في ظهيرة هادئة، وبدون سابق إنذار، غرقت اثنتان من أكثر المجتمعات الأوروبية تقدماً في الظلام. لم يكن انقطاع الكهرباء الذي اجتاح إسبانيا والبرتغال مجرد عطل تقني منعزل، بل كان عرضا لمرض عالمي أعمق، إنها الهشاشة الصامتة للعالم الحديث. لقد بنينا حضارات تم تطويرها بلا رحمة من أجل الكفاءة، لدرجة أن خللاً واحداً قد يمتد عبر القارات ويشل أمماً بأكملها. هذا ليس صدفة. إنه نتاج نظام يفعل بالضبط ما صُمم ليفعله.
بينما كنت أراقب الظلام ينتشر عبر شبه جزيرة أيبريا، خطر ببالي على الفور كتاب بريان كلاس الأخير، "الصدفة". في هذا الكتاب، يجادل كلاس بأن الحظ ، أكثر من الرؤية أو التخطيط ، هو المحرك الحقيقي لتاريخ البشرية. الإمبراطوريات تنهض، المدن تسقط، والحيوات تتحطم أو تُنقذ، ليس بسبب عبقرية أو شر، بل غالباً بسبب عشوائية غبية خالصة.
نحن لا نسيطر على شيء تقريباً. ومع ذلك، فإن كل ما نفعله يصنع موجات تؤثر في واقع يتجاوز فهمنا.
هذه ليست فلسفة، بل فيزياء. فالحضارة البشرية ليست آلة منظمة. إنها نظام معقد، شبكة مترابطة هائلة تضم ثمانية مليارات شخص، تتداخل وتتزاحم، مُشكّلة أنماطاً لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها.
وكجميع الأنظمة المعقدة، تعيش الإنسانية على الحدّ الفاصل بين النظام والفوضى.
انهيار كومة الرمل
إحدى الاستعارات المركزية لفهم الأنظمة المعقدة بسيطة بما يكفي ليفهمها طفل، إنها كومة الرمل.
تبدأ الكومة بحبة رمل واحدة. تضيف أخرى، ثم أخرى، وتكبر الكومة تدريجياً. ولكن مع ارتفاعها، تصبح غير مستقرة بشكل متزايد. وفي لحظة ما، تؤدي إضافة حبة واحدة فقط إلى انهيار مفاجئ وكارثي.
والأهم، أن الحبة التي تُحدث الانهيار ليست بالضرورة الأكبر أو الأكثر تموضعاً. أحياناً، تكون أصغر إضافة وأكثرها براءة هي التي تُسبب الكارثة.
هذه هي جلالة الديناميكا غير الخطية المقلقة. السبب والنتيجة لا يتناسبان. دفعة صغيرة قد تسقط جبلاً. تأخير بسيط قد يدمر حضارة.
لقد قامت المجتمعات الحديثة بهندسة نفسها لتصبح كومات رمل كبرت حتى حدودها القصوى. نُسمي ذلك "الكفاءة". نعظِم كل قطرة طاقة، ونعصر آخر قرش من الأرباح، ونُحسن سلاسل التوريد حتى الدقيقة الوحيدة.
المصانع تتلقى قطع الانتاج "في الوقت المحدد تمامًا". المستشفيات تعمل بميزانيات هشة للغاية. شبكات الكهرباء تعمل بأقصى طاقتها، يوماً بعد يوم. تأخير ساعة واحدة في حلقة واحدة من السلسلة مثل هبوب عاصفة في منطقة واحدة، أو تنظيم إضراب في ميناء واحد، يمكن أن يمتد ويصيب قارات بأكملها بالشلل. الصورة توحي بأننا نصمم هذه النموذج من أجل القوة. لكننا، في الحقيقة، نصمم من أجل الكارثة.
"الأحواض الجاذبة" غير المرئية
تميل الأنظمة المعقدة إلى أن تتطور نحو ما يسميه الفيزيائيون "أحواض الجذب"، وهي حالات يستقر فيها النظام، ليس نتيجة تخطيط، بل بسبب التراكم السلوكي لأجزائه.
تخيل طريقًا سريعًا. السرعة القصوى فيه هي 100 كم في الساعة. لا يلتزم الجميع بهذه السرعة، لكن معظم السيارات تسير حول هذا الرقم. السلوك الجمعي يُشكّل توازنًا غير مرئي. وهكذا، يصبح نظام الطريق السريع مستقرًا في "حوض جذب".
الآن، تخيل أن الطريق السريع يستمر في استقبال المزيد من السيارات، ليقترب شيئًا فشيئًا من حد الانفجار. في البداية، تسير حركة المرور بسلاسة. ثم، يحدث خطأ صغير مثل ضغطة فرامل واحدة، أو تعطل إشارة مرورية واحدة، عندها تنطلق سلسلة تفاعلية. فجأة، تصبح الرحلة التي تستغرق 20 دقيقة كابوسًا يستمر ثلاث ساعات.
هنا تمامًا ما تعيشه الحضارة الحديثة اليوم: إنها دائما على حافة الانهيار، مصممة لأقصى قدرة إنتاجية، وغير مهيأة إطلاقًا لاستيعاب أخف الاضطرابات.
ومع ذلك، عندما تقع الكارثة سواء كانت جائحة فيروسية ، انهيار مالي، انقطاع كهرباء شامل ، نعتبرها مجرد "بجعات سوداء" أو أحداثاً نادرة وعشوائية. نقول لأنفسنا إن الأمور ستعود إلى طبيعتها قريبًا، وأن النظام يحتاج فقط إلى "إعادة تشغيل".
