بغض النظر عن المآلات التي قد تتمخض عنها الحرب الاستفزازية التي شنتها إسرائيل على إيران دون شرعية قانونية، لا يتعين على أي من دول الشرق الأوسط أن تحلم بعالم سعيد حين تكمل إسرائيل سيطرتها المطلقة على المنطقة، تذل من تشاء وترضى عمن تشاء بناء على شروط أمنها وتسلطها. فإيران ، وإن اختلفت عواصم عربية عدة مع توجهاتها في ملفات كثيرة، ظلت تمثل القوة الوحيدة التي قد تلجم "الوحش" الإسرائيلي وتغوله على مزيد من الحقوق العربية.
والحقيقة أن تفكك إيران وانهيار دولتها المركزية ذات الحضارة العريقة والمساهمة التاريخية في الحضارة الإسلامية، لن يعود على العرب والمسلمين في المنطقة إلا بكارثة وخيمة على مستوى الأمن والاقتصاد، لكنه قبل ذلك سينسجم تماما مع الأطروحات الإسرائيلية التي يبدو أنها تسعى لتجزئة دول المنطقة على أسس عرقية ومذهبية لتكون في مجملها دويلات ضعيفة لا يجمعها رابط ولا تقوى إحداها على مناهزة القوة الإسرائيلية. ففي حال أفضت المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل إلى تحول إيران إلى دولة فاشلة دون سلطة مركزية. فإنها، بمساحتها الشاسعة (1.6 مليون كيلو متر مربع) وتنوعها العرقي والمذهبي على الشواطئ الشرقية للخليج ستشكل مصدرا لعدم الاستقرار وموجات الهجرة في منطقة تعاني من الاختلال الديمغرافي، كما ستكون مصدر تهديد لدول مثل تركيا وباكستان وروسيا. هذا الكابوس يمكن أن يصبح واقعا إذا سمحت أمريكا لإسرائيل بإسقاط النظام ومعه الدولة في إيران تحت دعاوى تذكر بما فعلته أمريكا في العراق وأفغانستان، ولم يجن منها شعبي البلدين وسكان الدول المجاورة سوى الدم والخراب.
إن الحلم الإسرائيلي بتجزئة دول المنطقة إلى كيانات ودويلات صغيرة، هو إحياء للمشروع الكولونيالي الغربي الذي ظهر للعلن بعد الحرب العالمية الأولى، وهو مشروع ليس خافيا على أحد، فقد أطلق وزراء في حكومة نتنياهو تصريحات بشأنه في سوريا، ، ويتحدث منظروه الصهيونيون عن تطبيقه في دول أخرى في المنطقة.
رغم ذلك، تروج آلة الدعاية الإسرائيلية المدعومة غربيا لسردية جديدة بشأن الحرب الاستفزازية على إيران مفادها أن ما تقوم به إسرائيل هو في الأساس دفاع عن النفس وحماية لمصالح الغرب وقيمه، وتلمح إلى أن الحكومات العربية تؤيد الحرب الإسرائيلية على إيران، وهو ادعاء سخيف لا ينطلي على غالبية شعوب المنطقة.
-
ترامب ونتنياهو طالبوا 17 مليون إيراني في طهران بالرحيل عن عاصمتهم
الهدف المعلن لهذه الدعاية ليس فقط إسكات أية انتقادات رسمية على ما تشعله إسرائيل من نيران في المنطقة- لأن معظمها قد سكت بالفعل - بل مطالبة العواصم القريبة من إسرائيل والبعيدة عنها بشكر إسرائيل ودفع الثمن "على ما تقوم به من ضربات" ضد بلدان عربية مجاورة على مدى العقود الماضية. هذا الاقتباس تحديدا هو ما قالته السفيرة الإسرائيلية في بريطانيا تسيبي هوتوفلي في مقابلة مع بي بي سي إن "أوروبا ودول الخليج يدينون بشكر كبير لإسرائيل على ما تقوم به من ضربات لتدمير المشروع النووي الإيراني".
