كرست العلمانية منذ ظهورها في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر إلى حتمية فصل الدين عن الحياة العامة والمؤسسات السياسية، وحصره فيما هو ديني فقط. والحال أن صعود العلمانية الأوروبية بحد ذاته كان ردة فعل على ما اعتبرته المجتمعات الأوروبية "تغولا" للمؤسسة الدينية/الكنسية في مناحي الحياة المختلفة من السياسة إلى التعليم والطب وحتى الفضاء العام، ومن خلفية الحروب الدينية في أوروبا والتي شهدت تمظهر الدين باعتباره محور السياسة والحكم. لكن مياها كثيرة جرت في نهر العلاقة بين الدين والفضاء العام على مدى تلك القرون، خففت من الدعوة لإقصاء الديني أو اللاهوتي، ورجحت بدلا من ذلك نوعا من الموائمة تتناسب مع استقرار المفاهيم التي كانت تصادرها المؤسسات الدينية في السابق. العرض الذي نقدمه لكتاب الفيلسوف الفرنسي جون مارك فيري (1946) يناقش مسألة مهمة في هذا السياق وهي علاقة الدين بالمجال العام وما هي شروط عودته إلى تلك الساحة.
يشير مصطلح المجال العام إلى حيّز من الحياة الاجتماعية يمكن للأفراد أن يجتمعوا فيه ليناقشوا ويعرضوا بحريّة لمختلف المشاكل والقضايا التي تواجههم كجماعة، ومن خلال هذه المناقشة يتم التأثير والتفاعل مع القائمين على تدبير الشأن العام لتتم، تبعا لذلك، استجابة الدولة لمطالب المجتمع. فالفضاء العام، بهذا المعنى، فضاء مشترك مفتوح للجميع يتم فيه تبادل الأفكار والمعلومات عبر اجتماعات عامة، ومن خلال مختلف وسائط ووسائل التواصل والاتصال الحديثة ضمن نقاش عقلاني نقدي عام يصطلح عليه النقاش العام.
يعود هذا المفهوم إلى الفيلسوف الأماني "إمانويل كانط" (Emmanuel Kant)، غير أنه ارتبط أكثر ما ارتبط بـ"يورغن هابرماس" ( Jürgen Habermas) من خلال كتابه "التحول البنائي للمجال العام" الذي صدر باللغة الألمانية سنة 1961، غير أن ذيوع المفهوم وانتشاره على نطاق واسع ارتبط بصدور الترجمة الإنجليزية للكتاب سنة 1989. ويتحدد لديه كفضاء يتكون من أشخاص أفراد يجتمعون كجمهور.
يعود تاريخ ظهور ما يٌعرف بالمجال العام إلى القرن الثامن عشر من خلال العديد من المؤسسات التي تشكلت في العديد من المجتمعات الأوروبية؛ ففي إنجلترا تجسد هذا المجال في المجلات والصحف والمقاهي، وفي فرنسا في الصالونات الأدبية والثقافية الباريسية بعد منتصف القرن نفسه، وفي ألمانيا أخذ شكلا متواضعا من خلال نوادي القراءة. وقد شكل التراكم التاريخي لهذه الحوارات والنقاشات العمومية وما اتسمت به من حرية ومنزع نقدي متنام شرطا موضوعيا لتبلور الديمقراطية النيابية.
وفيما يتعلق بالكتاب موضوع هذه القراءة يثور التساؤل: هل من مصلحة النقاش العمومي الديمقراطي أن يفسح المجال للقناعات الدينية أن تعبر عن ذاتها؟ هل يحق لنا أن نحصر التعبير عن القناعات الدينية في الفضاء الخاص؟ ألا تجني المجتمعات الديمقراطية أية فائدة من إفساحها لمجال أوسع للقناعات والاعتقادات الدينية للتعبير عن نفسها في المجال العام؟ هل لدعوى "جون مارك فيري" أن في رفع الحواجز تعزيزاُ للتفاعل بين حقلي السياسة والدين إغناء لكل منهما، ما يبررها؟ خاصة في ظل رهانه على البعد العقلاني التقدمي والتحرري والمنفتح للدين على المستقبل.