لكننا مخطئون.
هذه الكوارث ليست حوادث. إنها جزء من تصميم النظام الذي أنشأناه. كومة الرمل ستنهار. كانت ستنهار دائماً. لقد صُممت لتنهار.
لبنان: درس مأساوي في الصمود
لفهم البديل، انظر إلى لبنان.
لبنان، على الورق، دولة فاشلة. لا مياه صالحة للشرب من الصنبور. لا شبكة كهرباء تعمل. نظام مصرفي منهار لدرجة أنه يلتهم مدخرات مواطنيه. سياسيون غائبون أو فاسدون عن عمد. بنية تحتية تتآكل أمام أعين الجميع.
ومع ذلك — لا ينهار لبنان.
-
نموذج لبنان الذي انهارت شبكة كهربائه موضع تأمل
إنه يبقى على قيد الحياة ، صحيح إنه يعيش بطريقة قاسية، مرتجلة، ومُرقعة، لكنها تذهل مواطني الدول "المتقدمة" الذين اعتادوا على الراحة.
في لبنان، تم استبدال كل خدمة من المفترض أن توفرها الدولة بابتكار فردي. المنازل تعتمد على مولدات الديزل. المياه في خزانات على الأسطح. الأطباء يجرون العمليات في عيادات شبه مظلمة مدعومة ببطاريات احتياطية. محلات السوبرماركت تتحول إلى بنوك. وتؤسس الأحياء أنظمتها الأمنية الخاصة.
لبنان ليس صامدًا لأنه قوي. إنه صامد لأنه مكسور تمامًا، ومنذ وقت طويل، لدرجة أن التكرار والبدائل أصبحا جزءًا من الحياة اليومية.
كل عائلة دولة مصغّرة. كل مبنى شقة محصنة. وكل مواطن مهندس يصمم أنظمة لبقائه الشخصي.
إذا انهارت شبكة الكهرباء الوطنية نهائيًا غدًا، فإن اللبناني العادي سيتنهد، ويشتم، ويطلق نكتة، ثم يتصل بمزوّد الكهرباء "الأهلية" في حيه أو شارعه لتعويض النقص.
أما إذا حدثت الصدمة نفسها في باريس أو تورنتو، أي إذا انقطعت المياه، وانطفأت الكهرباء، وتوقف النظام البنكي، وغابت الشرطة في وقت واحد، فإن النظام الاجتماعي سينهار خلال أيام. ستحدث أعمال شغب، ونهب، وتعلن السلطات قانون طوارئ.
في لبنان، يتأقلم الناس ويواصلون. إنها ليست جنة. إنها جحيم لكنه لا يزال يعمل.
وهنا تتكشف حقيقة غير مريحة: المجتمعات التي تبني الهياكل الاحتياطية - حتى ولو من خلال الفشل -تتعامل مع الصدمات بشكل أفضل من تلك التي تُحسِّن كفاءتها لتصبح على الحافة.
المجتمعات الغربية، التي أصبحت مهووسة بعصر آخر 2٪ من الإنتاجية من كل نظام، جعلت نفسها عرضة للخطر بشكل مذهل. حبة رمل غير متوقعة ،هجوم إلكتروني، متحور وبائي، كارثة طبيعية، وينهار هذا البناء المتلألئ في ليلة واحدة.
المستقبل: مزيد من الفوضى، أم التعقيد؟
إذا أردنا لمجتمعاتنا أن تنجو من عواصف القرن الحادي والعشرين، فعلينا أن نعيد التفكير في المبادئ نفسها التي بُني عليها العالم الحديث. لم يعد بإمكان الكفاءة أن تظل إلهنا الأعلى.
بدلاً من ذلك، يجب أن نصمم أنظمتنا على أساس القوة والمرونة: أنظمة تحتوي على هوامش أمان، وبدائل، ومسارات احتياطية تعمل عندما يحدث انهيار في المنظومة الرئيسية، وليس بعدما يقع الانهيار.
يجب أن تملك المستشفيات قدرة فائضة، لا أن تعمل بالكاد. يجب أن تكون شبكات الكهرباء لا مركزية. ينبغي جعل سلاسل التوريد أكثر تكرارًا، لا أكثر انسيابية فقط. يجب تمكين المواطنين لحل المشكلات محليًا، لا أن ينتظروا بلا حول ولا قوة تدخل سلطة مركزية لإعادة تشغيل النظام.
نعم، هذا سيكلف أكثر. وسيكون أقل "كفاءة". لكنه الفرق بين الانهيار والبقاء.
فالحضارة نفسها نظام معقّد. لا تنهار بلطف. بل تنهار فجأة، وبشكل مذهل، ولا رجعة فيه، تمامًا مثل كومة الرمل التي تجرفها حبة واحدة زائدة.
إن درس ظلام إسبانيا والبرتغال ، وصمود لبنان المهلهل، واضح: الأكثر تقدما ليس محميا من الانهيار
ستستمر الصدفة في ضربنا. وستفشل الأنظمة. وستنهار كومات الرمال
السؤال الوحيد هو: هل سنظل واقفين عندما يتبدد الغبار أم سندفن تحت الركام، نتساءل كيف ساءت الأمور إلى هذا الحد؟
الانقطاعات الحقيقية لم تأتِ بعد، وعندما تنطفئ الأضواء الأخيرة، لن يكون ذلك حادثًا... بل نتيجة تصميم.