ونصف. ومع ذلك، التزمت وسائل الإعلام الكبرى الصمت على نحو لافت تجاه الدمار الواسع الذي لحق بالقدرات العسكرية والعلمية والاقتصادية الإسرائيلية. أين محللو الشاشات والجنرالات المتقاعدون الذين عادة ما يشرحون للجمهور مدى فاعلية أنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية؟ أين من يشير إلى أن هذه المرة بدا وكأن إسرائيل قد تجاوزت قدراتها؟ وحدها المنصات المستقلة والمتمردة كانت توصل تلك الرسائل لجمهورها، في حين ترك الإعلام التقليدي مشاهديه في الظلام.
وفي المقابل، كانت وسائل الإعلام الكبرى تبرز كل ما يُظهر براعة إسرائيل العسكرية وتفوقها دون كثير من التدقيق. فقد قيل لنا خلال ساعات من الهجوم المفاجئ إن إسرائيل سيطرت على الأجواء الإيرانية ودمرت نصف منصات إطلاق الصواريخ. لكن من الصعب تصديق ذلك، خاصة وأننا لم نر أي طائرات إسرائيلية تحلق فوق طهران، كما يحدث عادة فوق لبنان أو سوريا حيث تتمتع إسرائيل بتفوق جوي واضح. وكيف يمكن الجزم بتعطيل "نصف" منظومة إذا لم نكن نعرف حجمها الكامل أصلًا؟ هذا هو اللامنطقي، ومع ذلك يتردد بثقة في الإعلام لمجرد أن إسرائيل وحلفاءها قالوا ذلك. كذلك، نادرًا ما تم التطرق إلى الهجمات المتكررة على أهداف مدنية داخل إيران، بما في ذلك منشآت الطاقة النووية التي صرّحت الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفسها بأنها مخصصة للأغراض المدنية.
أنا لا أقول إن طرفًا واحدًا يحتكر الحقيقة أو الدقة. فالمعلومات المضللة تصدر من جميع الجهات، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام التقليدية. نحن نعيش حياتنا غارقين في الدعاية، خاصة وقت الحروب، ولهذا ينبغي ألّا نأخذ أي شيء نسمعه على محمل التسليم. تكرار الكلام لا يجعله صحيحًا، بل يعني فقط أن هناك من يريدك أن تصدّق أنه صحيح. وهذا ينطبق بشكل خاص على ما يصدر عن المصادر السياسية أو العسكرية الإسرائيلية، التي تصف جيشها بأنه "أكثر الجيوش أخلاقية في العالم". لكن مصداقيتها تحطمت بعدما تم ضبطها مرارًا وهي تروّج الأكاذيب لتبرير انتهاكاتها اليومية وتبرئ نفسها منها، ومع ذلك لا تذكّرك وسائل الإعلام الكبرى بهذا أبدًا.
لقد بات "ضباب الحرب" أشد كثافة من أي وقت مضى، في ظل الحروب المتعددة التي تخوضها إسرائيل منذ أكتوبر 2023. ومع تخليها التام عن المعايير القائمة للقانون الإنساني الدولي – رغم ما كان يشوب الالتزام بها سابقًا – أصبحت هناك حاجة ماسة إلى جهود دعائية ضخمة للحفاظ على ما تبقى من سمعة إسرائيل ومنع تدهور علاقاتها مع الدول الحليفة. حتى في الولايات المتحدة، بدأت تظهر مؤشرات على تغير محدود في الرأي العام ضد إسرائيل، رغم أنها لا تزال تحظى بدعم واسع من مختلف الأطياف. وحلفاؤها مستعدون للقتال بكل ما أوتوا من قوة لمنع إدانتها بالسمعة التي تستحقها. ومن هنا، يجب أن نكون على وعي تام بكيفية توظيف الدعاية لتلميع صورة إسرائيل والتغطية على جرائمها.
