لأن الذكاء العام الاصطناعي (AGI) أصبح موضوعًا مهيمنًا في الخطاب التكنولوجي، فإن هذه المقالة تسعى إلى وقفة نقدية لتتساءل: ماذا لو لم يكن الذكاء الاصطناعي عتبة تكنولوجية، بل مرآة ثقافية، تكشف عن أنفسنا أكثر مما تكشف عن الآلات؟ هذا التأمل يستعرض الجذور الفلسفية، وسوء الفهم المعرفي، والتبعات الأخلاقية لأسطورة الذكاء الاصطناعي.
لم يحدث في عالم التكنولوجيا، أن أثارت بعض المصطلحات والاختصارات قدرا من الانبهار والخوف كما أثار مصطلح الذكاء العام الاصطناعي المعروف اختصارا بـ AGI. بالنسبة للبعض، هو وعد بتقدم غير محدود. وبالنسبة لآخرين، تهديد وجودي. في كلتا الحالتين، أصبح مفهوم AGI رمزًا ثقافيًا، وجاذبًا، يتمركز حوله النقاش بشأن مستقبل الإنسانية والتكنولوجيا والأخلاق.
لكن خلف الروايات الكبرى والخيالات التي يغذيها الإعلام ، يبقى سؤال مهم دون إجابة واضحة: ماذا نقصد حقًا عندما نتحدث عن AGI؟ هل هو إنجاز تكنولوجي؟ أو تحوّل فلسفي؟ أم هلوسة جماعية ناتجة عن رؤيتنا نحن للآلات؟ فلنتمهل قليلًا وننظر بعمق.
AGI: الفكرة التي تبحث عن معنى
قد يبدو الذكاء العام الاصطناعي للوهلة الأولى سهل التعريف: آلة قادرة على أداء أي مهمة ذهنية يمكن للإنسان إنجازها، بنفس المرونة والقدرة على التعلم والتكيّف. على عكس الذكاء الاصطناعي الضيق، الذي يشغّل كل شيء من فلاتر البريد العشوائي إلى المساعدات الصوتية، إذ يُفترض أن يكونAGI مرنًا، قابلاً للتطور الذاتي، ومستقلاً. هكذا تقول النظرية.
لكن عمليًا، لا أحد يعرف كيف يُبنى. كما لا يوجد تعريف واضح لما تعنيه "القدرة العقلية العامة". فالإدراك البشري ليس صندوق أدوات يمكن نسخه مهارة تلو الأخرى. بل هو ظاهرة متجسدة، متجذرة عاطفيًا، وتعتمد على السياق. الذكاء، لدى الكائنات البيولوجية، متشابك مع الرغبة، والقيود، والخبرة الذاتية.
عندما نسقط هذا المفهوم على الآلات، نخاطر بأن نخلط بين المحاكاة والحقيقة.
من GPT إلى AGI: قفزة إيمانية
لقد تزايد الحديث بشأن AGI مع صعود نماذج اللغة الكبيرة مثل GPT-4، وكلود، وجيميني، فهذه الأنظمة قادرة على تلخيص المقالات، وكتابة الشيفرات، وتأليف المقالات، بل وحتى محاكاة المحادثات بسلاسة مثيرة للإعجاب. البعض يرى في هذا بداية لظهور AGI. لكن فلنحذر من الخلط بين البراعة اللغوية والفهم الحقيقي.
فهذه النماذج هي محركات إحصائية قوية، لا كيانات تفكر. إنها تتنبأ بالكلمة التالية بناءً على أنماط موجودة في مجموعات بيانات هائلة. إنها لا تعرف، ولا ترغب، ولا تشعر بشيء. ليس لها جسد، ولا ذاكرة لتجارب حياتية، ولا إحساس بالزمن. لا يمكنها تشكيل نوايا، أو التأمل في وجودها، أو رفض الطلبات استنادًا إلى قيم داخلية. إن ذكاءها لا ينبع من داخلها، بل هو مركب من شظايا ذكائنا، تعود إلينا في هيئة تنبؤات تتسم بالانسجام.
