ظلت قضية الهوية حاضرة بشكل مؤرق وإلحاح شديد على السياسيين والمثقفين والنخب السودانية، منذ أن طرحوا على أنفسهم هذا السؤال البسيط المباشر: هل نحن عرب أم أفارقة؟ ومنذ أن حذر بعضهم من أن سؤال الهوية هذا يمكن أن يكون سببا في تفكك البلاد وضياعها إذا لم يحسن السودانيون إدارة التنوع الذي تقوم عليه بلادهم، لكن لعل أكثرهم تشاؤما لم يكن يتوقع أن يصل الحال إلى ما وصل إليه خلال الحرب الراهنة التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل عام 2023. هذه الحرب التي لم تكن الأولى في تاريخ السودان المستقل، فقد سبقتها حروب أُخر(حرب الجنوب، حرب دارفور، والحرب في جبال النوبة والنيل الأزرق)، فما الذي يجعلها مختلفة عن سابقتها بالنسبة للوطن والمواطنين؟
لعل الاختلاف الأول والأبرز هو الشمول الجغرافي، فالحروب السابقة كما يبدو من الأسماء التي عرفت بها (الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق) انحصرت في مناطق محددة، تلك المناطق التي عرفت في أدبيات بعض الكتاب والسياسيين السودانيين بمناطق الهامش، مقابل المركز الذي يتمثل، في نظر البعض، في العاصمة الخرطوم وشمال البلاد ووسطها وربما شرقها. ورغم أن هذا الفرز بين الهامش والمركز ربما لا يكون دقيقا، فإن الحقيقة هي أن الحروب السابقة انحصرت في تلك المناطق الجغرافية بينما تمددت الحرب الحالية لتشمل كل ولايات السودان تقريبا، وحتى تلك الولايات التي ظلت بعيدة عن المواجهات الميدانية المباشرة لم تسلم من هجمات المسيرات (الدرونز) التي تملكها قوات الدعم السريع والتي استهدفت محطات الكهرباء مؤخرا في ولايات القضارف والشمالية، في شرق السودان وشماله.
الاختلاف الثاني هو أن كل الحروب السابقة اندلعت أول الأمر بسبب الشعور بالتهميش والتنمية غير المتوازنة والمطالب الجهوية، ثم طوَّرت الحركات المسلحة فيما بعد خطابا سياسيا للتعبير عن هذه المطالب، لكن أحد أبرز العوامل المسببة لحرب الخامس عشر من أبريل هو الخلاف السياسي بين الجنرالين عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي وقائد الجيش ونائبه محمد حمدان دقلو الشهير بـ "حميدتي"، وخاصة فيما يتعلق بتطبيق الاتفاق الإطاري الموقع بين الجيش والدعم السريع وقوى سياسية سودانية في ديسمبر 2022. في مرحلة لاحقة بعد اندلاع الحرب برز الخطاب الجهوي والقبلي والمناطقي ليشكل عاملا هاما في تأجيج القتال واستمراره.
أما الاختلاف الثالث فهو الفرز المجتمعي الحاد على مستوى المدينة أو القرية أو الحي. ويذكر كاتب هذا المقال ويذكر معه ملايين السودانيين، أنه عندما اندلعت حرب الجنوب في نسختها الثانية مرة أخرى عام 1983، ظل مئات الآلاف من الجنوبيين يعيشون في مدن الشمال دون أن يُستهدفوا بسبب انتمائهم العرقي، أما ما وصل إليه الحال اليوم فهو أمر يفوق الخيال السياسي، حيث تداول السودانيون مشاهد مروعة لاستهداف سكان "الكنابي" عقب استعادة الجيش لمدينة مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، من قوات الدعم السريع في يناير 2025، بعد ثلاثة عشر شهرا من سيطرة الدعم السريع عليها.
وعلى الرغم من هذه الخلافات بين حرب الخامس عشر من أبريل وما سبقها من حروب، إلا أنه يمكن القول أن الكثير من بذور تلك الحروب وآثارها كانت أسبابا لاندلاع آخر حروب السودان، كما أن تلك البذور والجذور قد استغلت بصورة واسعة في الخطاب الإعلامي لأطراف الحرب المختلفة.