ونرى مثالاً على ذلك يتشكل أمام أعيننا في الوقت الراهن. إذ يروّج أنصار الدعاية الإسرائيليون لمقولة مشوهة مفادها أن جميع حروب إسرائيل منذ عام 1948 كانت "دفاعية"، وأنها بدأت دومًا من قِبل أعدائها. وهذا ادعاء ثبت زيفه تاريخيًا، وتم دحضه بدقة من خلال تحليلات مؤرخين، وحتى من وثائق أرشيف الحكومة الإسرائيلية نفسها؛ ومع ذلك، يستمر استخدامه كأداة سهلة في كل مرة يُراد فيها تقديم إسرائيل كدولة محبة للسلام، ومعها شعبها اليهودي "المظلوم".
فلننتبه إذن: الحرب الأخيرة التي شهدناها بكل تفاصيلها في عام 2024، والتي بدأتها إسرائيل بناء على ادعاء كاذب بأن إيران تطوّر سلاحًا نوويًا، يجري الآن إعادة تأطيرها إعلاميًا لإخفاء دور إسرائيل كدولة معتدية. ولست أتحدث هنا فقط عن الناطقين باسم الحكومة الإسرائيلية أو أنصارها في المجتمع الصهيوني العالمي، بل أيضًا عن مصادر يُفترض أنها "محايدة".
فمثلًا، أنتجت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) ما يقرب من 100 مادة خبرية بين 14 و24 يونيو حول الحرب بين إيران وإسرائيل. راجعتُها كلها لأرى كيف تم تقديم بداية الحرب في كل مرة. وأي تحليل مستقل كان سيعتبرها عملاً عدوانيًا من دولة عضو في الأمم المتحدة (إسرائيل) ضد دولة أخرى (إيران)، في انتهاك صريح لميثاق الأمم المتحدة. لكن أكثر من 51 مادة – أي أكثر من نصف التغطية – إما تجاهلت ذكر كيفية بدء الحرب أو غطّت على الحقيقة بصياغات مبهمة من نوع: "إسرائيل وإيران تبادلتا الضربات القاتلة منذ يوم الجمعة"، أو "بعد نحو أسبوع من الهجمات المتبادلة بين الطرفين". وفي مثال مثير للسخرية، كتب أحد المراسلين: "المواجهة المستمرة منذ سنوات بين إيران وإسرائيل تحولت هذا الأسبوع إلى مرحلة دامية ومباشرة"، كل ذلك لتجنب قول الحقيقة البسيطة: "إسرائيل هاجمت إيران".
وحين يتم ذكر الطرف الذي بدأ النزاع، تبدأ مرحلة جديدة من الدعاية. فباستثناء حالات نادرة، نسب صحفيو بي بي سي – للأسف أقولها – الهجوم غير المبرر إلى "خوف" إسرائيل من تطور البرنامج النووي الإيراني. وكأن الدولة التي ترتكب إبادة جماعية في غزة، والتي تفاخر بإرهابها عبر طائرات الاستطلاع في لبنان، والتي اغتالت فلسطينيين وإيرانيين كانوا يشاركون في مفاوضات بوساطة أمريكية، والتي حاولت ابتزاز الجنرالات الإيرانيين بتهديد عائلاتهم، يجب أن تُؤخذ دائمًا على محمل الصدق، وتُصدق نواياها! وحتى لو صدّقنا أن مخاوف إسرائيل من خرق إيران لمعاهدة حظر الانتشار النووي مشروعة، فأين تضع إسرائيل نفسها، وهي التي لم توقّع أصلاً على تلك المعاهدة، وتعد الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك أسلحة نووية، والتي شنت هجمات على دول عربية من تونس إلى العراق؟
تخيل كيف سيبدو المشهد الإعلامي الغربي لو لم يكن مشبعًا بالعقلية الشوفينية التي تهيمن على أغلب وسائل الإعلام الكبرى. ولحسن الحظ، فإن العقود الأخيرة شهدت بروز منصات رقمية بفضل جهود الصحفيين المواطنين والباحثين المستقلين الذين يكسبون باستمرار ثقة جمهور أوسع، من الشباب وكبار السن على حد سواء. هذا هو مستقبل الإعلام، بينما تستمر المؤسسات التقليدية في فقدان صلتها بالواقع، بادعاء الحياد بينما تروّج لوجبات يومية من الدعاية المضللة التي لا تنقطع.