لكن بين المعلقين الإسرائيليين من هو أكثر تبجحا من السفيرة التي تتحدث إلى صناع القرار، أحد هؤلاء هو مئير مصري، الأستاذ في الجامعة العبرية وصاحب الظهور المتكرر بصفته الأكاديمية، على قنوات تلفزة مثل بي بي سي عربي والجزيرة أحيانا، والذي غرد مؤخرا يقول "انتهى عصر التطبيع مع إسرائيل بالمجان. بعد الحرب، سوف نطالب المطبعين العرب بدفع الجزية". أمثال مصري وهوتوفلي ممن يلبسون قناع التحضر والقانون الدولي عندما يخاطبون المؤسسات الغربية ويبتزون ضميرها، يمارسون العنصرية والتحريض على استهداف المدنيين علنا في حديثهم عن العرب والمسلمين. لا عجب إذن أن يصبح مئير مصري ذاته، الذي تدينه تغريداته بالعنصرية والتحريض على العنف، مستشارا لأكبر مؤسسة صهيونية تبتز الإعلام وتطارد الإعلاميين مطاردة الساحرات بدعوى "معاداة السامية".
لقد قررت إسرائيل منذ قيامها ألا تعيش في بيئة طبيعية، أي دولة عادية ذات حدود معلنة كبقية "خلق الله" ، حتى لو حاربت جيرانها، فغلبوها مرة وغلبتهم مرة ثم تصالحوا كما شهد تاريخ الشرق الأوسط على أممه منذ الأزل. لكنها اختارت، أو صُممت لتحاكي نموذج المستوطن الأمريكي، راعي البقر الأبيض الذي حل وحيدا وسط مجموعة السكان الأصليين غير المتحضرين، وقرر أن يسلبهم كل شيء ليحيا ويصبح السيد المطلق على من تبقى منهم. كمشروع استيطان إحلالي أو قلعة غربية متقدمة، قررت إسرائيل أن تخضع جيرانها لقوتها، وساعدها الدعم الغربي والأمريكي الدائم على ترويج فكرة مخادعة بأنها "الحمل الوديع" الذي تتربص به ذئاب العرب والمسلمين، فلابد من حمايته. في سياق الفكرة الصهيونية، لا يوجد عربي طيب سوى العربي الذي يقبل ما تفعله إسرائيل، وينصاع لقوتها حسب شروطها.
هكذا اخترعت آلة الدعاية الإسرائيلية المدعومة غربيا مبررات لا تنضب للعدوانية الإسرائيلية التي لم تتوقف منذ إنشاء الدولة في عام 1948. بدءا من أكذوبة أن الدول العربية كادت تفتك باليهود الناجين من المحرقة، بينما تؤكد الوقائع التاريخية أن هذه الدول جميعا لم تمتلك أي قوة تناهز قوة وجيش العصابات الصهيونية المدربة والمسلحة جيدا، والدليل على ذلك هو مذابح القرى العربية وتهجير 700 ألف فلسطيني من أرضهم، مرورا بأسطورة سعي عبد الناصر لإلقاء إسرائيل في البحر وخديعة الهزيمة في 1967، كانت إسرائيل منذ إنشائها ولا تزال – في المخيال الغربي- هي الصورة التوراتية للفتى الطيب داوود الذي يقتل بمقلاعه وحجره الجبار جالوت، وكانت الحكاية في كل مرة تلقى التصفيق والانبهار من عقول غربية نقضت الغيبيات في كل شيء، إلا ما يتعلق بالوعد الإلهي لإسرائيل.