أطروحة الكتاب
في كتابه "العقل والإيمان" يقترح "جون مارك فيري"(Jean-Marc Ferry) مقاربة نقدية للكيفية التي تعاملت بها الديمقراطيات الدستورية المعاصرة مع القناعات الدينية ، فهو لم يعن في هذا السياق بالمسألة التي طالما تمت مناقشتها بقوة فيما يتصل بموقع الرموز الدينية في الفضاء العام، وإنما انصب اهتمامه الفكري على موقع القناعات الدينية في النقاش الاجتماعي- السياسي.
فبعد أن يتساءل: هل من الأجدر ومن المحبذ أن يكون "العقل السياسي" في صلته بإنفاذ القانون، مجردا من أي قناعة أو اعتقاد ديني؟ أم يتعين، على النقيض من ذلك، تجاوز هذا الإقصاء والحرمان السياسي للدين؟ يؤكد جون مارك فيري أن المجال السياسي يمكنه أن ينفسح للقناعات والاعتقادات الدينية ويمكنه أن يستفيد من ذلك. كما يذهب، أبعد من ذلك، إلى أن هذه المصالحة بين العقل والإيمان تعد ضرورية؛ خاصة حينما تطرح للنقاش والسجال قضايا خلافية من قبيل؛ الزواج للجميع، والإنجاب بمساعدة طبية أو تأجير الأرحام ، أو الموت الرحيم.
لا يتردد "جون مارك فيري" في هذا السياق في الاعتراض على تقليد الليبرالية السياسية التي تجد مرجعيتها في أطروحة "جون رولز" (John Rawls) التي تعكس مسلك الديمقراطيات المعاصرة في إقصاء استعمال الحجج الدينية في المجال العام. بحيث إذا كانت لهذا الإقصاء مبرراته التاريخية، فقد أصبح عديم الجدوى بل ضارا ومؤذيا. وهو ما جعل الكاتب يستعيض عنه بنوع من الجمع والتلاحم المفضي إلى حالة من الإثراء المتبادل. حتى يتحقق ذلك ويغدو ممكنا، يتعين أن يقبل كل من الحقلين الثيولوجي (الديني) والسياسي أن تلحق بهما تغييرات أساسية؛ حيث يحدد الكاتب، في سياق توجهه إلى كل من الثيولوجيين والمفكرين السياسيين، هذه التغييرات انطلاقا من تخصيصه لفصول تحدد المسار الذي يتعين اتباعه من وجهة نظر الأديان، وأخرى للمسار الذي يتعين على العقل العمومي اتباعه.
حينما يتوجه المؤلف إلى الثيولوجيين فإنه يدعوهم إلى إحداث التغييرات البنيوية التي من شأنها أن تتيح إمكانية الاستعمال العمومي للقناعات، وهو ما لن يتحقق إلا بتحويل أو قلب ضروري للمواقف. يتعلق الأمر، بشكل أساسي، بالنسبة للأديان بتغيير صلتها بالحقيقة، حيث يموضع الكاتب موقفه ضمن منظور لثيولوجيا ما بعد ميتافيزيقية غير معصومة، بل قابلة للخطأ ودون أن تكون نسبوية، وهو منظور من شأنه أن يجعل الحوار بين الأديان والحوار العابر للمعتقدات بما في ذلك بين غير المؤمنين، حوارا خصبا.
فبدلا من ثيولوجيا عقائدية يعتبر الكاتب أن الخطاب الديني يتعين أن يأخذ صورة غير توتاليتارية (شمولية) بشكل راديكالي، مثلما يتعين على مختلف الأديان، من وجهة نظره، أن تغدو بمثابة سُبل وأشكال لفهم ذاتها وفهم العالم. كما يتوجب عليها أن تتخلى عن ادعائها تحديد المعنى الوحيد والكلي للتجربة الإنسانية، بحيث أن ترجمتها لمعاني ملغزة قاصرة على فئة مخصوصة بلغة زمنية علمانية يغدو من أهم وظائف الخطاب الديني. رغم ذلك، يعترض "جون مارك فيري"، على الموقف الثيولوجي الذي يعتبره مهيمنا؛ الموقف الذي رغم إقراره بالتعددية الدينية يعتقد أن الحوار لن يكون ممكنا إلا إذا تم استبعاد النظر في حقيقة المعتقدات الدينية وتم تركها لحالها. وهو الموقف الذي يقبل تعددية الحقيقة ليناقض فكرة الحقيقة ذاتها، وهو ما يجعلها، من وجهة نظره، تفشل، تبعا لذلك، في تجاوز الحوار ما بين الأديان ، وتبني حوار عابر للقناعات. كما تفشل أخيرا من الارتهان لاستعمال خاص أو خصوصي للعقل الديني.
