من البديهي القول إن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا جلب معه تغييراً هائلاً على صعيد العلاقات الخارجية للبلاد وموقعها الإقليمي بالتوازي مع التغيير الهائل في الداخل، فهروب الأسد صبيحة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي شكّل حلقة جديدة من سلسلة ضربات قاسية تلقاها المشروع الإيراني في المنطقة بشكل متتابع منذ الهجوم المفاجئ الذي شنته حركة حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023. إذ شملت هذه الضربات ما تعرضت له حركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين الحليفتين لإيران من تحطيم لبنيتهما واغتيال عدد كبير من قياداتهما السياسية والعسكرية، ومن ثم الهزيمة القاسية التي تعرض لها حزب الله في لبنان والتي شهدت تكثيفها في النصف الثاني من أيلول/ سبتمبر الماضي مع هجمات أجهزة البيجر واغتيال قادة قوة الرضوان النخبوية في الحزب ومن ثم اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، بالإضافة إلى الضربات المستمرة التي تتعرض لها حركة "أنصار الله" الحوثية في اليمن، والتي لا تزال صامدة في عدائها لإسرائيل رغم ذلك، وكل ما سبق يتوازى مع مساع بطيئة، وإن كانت متواصلة، للحد من تأثير حلفاء طهران في العراق.
من البديهي أيضا، القول إن ما خلّفته إيران من فراغ في سوريا، ستسعى قوى إقليمية عدة لمحاولة ملئه، خاصة مع الضعف البالغ الذي تعانيه الدولة السورية الجديدة على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية. وهنا بالتأكيد، يبرز جارا سوريا الأكثر قوة وتماسكاً على هذه الصعد بالتحديد، أي تركيا شمالاً وإسرائيل جنوباً، ولكل من البلدين في هذا الوضع الجديد مصالح ومخاوف تتناقض أكثر مما تنسجم، فيما تشكل سوريا اليوم ما يشبه جسراً يصل بينهما، أو بالأحرى حاجزاً يفصلهما، وساحة رئيسية للتنافس على النفوذ بينهما.
أكراد في الشمال ودروز في الجنوب
تجسّد المسألة الكردية الهاجس الأول والرئيسي بالنسبة لأنقرة في سوريا، هذا الهاجس تحول على مدى سنوات لتهديد حقيقي بالنسبة لتركيا التي ترى المسألة بعدسات الأمن القومي بالغة الحساسية، إذ تصاعدت قوة الأكراد السوريين، وتحديداً الجناح المدعوم من حزب العمال الكردستاني، لسنوات على حساب فصائل المعارضة السورية العربية المدعومة تركيّاً بالتحديد والاستفادة من التحالف مع الولايات المتحدة في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وسيطروا على مساحات واسعة من مناطق شمال وشمال شرقي سوريا، وأسّسوا قوات سوريا الديمقراطية (قسد) جيّدة التنظيم والتسليح.
-
تركيا تهدف للحفاظ على وحدة سوريا تحت قيادة عربية سنية، وهو ما تعارضه إسرائيل
لاحقاً، وبالتدريج، نجحت تركيا في الحد من التمدد الكردي، بيد أن ما تراه تهديداً قادماً من الجانب الآخر من الحدود ما زال قائماً، فبعض المدن الرئيسية في الشمال الشرقي لسوريا وكذلك أهم حقول النفط لا تزال تحت سيطرة الفصائل الكردية. وفي هذا السياق، كانت لافتة التصريحات التي أدلت بها القيادية الكردية إلهام أحمد لصحيفة جيروزاليم بوست قبل عدة أشهر وقالت فيها إن "أزمة الشرق الأوسط تتطلب من الجميع أن يفهموا أنه بدون لعب إسرائيل والشعب اليهودي دوراً، لن يحدث حل ديمقراطي للمنطقة". لكن، وعلى الرغم من هذه الإشارة، لا تبدو إسرائيل مرشحة للعب دور فعّال على الصعيد الكردي السوري، أولاً بسبب المسافة الجغرافية الفاصلة بين مناطق الكثافة الكردية وإسرائيل، وثانياً كي تتجنب مواجهة مفتوحة وأكثر فداحة مع تركيا.