إن الدعاية الإسرائيلية التي تكررها عواصم القرار في واشنطن وأوروبا عن "الخطر الوجودي" المتمثل في برنامج إيران النووي هي نوع من التلفيقات التي لا يتصدى لها إلا قليلون . فواقع الحال أن إيران والدول الست (الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا وألمانيا) قد وقعوا اتفاقا بخصوص البرنامج النووي الإيراني في عام 2015 بعد 20 شهرا من مفاوضات ماراثونية، ليدخل الاتفاق حيز التنفيذ في 20 يناير 2016. فماذا حدث بعد ذلك؟ لقد التزمت طهران بالاتفاق، وتفاءل المجتمع الدولي خاصة – الاتحاد الأوروبي- بإمكانية احتوائها وتليين مواقفها في قضايا عديدة، لكن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق تحت إدارة ترامب الأولى وبتحريض من إسرائيل ورئيس وزرائها وقتها بنيامين نتنياهو- هل يكرر التاريخ نفسه؟- وفرضت اقصى العقوبات على إيران وقطعت صلتها بالنظام المالي الدولي. لم تكن إيران، حسب تقديرات المخابرات الأمريكية- قريبة من تصنيع سلاح نووي، لكن عقيدة التفوق الإسرائيلية لا تقبل أن تمتلك دولة آخرى في المنطقة حق الاقتراب من تلك النقطة، بينما تمتلك إسرائيل حسب تقديرات موثوقة أكثر من 200 رأس نووي.
في أوائل الستينيات من القرن الماضي، كانت إسرائيل تستهدف العلماء الألمان المشاركين في البرنامج المصري لتصنيع الصواريخ بالاغتيال والترهيب، لتعطل البرنامج، وفي الوقت نفسه كانت تصنع بتواطؤ أوروبي وأمريكي برامج أسلحة الدمار الشامل من نووية وكيماوية وبيولوجية. رهبت واشنطن في تلك الفترة العديد من الدول لإجبارها على الانضمام لمعاهدة الحظر النووي، إلا إسرائيل. وحين سعى جون كينيدي للضغط على بن غوريون وخليفته ليفي أشكول لمنع تصنيع سلاح نووي، تلاعب الإسرائيليون بتلك الضغوط. عندما جاء مدير المخابرات الأمريكية ريتشارد هيملز ليبلغ ليندون جونسون في 1968 أن إسرائيل امتلكت القنبلة بالفعل، طلب الرئيس الأمريكي منه ألا يخبر دوائر الحكومة بالأمر، وكأنه لم يعرف. إن إسرائيل هي أول من أدخل السلاح النووي إلى الشرق الأوسط، تحت غطاء أمريكي وغربي، وليس لأحد غيرها أن يمتلك هذه الميزة أو يسعى إليها. فأمريكا دمرت العراق تحت ذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل بتحريض من إسرائيل، وهددت كوريا الشمالية وسوريا وليبيا للسبب نفسه.
عقيدة التفوق الإسرائيلي المقبولة غربيا، لن تقبل أن تتمتع أي دولة عربية أو إسلامية في الشرق الأوسط بقدرات عسكرية تقترب من مستوى قدراتها أو تماثلها. فاللوبي اليهودي في واشنطن لا يتردد في معارضة كل صفقة لبيع أسلحة متقدمة للسعودية والإمارات ومصر، يمكن أن تماثل ما تحصل عليه إسرائيل مجانا. في الحالة المصرية أيضا، لا تتوقف آلة الدعاية الإسرائيلية عن التشهير بأي محاولة مصرية لتعزيز الوجود العسكري في شبه جزيرة سيناء بحجة اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، بينما تتمركز قوات إسرائيل وطائراتها على محور فيلادلفي على بعد أمتار من الحدود الدولية. الفيتو الإسرائيلي على التسلح في الشرق الأوسط لم يعد قاصرا على الدول العربية، فهو الآن يهدد تركيا لتحجيم نفوذها في سوريا ولإبقاء سوريا دولة منزوعة السلاح، مثلها مثل لبنان.
إن الحلم الإسرائيلي بإعادة تشكيل الشرق الأوسط هو الكابوس الأخطر الذي يواجه المنطقة منذ عقود . وأشك أنه سيقوم على التجارة والسلام والربح كما يروج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكنه يضع المنطقة ودولها جميعا، تحت رحمة السيد الإسرائيلي. قد يتحقق هذا الكابوس ويبقى لبعض الوقت، لكن رمال الشرق الأوسط جرفت على مدى قرون كثيرا من الإمبراطوريات والغزاة العابرين الذين لم يتشربوا ثقافة المنطقة الضاربة في عمق التاريخ ولم يعرفوا أن هذه الشعوب لا تنسى ولا تغفر حتى وهي في أوهن أوضاعها.