في حين تستطيع الثيولوجيا "ما بعد ميتافيزيقية"، حسب الكاتب، القبول بتعددية سُبل الوصول إلى الحقيقة في إطار من التسليم بحقيقة واحدة. كما أن هذا الانتقال من الاستعمال الخاص/الخصوصي إلى الاستعمال العام/العمومي للخطابات الدينية يلغي ذاتيا أسباب ومبررات الفصل بين الإيمان وما يحيل إليه من قناعات واعتقادات، وبين العقل. وما دامت القناعات الدينية تتحمل ما تقتضيه أية مناقشة صحيحة ، فإنها تتخلى عن ادعاءاتها معرفة الحقيقة المطلقة، ولا يعترض على قابليتها للخطأ، وهو ما يجعل من حصر القناعات الدينية وجعلها قاصرة على الفضاء الخاص غير مبررة من وجهة نظره. غير أن هذا التحول البنيوي للعقل الديني لا يكفي للاستجابة لمقتضيات وضرورات العقل العمومي كما تحددت تقليديا من طرف الليبرالية السياسية. بالإضافة إلى إخضاع المواقف الدينية إلى القابلية للخطأ، فقد دعا الكاتب إلى انفتاح العقل العمومي الذي تغيرت بنيته بشكل أساسي.
هل عودة الدين إلى الفضاء العام مقبولة؟
يحيل العقل العمومي، حسب الكاتب، إلى مجموع الأدلة والقرائن التي تبرر بشكل عمومي اعتماد أو لفظ معايير تترتب عليها نتائج سياسية ومعلوم أن العقل العمومي باعتباره مفهوما مركزيا في الليبرالية السياسية لجون راولز (John Rawls) يقصي من المجال السياسي القرائن والأدلة المتعالية ذات الطبيعة الدينية وهو الأمر الذي يعترض عليه الكاتب بشدة داعيا إلى تجاوز هذا التقييد.
وبالتالي فمقابل مجتمع زمني دهري يعمل وفقا للطرق والصيغ القانونية الليبرالية السياسية يدعو الكاتب إلى مجتمع ما بعد زمني ؛ حيث يمكن للقناعات الأكثر عمقا التعبير عن نفسها في الفضاء العام. وفي هذا السياق يعتبر أن إقصاء وإزاحة الديني يتعين أن ينتهي، وأن يوسع العقل العمومي بنيته الاستيعابية والاستقبالية ويجعلها أكثر مرونة، حيث يقترح إحداث تحول جذري لحدود العقل العمومي الليبرالي..
ومع أن الكاتب لا ينفي الآثار والنتائج التاريخية الإيجابية لتقييد المجال الديني وحصره في المجال الخاص ، في سياق التجربة التاريخية الحضارية الأوروبية وما ترتب عن ذلك من استعادة للسلم الأهلي بعد سنوات متطاولة من الحروب الدينية المدمرة، بحيث أسهم حصر الدين في المجال الخاص في الحد من الانقسام والتفكك الاجتماعي ، مثلما سمح، في سياق استثنائي، بتبلور وانبثاق فضاء مدني بعيدا عن أجواء التوتر والاحتراب.