البداية من توريت
يمكن القول إن المواجهات المسلحة المباشرة والكبرى بين أجهزة الدولة السودانية المحتكرة للعنف (جيش، شرطة وغيرها) وبين مجموعة عرقية أو مجموعات عرقية تعود إلى عام 1955، قبل أشهر معدودة من استقلال السودان عن الاستعمار البريطاني في الأول من يناير 1956. ففي الثامن عشر من أغسطس عام 1955 تمردت حامية الجيش السوداني في مدينة توريت (بالولاية الاستوائية في جنوب السودان قبل الانفصال)، وكان ذلك التمرد الشرارة الأولى لحرب الجنوب في نسختها الأولى التي استمرت حتى مارس 1972، عندما وقع ممثلون عن الرئيس السابق جعفر نميري والزعيم الجنوبي الجنرال جوزيف لاقو اتفاق سلام.
وعلى كل حال، فإن ابرز بنود اتفاقية أديس أبابا عام 1972، التي انهت التمرد الأول في جنوب السودان، كان منح الجنوب الحق في الحكم الذاتي واحترام جميع الأديان والاعتراف بالخصائص الثقافية لأهل الجنوب.
وبنظرة سريعة إلى هذه النقاط، يمكن القول إن الحكومات السودانية المتعاقبة (الديمقراطية الأولى 1956-1958، حكم الجنرال عبود 1958-1964، الديمقراطية الثانية 1964-1969) قد اضاعت سبعة عشر عاما غالية من عمر السودان، حيث كان بالإمكان الاستجابة إلى هذه المطالب البسيطة والمشروعة، خاصة أن للجنوب بالفعل خصائص مختلفة جدا عن الشمال، من حيث الدين (غالبية مسلمة في الشمال مقابل مسيحيين وأديان أفريقية في الجنوب) ومن حيث اللغة (العربية في الشمال مقابل لغات أفريقية في الجنوب)، وكذلك من حيث الثقافة والعادات والتقاليد.وعلى الرغم من أن اتفاقية أديس أبابا تمكنت من إسكات صوت البنادق لأحد عشر عاما، إلا أن السودانيين كانوا على موعد مع تجدد الحرب مرة أخرى عام 1983.
من نميري إلى الإنقاذ
كان تجدد الحرب هذه المرة مختلفا عن المرة السابقة، فقد شهد شهر سبتمبر من عام 1983 إعلان الرئيس السابق جعفر نميري تطبيق قوانين إسلامية للعقوبات (السرقة وشرب الخمر والزنى)، وتزامن ذلك مع تزايد نفوذ الإسلاميين، المتحالفين جينها مع النميري، في مفاصل السلطة، وعلى رأسهم زعيمهم التاريخي في السودان الدكتور حسن الترابي.
وبإعلان نميري عن تطبيق ما وصفها بقوانين "الشريعة الإسلامية" دخل الصراع العسكري في السودان مرحلة جديدة، حيث أضيف عامل آخر إلى مخاوف الجنوبيين السابقة، وهو الخوف من أن يتحولوا إلى مواطنين من الدرجة الثانية بموجب تلك القوانين، وهو الأمر الذي يجد سندا له في بعض مدارس الفقه الإسلامي.
وبعد هذا التاريخ بست سنوات، وتحديدا في الثلاثين من يونيو 1989، كان السودان على موعد مع تغير نوعي آخر في العلاقة بين الشمال والجنوب، حيث وصل الإسلاميون بقيادة حسن الترابي إلى السلطة عبر انقلاب عسكري على حكومة رئيس الوزراء المنتخب الصادق المهدي.
