لكن ما يحدث في مصر وأماكن أخرى من العالم الإسلامي في الوقت الراهن، يغير من التجربة الثقافية السائدة ليجعلها تجربة "الشره" : المزيد من الاستهلاك، المزيد من الترف، والمزيد من الانفصال عن معنى الشهر الكريم.
لا شيء يجسد هذا التحول أكثر من جدول الدراما التليفزيونية في رمضان. فبعد أن كانت المسلسلات الرمضانية تجربة جماعية تعكس تفاصيل الحياة المصرية، تحولت اليوم إلى استعراض تجاري ضخم، يفضل الكم على الكيف، والإبهار على الجوهر، والربح على الأصالة. هذا التحول أدى إلى تشويه دور المسلسلات الرمضانية التي من المفترض ان تكون مرآة للمجتمع المصري، مما أدى إلى سوء تمثيل المجتمعات المصرية على الشاشة وشعورها بالتهميش.
لطالما كان الترفيه جزءًا لا يتجزأ من تقاليد رمضان. فالفوانيس ومدفع الإفطار و المسحراتي الذي يوقظ الناس للسحور، ومائدة الطعام الاحتفالية، جميعها رموز ترتبط بذاكرة ثقافية جماعية. لكن الآن تغير الوضع، واصبح من الصعب تحديد اللحظة التي بدأ فيها الترفيه يتفوق على هذه التقاليد.
قبل أن يصبح التليفزيون في مصر أداة للهيمنة خلال رمضان، كانت العائلات تجتمع حول الراديو للاستماع إلى "فوازير رمضان" التي كانت تقدمها أمال فهمي ويكتبها بيرم التونسي في الخمسينيات وأوائل الستينيات. ومع ظهور التلفزيون الأبيض والأسود، قُدمت "فوازير الثلاثي"، التي ضمت نجوم فرقة "ثلاثي أضواء المسرح" سمير غانم، جورج سيدهم، والضيف أحمد، مما رسّخ الترفيه كجزء لا يتجزأ من تجربة رمضان. لكن أشكال الاستهلاك الإعلامي المبكرة هذه كانت تفاعلية، محفزة فكريًا، ومتجذرة بعمق في الثقافة المصرية. فقد كانت العائلات تتنافس لحل الفوازير معًا، مما جعل الترفيه الرمضاني تجربة توحيدية.
مع مرور الستينيات، أصبحت الدراما التلفزيونية جزءًا من المشهد الرمضاني. فقد عُرض أول مسلسل تلفزيوني مصري، "هارب من الأيام"، في عام 1962، رغم أن ارتباطه برمضان كان محل جدل. لكن مثالًا أكثر وضوحًا هو مسلسل "القاهرة والناس"، الذي عُرض أسبوعيًا قبل رمضان وأثناءه وبعده عام 1968، وكان على غرار المسلسل الأمريكي "بيتون بلايس". وعلى عكس الأعمال الحالية ذات الميزانيات المالية الضخمة، كانت حلقات المسلسل تتناول الصراعات الاجتماعية والاقتصادية، والبيروقراطية، والواقع اليومي للطبقة الوسطى المصرية بعد حرب 1967، وضم نجومًا مثل نور الشريف ومحمود ياسين، الذين أصبحوا لاحقًا رموزًا في السينما المصرية.
-
فرقة "ثلاثي أضواء المسرح" قدمت العديد من الاعمال الفنية الشهيرة في الستينيات
الأمر اللافت للنظر كان مدى صراحة وحرية المسلسل في تناول القضايا التي تهم الجماهير. فقد وصف المخرج محمد فاضل كيف كان فريق المسلسل يجتمع كل بضعة أسابيع لإعداد حلقات تعكس قضايا المجتمع الراهنة، بما في ذلك الفساد في انتخابات الاتحاد الاشتراكي في مصر( التنظيم السياسي الوحيد وقتها). في ذلك الوقت، كانت الرقابة شكلية إلى حد كبير؛ فالحياة الحقيقية للمصريين كانت تصل إلى الشاشة. وهذا يطرح تساؤلًا: هل جاء تراجع التمثيل الصادق للمجتمع نتيجة لتغيرات في قوانين الرقابة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فمن المستفيد من هذا التغيير؟
الاستعراض التجاري بديلا عن القصة
لسنوات طويلة، ظلت مشاهدة دراما التلفزيون في رمضان تجربة جماعية. عندما كنت طفلة، كانت عائلتي تجتمع معا لمشاهدة مسلسل واحد، الحلقة الواحدة تعرض لمرة واحدة. هي لحظة واحدة مشتركة كل مساء لمدة 30 يومًا. وبينما كان المنزل يعج عادةً بأصوات تتنادي للإفطار أو السحور أو الصلاة، كان الصمت يسود بشكل مفاجئ بمجرد بدء الحلقة، في تناقض صارخ مع تفاعلنا العائلي العادي . الآن، عندما أتذكر ذلك الصمت، أتساءل إن كان وقتها نذيرًا بالتحول الثقافي الذي كنا مقدمين عليه؟
مع انخراطي في صناعة الترفيه، لاحظت تحولًا مقلقًا: لم يعد تلفزيون رمضان يدور حول الترابط العائلي في سياق قصص الدراما، بل أصبح سباقًا. سباقًا لإنتاج المزيد من المحتوى، وجذب المزيد من الإعلانات، وصناعة اتجاهات ثقافية مؤقتة. غرق جوهر السرد القصصي في حوافز رأسمالية، وأصبح الجواب عن سؤالي السابق أكثر وضوحًا: الصناعة هي المستفيد، بينما تضيع الأصالة.