في مقابل الأقلية العرقية الكردية شمالاً، تبرز أقلية الدروز الدينية جنوباً كعامل يشكل أولوية بالنسبة لإسرائيل، رغم أن نسبة الموحدين الدروز في إسرائيل لا تزيد عن 1.6% من إجمالي السكان. وفي هذا الجانب، تواترت التصريحات الإسرائيلية الرسمية عن خطوط حمراء والالتزام بحماية الدروز! وهو ما تمثل في هجمات شنتها طائرات مسيرة إسرائيلية على قوات الحكومة السورية خلال مواجهات الأخيرة مع فصائل محلية درزية قبل أسابيع، بينما يستمر التوتر بين السلطة المركزية في دمشق ومحافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية والتي لم تدخلها قوات الأمن أو الجيش السوريين لغاية اليوم.
وعلى خلفية هذا المشهد تحديداً، ، يجري الحديث عن تقسيم سوريا إلى منطقتي نفوذ، شمالية تحت الهيمنة التركية، وجنوبية تتفوق فيها إسرائيل.
فصائل وجهاديون وجيش جديد
في القلب من التباعد التركي الإسرائيلي بشأن سوريا، تقع الخلفية العملية والفكرية الإسلامية الجهادية لفريق الحكم الراهن، وفي مقدمته الرئيس أحمد الشرع، الذي لا يمكن تجاهل دلالة اسمه الحركي السابق: أبو محمد الجولاني، أي المنحدر من مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل وقررت ضمها عام 1981 متحدية قرارات الأمم المتحدة في هذا الصدد.
نسجت تركيا بعيد اندلاع الثورة السورية ضد بشار الأسد عام 2011 علاقات وثيقة مع العديد من الحركات المسلحة، كفصائل "الجيش الوطني" التي خاضت بالنيابة عن أنقرة أو بالتعاون معها معارك ضد الأكراد في الشمال السوري، وهي اليوم جزء أساسي من قوات وزارة الدفاع السورية. وبحكم الأمر الواقع، امتدت علاقات تركيا مع الجهات العسكرية في الداخل السوري إلى جبهة النصرة، ومن ثم وريثتها "هيئة تحرير الشام" التي قادت عملية "ردع العدوان" العسكرية التي أدت لإسقاط الأسد، وباتت الحاكم الفعلي لدمشق. بل إن لبعض الجهاديين الأجانب في سوريا، وتحديداً المنتمين لعرقية الإيغور التركستانية، علاقات وجدانية وثقافية وسياسية خاصة مع تركيا، ويشكل هؤلاء بالمناسبة الكتلة الأكبر والأبرز بين الجهاديين بتعداد يفوق ثلاثة آلاف مقاتل، وفق أغلب التقديرات.
لا تمتلك إسرائيل علاقات مماثلة مع أي من هذه الحركات، بل على العكس من ذلك، تنظر إليها بعيون الشك والعداء، وتعتبرها صراحة أحد أبرز التهديدات الأمنية لها في المدى المنظور، ويبدو أن الهاجس الأمني المسيطر على مراكز القرار الإسرائيلية أصبح أكثر حدة منذ هجوم السابع من أكتوبر، ولا تفرق الرؤية الإسرائيلية بين الفصائل السورية الإسلامية أو ذات الميل الإسلامي أو المقاتلين الأجانب. فالعين الإسرائيلية القلقة تنظر إلى أي كتلة بشرية هائلة بالقرب من الحدود الإسرائيلية، سواء كان ذلك في سوريا أو الضفة الغربية أو جنوب لبنان أو الأردن على أنها مصدر تهديد محتمل. و تخشى إسرائيل من أي نشاط مسلح، مركزي أو غير مركزي، منظم أو غير منظم، عند حدودها. وكانت إسرائيل قد شنت مئات الغارات طيلة الأعوام الفائتة لقطع خطوط إمداد حزب الله بالسلاح القادم من إيران عبر العراق، واستئصال أي احتمال لنشوء كيانات مماثلة للحزب اللبناني في الجنوب السوري، أو حتى تحطيم أي وجود محتمل للحزب وإيران وحلفائهما قرب الجولان. وواظبت على شن الغارات بعد سقوط الأسد بهدف تحطيم القدرات العسكرية الاستراتيجية للنظام الجديد.