ومنذ الأشهر الأولى لحكومة الإسلاميين بدا واضحا أن هناك تغيرا كبيرا سيطرأ على الدولة والمجتمع السودانيين، خاصة فيما يتعلق بحرب الجنوب، فبعد أن كانت الأنظمة العسكرية والديمقراطية السودانية السابقة تتعامل مع الحرب باعتبارها صراعا مسلحا بين سلطة مركزية ومتمردين خارجين عليها، تحول الأمر في ظل حكم الرئيس السابق عمر البشير، الذي سمى انقلابه "ثورة الإنقاذ"، إلى حرب جهادية بين مسلمين وكفار.
وكانت الشواهد على هذا التغير كثيرة ومتعددة، لكن كان ابرزها أمرين، الأول هو برنامج تلفزيوني كان يبثه تلفزيون السودان يسمى "ساحات الفداء"، حيث كانت تُروي في هذا البرنامج، وعلى مدى سنوات طويلة، قصصٌ عما وصف بكرامات المجاهدين ومعجزاتهم خلال حرب الجنوب، و"المجاهدون" هو الوصف الذي أطلقه الإسلاميون على منتسبيهم الذين قاتلوا خلال تلك الفترة مع الجيش السوداني. والأمر الثاني هو تأسيس قوات موازية للجيش السوداني باسم "قوات الدفاع الشعبي"، كان قوامها الرئيسي من الإسلاميين، واسند أمر الإشراف عليها، في ذلك الوقت، إلى الكادر الإسلامي المعروف علي كرتي.
لكن المفارقة الغريبة، أنه بعد كل هذه الجرعات "الجهادية" والدينية، فقد انتهى الأمر بقبول الرئيس السابق عمر البشير، واقطاب حكومته من الإسلاميين، لحق تقرير المصير لجنوب السودان، ضمن اتفاقية السلام الشامل الموقعة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان عام 2005.
الصراع في دارفور
-
لم تسلم أي منطقة في السودان من الحرب الراهنة
وقبل نحو عامين من توقيع اتفاقية السلام الشامل، وتحديدا في ابريل 2003، تمكنت الحركات المسلحة في دارفور من تنفيذ أولى عملياتها الكبرى في الإقليم، حيث استطاعت تدمير أربع طائرات في مطار الفاشر وقتل 32 من القوات الحكومية، بينهم ضابطان، وهي عملية يعتبرها الكثيرون الإنطلاقة الحقيقة للحرب في دارفور.
كان من اللافت، في نظر البعض، أن ينتقل القتال من جنوب السودان إلى إقليم دارفور؛ ذلك إنه إذا كانت الخلافات بين الشمال والجنوب تشمل الدين واللغة والثقافة والعادات، كما ذكرنا من قبل، فإن خلاف الدين واللغة ينتفي بين دارفور وبقية مناطق السودان، بينما تتراجع خلافات الثقافة والعادات إلى حد كبير مقارنة بالجنوب، ويبقي في نهاية المطاف العامل العرقي والقبلي إضافة إلى الشعور بالتنمية غير المتوازنة بين دارفور وبقية انحاء البلاد.
وتكونت أبرز وأول حركتين مسلحتين في دارفور (حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة)، في غالبيتها، من أفراد القبائل الأفريقية التي تعتبر أنها تعرضت للظلم والتهميش من قبل "النخب الحاكمة" والمركز، حيث تعد مصطلحات المركز والهامش والنخب من الأوصاف المستخدمة بكثافة في خطابات تلك الحركات.
ويرى البعض أنه، بينما تميزت حركة تحرير السودان، بقيادة عبد الواحد محمد نور (من قبيلة الفور)، بطابع علماني ويساري، بالمقابل تميزت حركة "العدل والمساواة" بطابع إسلامي، بل إن زعيمها السابق ومؤسسها دكتور خليل إبراهيم (من قبيلة الزغاوة) كان أحد "المجاهدين" الذين قاتلوا مع الحكومة السودانية في حرب الجنوب.