اليوم، تفشل المسلسلات المصرية بشكل متزايد في عكس واقع المجتمعات المصرية. تبدو الشخصيات مصطنعة، وقصصها منفصلة عن التجارب الحقيقية. تفضل العديد من الأعمال التلفزيونية البذخ والأنماط الحياتية غير الواقعية والمصالح التجارية على العمق والتنوع والارتباط بالواقع. وبدلًا من تصوير التنوع الثقافي والاجتماعي لمصر، تقدم المسلسلات نسخة مبهرة من مصر لا يعرفها أو يتعرف عليها غالبية المصريين.
الزيف على الشاشة
كممثلة، قرأت سيناريوهات ولعبت أدوارًا لا تمثلني، ولا تمثل أصدقائي أو عائلتي. الاستثناءات النادرة، تقتصر على واحد أو اثنين، حافظت على شيء من الأصالة لتذكرني بما كان عليه التلفزيون المصري يومًا ما: مساحة للسرد الحقيقي، والحوار الهادف، والتأمل الثقافي.
لكن في معظم الأحيان، أجد نفسي أمام شخصيات غير واقعية، لا تتناسب ملامحها مع العالم الذي يُفترض أنها تنتمي إليه. أرى ممثلين يقضون ساعات في غرف المكياج، يرددون حوارات لا يؤمنون بها، ويؤدون أدوارًا بعيدة كل البعد عنهم وعن الواقع. ما يضيع في هذه العملية وهو الأصالة الثقافية، التمثيل الحقيقي، والنزاهة الفنية، يُعتبر مجرد خسائر جانبية في عملية الربح.
بلغت عبثية هذا الاستغلال التجاري ذروتها عندما لاحظت مشهدًا في مسلسل كوميدي رمضاني يظهر فيه منظر جوي للقاهرة، لأكتشف لاحقًا أن إحدى شركات الأجهزة المنزلية قد دفعت أموالا لحشر لوحة إعلانية لها في المشهد العلوي للمدينة عبر المؤثرات البصرية بالكمبيوتر. أدركت حينها أنه حتى المشهد الجوي للقاهرة قد تم تغييره لخدمة المصالح التجارية، وشعرت وكأنني أعيش داخل حلقة من مسلسل Black Mirror.
لقد حاصر النمط التجاري للمسلسلات الرمضانية المبدعين، من كتاب ومخرجين وممثلين، وأجبرتهم على الخضوع لآلة تضع الكم فوق الكيف، والاستعراض فوق المضمون. يشعر العديد من زملائي بالإحباط، وهم تحت ضغط رغبة البقاء في دائرة الضوء ضمن صناعة حولت السرد القصصي إلى سلعة استهلاكية تُستخدم لمرة واحدة!. وأنا أيضًا وجدت نفسي عالقة في هذه الدوامة، أعمل في مسلسلات لا أؤمن بها، فقط للبقاء حاضرة في المشهد الفني.
لماذا؟ لأنه حين تعمل في صناعة تقيس نجاحك بمدى حضورك في دائرة الضوء، يصبح الغياب مخاطرة . فرفض المشاركة يعني خطر النسيان. لذا، نرضخ، نتأقلم، نصبح جزءًا من الآلة، على أمل أن يأتي يوم تستعيد فيه القصة الدرامية مكانتها الحقيقية.
لم يعد سباق التلفزيون الرمضاني يدور حول السرد الثقافي، بل أصبح عن الإفراط في الاستهلاك. فكما تزيد العادات الغذائية والاجتماعية والاستهلاكية عن المعتاد خلال رمضان، يتضخم أيضًا استهلاكنا الإعلامي. وبدلًا من التركيز على عدد محدود من الأعمال الهادفة والمتقنة، تُغرق شركات الإنتاج السوق بأكثر من 30 مسلسلًا، كل منها يتنافس على جذب الانتباه، والإعلانات، والسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
استعادة "دراما رمضان"
ربما لا يكمن الحل في الكثرة، بل في الانتقاء والعمق. وكما فعل مسلسل "القاهرة والناس" في السابق، يحتاج المشهد الإعلامي اليوم إلى أعمال أقل، لكنها أكثر تأثيرًا: قصص تتحدى، تعكس، وتتفاعل مع واقعنا المعاصر، بدلًا من أن تكون مجرد حشو للوقت. بعض الأعمال الحالية التي تتناول قضايا مثل حقوق المرأة، وأخلاقيات التكنولوجيا، وإساءة معاملة الأطفال، والظلم المؤسسي، تحمل أهمية ثقافية أكبر بكثير من سيل المسلسلات التي أفرغتها المصالح التجارية من محتواها.
فالوفرة لا تعني بالضرورة الثراء. في الواقع، يؤدي الإفراط في الدراما الرمضانية إلى تراجع المعنى، حيث أصبح السرد القصصي ثانويًا مقارنةً بالاستعراض البصري. ما كان يومًا فرصة للتفاعل الجماعي، تحول بشكل متناقض إلى عامل للانفصال، مما جعل الشهر الذي يفترض أن يكون وقتًا للتأمل والتواصل المشترك، ساحة أخرى للنزعة الاستهلاكية التي لا تحدها قيود.
والمفارقة أن روح رمضان الحقيقية روح المجتمع، والحضور، والتواصل العميق، لا تجد مكانا في المسلسلات المبهرة التي تغمر شاشات التليفزيون، لكن بوسع المرء أن يجدها في الواقع الحياتي: في الشوارع، حيث يجتمع الناس وسط ضجيج المقاهي بعد الإفطار، يتشاركون في لعب طاولة النرد على فنجان قهوة. في الطقوس البسيطة التي لم تخربها آلة الاستعراض. ومع استمرار تضخم الإنتاج الرمضاني، ربما لم تعد أكثر القصص أصالة تلك التي ترويها المسلسلات على الشاشة، بل في المساحات التي لم تسيطر عليها بعد.