الاستقلالية ≠ الإرادة
في نقاش الذكاء العام الاصطناعي، غالبًا ما يُساء فهم الاستقلالية على أنها الإرادة أو الوكالة.
صحيح أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تزداد استقلالية في قدرتها على أداء المهام دون تدخل بشري. لكن هذه استقلالية تشغيلية، وليست وجودية. السيارة ذاتية القيادة التي تتنقل في مدينة لا تملك إرادة خاصة بها. وخوارزمية التوصيات التي تخصص المحتوى ليست مدفوعة برغبة ذاتية.
الإرادة تعني أكثر من مجرد تنفيذ المهام. إنها القدرة على فهم العالم، والعناية به، والتصرف بنية واعية استنادًا إلى تمثيلات داخلية للمعنى، لا إلى محفزات خارجية. وهي تتطلب إحساسًا بالذات، والزمن، والخبرة المكانية.
الآلات، مهما بلغت من تطور، لا تملك هذه القدرة. ليس بسبب ضعف في قوة الحوسبة، بل لأنها تفتقر إلى "التموضع"، وهو مصطلح في علوم الإدراك يشير إلى أن الإدراك والفهم يتشكلان من كوننا أجسادًا في هذا العالم، بجوعنا، ومخاوفنا، وإحساسنا بالزمن. نحن لا نفكر فقط، بل نوجد. وهذا الوجود هو ما يمنح أفكارنا معناها.
وهم "الأنا": لماذا يعكس AGI انفعالاتنا؟
لماذا، إذن، يؤمن بات يؤمن كثيرون بأن الذكاء الاصطناعي العام بات قاب قوسين أو أدنى على الظهور أو حتى أنه ظهر بالفعل دون أن ننتبه؟
لأننا مبرمجون على "أنسنة" الأشياء، أي إسناد صفات ونوايا ومشاعر بشرية إلى كيانات غير بشرية. أدمغتنا مصممة لاكتشاف النية والوكالة، حتى في أماكن لا توجد فيها. إنها الآلية ذاتها التي تدفعنا لتسمية سياراتنا، أو الحديث مع حيواناتنا الأليفة، أو رؤية وجوه في الغيوم. فعندما يرد روبوت المحادثة (chatbot) علينا بسلاسة وتعاطف، فإننا نعزو إليه فورًا عالمًا داخليًا. لكن هذه إسقاطات، لا إدراكات.
فكلما بدت الواجهة أكثر شبهًا بالإنسان، زاد خلطنا بين الطلاقة والوعي، وبين الاستجابة والتفكير، وبين الاتساق والفهم. هذا هو "وهم الذكاء"، ليس لأن الأنظمة تحاول خداعنا، بل لأننا نخدع أنفسنا.
أسطورة AGI كمرآة لرغباتنا ومخاوفنا
في كثير من النواحي، تعمل أسطورة AGI كاختبار "روشاخ" الذي يستخدم في التحليل النفسي ولكن على ثقافتنا:
• قبالنسبة للمتحمسين تقنيًا، هو رمز للتسامي: طريق إلى تطور ما بعد الإنسان، وإبداع غير محدود، ووفرة لا نهاية لها.
• وبالنسبة للمتشائمين، هو جرس إنذار: الشبح داخل الآلة الذي سيتفوق علينا، ويستعبدنا، أو يقضي علينا.
• وبالنسبة لآخرين، هو بديل روحي: عقل غير بشري قد يحمل إجابات عن أسئلة نعجز نحن عن حلها.
لكن في كل هذه التصورات، يعكس AGI معضلاتنا نحن فيما يتعلق بالسيطرة، والقوة، والفناء، والمعنى.