مع ذلك، يرى أن السياق التاريخي الذي كان داعيا لهذا التقييد والحد لم يعد قائما، الأمر الذي بات يستدعي تجاوزه والعمل على إرساء أسس علاقة جديدة بين المجالين؛ مجال الدين ومجال السياسة. لقد أوضح كيف أن الحدود المفروضة من قبل العقل العمومي على الدين جعلت السياسة في حالة وهن وعجز نسبية بالنظر إلى انفجار العديد من المشكلات المجتمعية بداية من زواج بين المثليين، وصولا إلى الموت الرحيم والتلاعب بالجينوم البشري.
ذلك أن السياسي في رأي المؤلف، لا يعرف كيفية التصدي لمثل هذه المشكلات ومعالجتها، ولا إيجاد الحلول المناسبة لها؛ لأنها تصدر عن سؤال الخير، أكثر مما تصدر عن سؤال الحق والصائب والعادل.
يعتبر الكاتب أن خوصصة القناعات العميقة لها انعكاسات وخيمة من الوجهة البسيكولوجية؛ بحيث تفضي إلى إحداث تمزق لشخصية الأفراد الذين يجدون أنفسهم موزعين ما بين قناعاتهم العميقة من جانب، وما بين شخصيتهم العمومية من جانب آخر.
وفي هذا الإطار يشدد المؤلف على الآثار الوخيمة للحدود المفروضة من قبل العقل العمومي ما بين السياسي والديني، انطلاقا من استدلال ذي طبيعة مآلية. ذلك أن للعقل العمومي في المقام الأول تأثير سلبي على القناعات عينها، بفعل حرمانها من الوضع تحت الاختبار من خلال المواجهة بين المدني والعمومي، فإن القناعات توشك أن تتحجر وتجمد. بل توشك أن تتفكك وتتفتت الأمر الذي سوف يسفر تارة عن ضرب من الشك أو النسبية المعممة ، وتارة عن تصلب وتجمد الاعتقاد الذي قد يصل إلى حد التعصب .
ووجه الخطورة، هاهنا، يكمن حسب "جون مارك فيري" في تصلب القناعات وما يترتب عنها من دوجمائية عميا. كما أن لخوصصة القناعات من جهة ثانية نتائج سلبية على الاستقرار الاجتماعي.ففي الإطار الليبرالي تجد الدولة مبرر وجودها في عيش مشترك مكفول بجهل متبادل أكثر مما تجده في اعتراف متبادل لقناعات وهويات مواطنيها مع ما ينتج عن ذلك من مخاوف وتوجسات. ذلك أن الصمت والكبت المفروض على القناعات يشكل عامل زعزعة للاستقرار
فجهلنا بالمبررات والاعتبارات والمنطلقات التي يصدر عنها من ينتمون لدين مختلف عن ديننا يجعلنا عرضة لاستسهال اتهامهم بعدم اعترافهم الحقيقي بحرية الضمير والمساواة بين الرجل والمرأة. والحال أن إضفاء بعض المرونة على العقل العمومي من شأنه أن يعزز التفاهم والثقة المتبادلة .
يُكثف هذا الكتاب ويعمّق نظراً وتفكيرا ابتدأه المؤلف منذ عدة سنوات ؛يتعلق الأمر بخيبة الأمل إزاء وعود العقل البشري بأن تحرر الإنسانية وانعتاقها بفضل تطور المعارف تتزامن وتتساوق مع التطلع إلى التآخي والمحبة. ووجه المفارقة أن الدولة الحديثة وإن كانت قوية نسبيا على مستوى الحقوق والعدالة، إلا أنها تعاني من وهن عميق وافتقار شديد إلى قيم التآخي والتسامح والغيرية وقيم التراحم والتضامن، وهو ما يمكن للدين، باعتباره رؤية للعالم ومنظومة للقيم والمثل العليا، أن يسهم جبره.
ففي سياق حديثه عن "عدالة القلب وقف المؤلف مليا عن علاقة الحب بالقانون وأهميتها ليس بالنسبة للأفراد فحسب، وإنما بالنسبة للمؤسسات السياسية كذلك. مؤكدا أن الحب يمثل صيغة للاعتراف أكثر اكتمالا من القانون، وأن الرابطة الأخلاقية القائمة على التعاطف والمودة المتبادلة أرقى من الرابطة القانونية القائمة على الاحترام المتبادل.