يتعارض هذا القلق الإسرائيلي من أي قوة منظمة معادية قربها مع تخطيط وزارة الدفاع السورية لتشكيل جيش ضخم قوامه 200 ألف جندي وضابط، وفق ما ذكرت صحيفة ذا ناشيونال الإماراتية نقلاً عن مسؤول عسكري سوري. وقد لا تكون كافيةً رسائلُ التطمين التي ترسلها السلطات السورية حول حرصها على إقامة علاقات حسن جوار مع كل الأطراف وعدم الاعتداء على أحد، ولن يستكين الإسرائيليون بالطبع إلى حقيقة أن العديد من جيوش المنطقة إنما بُنيت لضبط الداخل أكثر مما هو لمحاربة الخارج. ومما يضاعف المخاوف الإسرائيلية بهذا الخصوص، ليس العلاقات الوطيدة للأتراك مع الفصائل السورية المنضوية في وزارة الدفاع فحسب، بل التكهنات بتولي تركيا تدريب الجيش السوري وتسليحه. وبالتأكيد، لن تكون أي حكومة إسرائيلية مرتاحة لفكرة امتلاك هذا الجيش للطائرات المسيّرة التركية على سبيل المثال، والتي أثبتت فعاليتها الاستثنائية خلال الحرب الروسية الأوكرانية.
أبعد من سوريا
في الصورة الأوسع، ثمة تنافس على الدبلوماسية الإقليمية بين إسرائيل وتركيا كأبرز قوتين في المنطقة مع انحسار الدور الإيراني. لا تقتصر العلاقات الجيدة للحكومة السورية على أنقرة، فقد زار الرئيس أحمد الشرع الرياض والدوحة والكويت والمنامة وعمّان وأبو ظبي، وهنا يمكن القول إن الاحتضان العربي السنّي للنظام الوليد تلعب فيه المملكة العربية السعودية دوراً جوهرياً، وتلتقي فيه دول الجوار العربي مع تركيا (والاتحاد الأوروبي أيضاً) على دعم دمشق. كما نجحت هذه الدول في إقناع الإدارة الأميركية بمقاربة الأوضاع السورية بمعزل عن الأولويات الإسرائيلية، وهو ما تجسد في موافقة الرئيس دونالد ترمب على تجميد العقوبات المفروضة على سوريا، ومباركة ضم مقاتلين أجانب للجيش السوري كحل لهذه المعضلة الأمنية المركبة.
في خضم هذا التنافس الإقليمي أيضاً، ستفضل تركيا أن ترى سوريا مركزية موحدة تحت سلطة عربية قوية مستقرة، لضبط الطموحات الكردية المشار إليها أعلاه أولاً، وللتناغم مع هوية الحلفاء الإقليميين الآخرين ثانياً، ولأن استباب الاستقرار هو ما يضمن تعزيز التجارة البينية مع سوريا ودول الخليج من ورائها ثالثاً. أما الإسرائيليون، فتفضيلاتهم في هذا الصدد تذهب باتجاه سوريا فيدرالية أو لا مركزية بأوضاع مميزة للأقليات الدينية والعرقية، وأن تنضم لمنظومة الاتفاقات الإبراهيمية.
إنّه ليس الاقتصاد
ومع تجميد العقوبات الأميركية ورفع نظيرتها الأوروبية عن سوريا، تجد تركيا نفسها أمام فرصة هائلة للاستثمار في سوريا، البلد الذي يحتاج إلى عملية إعادة إعمار بمئات مليارات الدولارات. وسيكون أمام الشركات التركية فرص استثنائية في مجالات الطاقة والبناء والخدمات والنقل والتصنيع وغيرها، علماً أن التجارة الثنائية بين سوريا وتركيا قاربت ملياري ونصف المليار دولار عام 2010 قبل أن تتراجع بشكل حاد مع بدء الثورة السورية والافتراق في المواقف بين نظام الأسد وحكم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان.
من جانبها، لا تملك إسرائيل علاقات تجارية مع سوريا، ولا يبدو أن أي تغيير جوهري قد يحدث في هذا الإطار قريباً، والحديث عن استعانة إسرائيلية محتملة بعمالة سورية في مناطق الجنوب للعمل في مجالات الصناعة والبناء والزراعة في القرى الدرزية في الجولان لا يتعدى محاولات التأثير الناعمة.
بالمحصلة، ليس خافياً تضارب الأولويات في سوريا بين إسرائيل وتركيا، والتجاذب بينهما على هذا الصعيد يمتد من الرغبة في استقرار الحكم الجديد (كما تريد أنقرة) من عدمها (كما تفضل إسرائيل) إلى العلاقات مع القوى المحلية وصولاً إلى التنافس الإقليمي، لكن الطرفين ما زالا يُفضلان التنسيق والاحتواء بدل المواجهة المباشرة، غير أن مسار هذا التوازن هش ومعرض للتغير.