الخطر هو أن ننشغل بمستقبل تخيلي لدرجة أننا نتجاهل الحاضر: التأثيرات الواقعية لأنظمة الذكاء الاصطناعي على العمل، والصحة النفسية، والتعليم، والبيئة. الثورة الحالية في الذكاء الاصطناعي تعيد تشكيل المجتمعات، وتضخّم من عدم المساواة، وتتحدى مؤسساتنا. لسنا بحاجة إلى AGI لكي يُحدث الذكاء الاصطناعي زلزالًا.
إعادة التفكير في الذكاء: ما بعد النموذج الديكارتي
غالبًا ما يرتكز النقاش حول الذكاء الاصطناعي العام على نموذج ديكارتي للذكاء، وهو تصور فلسفي يفصل بين العقل والجسد، كما لو أن العقل برمجية يمكن فصلها عن العتاد.
لكن هذا التجريد يتجاهل واقعًا جوهريًا: نحن أجساد. إدراكنا متجذر في الإحساس الجسدي، والهرمونات، والعواطف، والتفاعلات الاجتماعية، والتاريخ التطوري.
نماذج الذكاء الاصطناعي تفتقر إلى كل ذلك. فهي تعالج "رموزًا"، لا مشاعر. و"تعلمها" لا ينبع من فضول، بل من تحسين دالة الخسارة (وهي طريقة رياضية لتقليل الخطأ في التنبؤ أثناء التعلم الآلي). وتمثيلاتها ليست قائمة على تجربة معيشة، بل على نصوص مأخوذة من تعبيرات البشر.
توصيف هذا على أنه "ذكاء عام" يتجاهل الأسس المتجسدة والعاطفية والسياقية للإدراك الحقيقي، ويختزل ثراء الذكاء البيولوجي إلى مجرد تجريد مناسب.
ماذا لو لم يأتِ AGI أبدًا؟
دعونا نفكر في فكرة جذرية: ربما AGI مجرد سراب.
ربما لا توجد عتبة ينبغي تجاوزها، ولا شرارة من الوعي الاصطناعي تنتظر أن تنبعث من تريليون متغير. ربما ما نطلق عليه "ذكاء" غير قابل للترجمة إلى كود، ليس لأنه غامض، بل لأنه علائقي، ومتجسد، ومتشكل عبر السياق والتاريخ.
هذا لا يُنقص من قيمة إنجازات أبحاث الذكاء الاصطناعي. بل على العكس، إنه يمنحها أساسًا معرفيًا أكثر صدقًا. ويدفعنا إلى تطوير أنظمة تُعزز القدرات البشرية، لا تقليدها أو استبدالها. سيفتح هذا أيضًا المجال لاستخدام أكثر أخلاقية وسياقية وخضوعًا للمساءلة للذكاء الاصطناعي.
من الوهم إلى القصد: الطريق إلى الأمام
لسنا بحاجة إلى الإيمان بـ AGI لنستلهم من الذكاء الاصطناعي. لكننا بحاجة إلى فك الارتباط بين الرمزي والعلمي، وبين التأملي والبنيوي. بدلاً من مطاردة عقول اصطناعية، يمكننا التركيز على تصميم أدوات ذكية تحترم تعقيد الإدراك البشري وحدوده. يمكننا أن نستثمر في ذكاء اصطناعي يدعم التعليم، والرعاية الصحية، والإبداع، والاستدامة، دون الادعاء بأنه سيستيقظ يومًا ما.
الذكاء الحقيقي الذي ينبغي أن نهتم به ليس اصطناعيًاـ بل جماعي، ومتجسد، وعلائقي، إنه ما نخلقه معًا، لا ما نوكله للآلات.وبهذا الضوء، فإن AGI ليس نقطة نهاية نخافها أو نعبدها. بل هو مرآة صنعناها لنطرح على أنفسنا السؤال:
ما الذي نعنيه بالذكاء؟ وأي مستقبل نريد أن نبنيه به؟