في مواجهة ذلك ، لجأت الحكومة السودانية إلى ما عُرف لاحقا بقوات "الجنجويد"، التي يعتقد على نطاق واسع أنها صارت نواة لقوات الدعم السريع، في حربها ضد الحركات الدارفورية المسلحة. لكن السبب في الاعتماد على هذه الميليشيات لمواجهة الحركات المسلحة في دارفور لا يزال محل خلاف بين المراقبين، إذ يرجح البعض أن الجيش السوداني كان قد وصل عام 2003، عند اندلاع الحرب في دارفور، إلى مرحلة من الإنهاك بعد عقدين من القتال في جنوب السودان، بينما يرى آخرون أن الحكومة السودانية حاولت استغلال العداوات التي كانت قائمة فعلا بين القبائل الأفريقية والعربية في دارفور، فبينما ينتمى غالبية مقاتلي الحركات المسلحة إلى قبائل غير عربية، وتحديدا الزغاوة والفور، تتكون قوات الجنجويد، وفيما بعد قوات الدعم السريع، من القبائل العربية في دارفور بالدرجة الأولى، وخاصة قبيلة الرزيقات التي ينتمى لها قائد قوات الدعم السريع (حميدتي).
ويرى بعض المتابعين للشأن الدارفوري أن هذه العداوات بين القبائل العربية والإفريقية في دارفور، تعود في جانب منها، إلى الخلافات بين الرعاة والمزارعين بسبب دخول المواشي إلى المزارع وإتلافها، حيث تمتهن غالبية القبائل الأفريقية الزراعة، بينما النشاط التقليدي للقبائل العربية في دارفور هو الرعي.
جغرافية الحرب
إن هذا السرد التاريخي الذي عرضنا له بإيجاز، يشير إلى أن قضايا الهوية والمظالم الجهوية والتهميش عناصر أساسية في نزاعات السودان منذ ما قبل استقلاله، لكنها عادت بعد اندلاع الحرب الأخيرة لتمثل محورا رئيسيا في خطاباتها السياسية. فقوات الدعم السريع ترفع دعوى التصدي للنخبة السودانية الحاكمة وتدعو لمحاربة دولة 56، في إشارة إلى عام استقلال السودان، بينما يسمي الجيش السوداني هذه الحرب بـ "معركة الكرامة"، وهو ما يشير ضمنا وعلنا إلى سعي الجانبين لاكتساب شرعية تبرر اندلاع الحرب ومواصلتها. رغم ذلك وجدت هذه الشعارات مناصرين، في ظل خطاب إعلامي ينضح بالعنصرية والكراهية ورفض الآخر.
فعلى سبيل المثال، تتحدث العديد من المنصات المؤيدة للجيش، على وسائل التواصل الاجتماعي، عن أن غالبية عناصر الدعم السريع ليسوا سودانيين، بل من دول غرب أفريقيا وتشير إليهم بوصف "عرب الشتات"، وبالمقابل تتحدث منصات موالية للدعم السريع عن الامتيازات التاريخية التي حصل عليها أبناء مناطق وقبائل بعينها، في الشمال والوسط، عقب استقلال السودان عام 1956.
وفي ظل هذا الاستقطاب المتبادل، تأتي خارطة سيطرة كل طرف على الأراضي السودانية لتشير بوضوح إلى تطابق هذه السيطرة، بصورة كبيرة، مع ما صار يعرف في الإعلام السوداني بمصطلح "الحواضن" الاجتماعية والقبلية، حيث يتقاسم الطرفان السيطرة على ولاية الخرطوم، بينما يسيطر الجيش على ولايات شمال السودان وشرقه، مقابل سيطرة الدعم السريع على أجزاء واسعة من ولايتي النيل الأبيض وكردفان وأربع من ولايات دارفور الخمس.
وبصرف النظر عن التغيرات العسكرية التي يمكن أن تقع بين يوم وليلة ومن ستكون له الغلبة في نهاية الأمر، إلا أن حرب الخامس عشر من أبريل قد خلفت بالفعل جراحا غائرة في النسيج الاجتماعي للسودان ولمستقبل وحدته الوطنية، التي كانت تواجه الكثير من التحديات حتى قبل اندلاع هذه الجولة الأخيرة من الحروب السودانية...