في الذاكرة الجمعية للمصريين، تمثل الديون الخارجية جرحا غائرا، فقد كانت أحد الأسباب الرئيسية للتغلغل الأجنبي في مصر الحديثة، تحت حكم خلفاء محمد علي الذي يعزى إليه "تأسيس مصر الحديثة"، وبينما تفادى الباشا التوغل الغربي بإصراره على تجنب الاستدانة، مد خلفاؤه بدءا من الخديوي سعيد باشا أياديهم للمقرضين الأجانب لتمويل مشروعاتهم التحديثية، ليتفاقم الأمر في عهد خلفه الخديوي إسماعيل بصورة انتهت إلى فرض الوصاية الغربية على المالية المصرية، وبيع حصة مصر من أسهم قناة السويس، والاحتلال البريطاني لمصر. في السنوات الأخيرة عاد هاجس الدين وما يمكن ان يحمله من تأثيرات على سيادة القرار المصري ليؤرق حاضر المصريين ومستقبلهم، فما هي أسباب تفاقهم المديونية المصرية، وكيف يمكن الخروج منها؟
تشكل الديون الخارجية والمحلية أحد العناوين الرئيسية للأزمة الاقتصادية في مصر. وفيما يتعلق بالديون الخارجية تتمثل ملامح هذا المأزق في بلوغ ذلك الدين نحو 168 مليار دولار في يناير عام 2024 قبل أن يتراجع إلى 152,9 مليار دولار في نهاية يونيو من العام ذاته بعد استخدام حصيلة بيع أراض لشركة إماراتية في صفقة رأس الحكمة في سداد بعض تلك الديون. وقد بلغ متوسط نصيب المواطن المصري من ذلك الدين نحو 1275 دولار في يونيو 2024.
وفي عهد مبارك لم يتم اللجوء إلى الديون قصيرة الأجل إلا في أضيق الحدود، نظرا لما تمثله من خطر الاضطرار لسدادها مع فوائدها خلال عام واحد وهي مدة لا تكفي على الأرجح في إنتاج عوائد لسدادها مما يؤدي للتعثر والاستدانة من جديد لسدادها. في المقابل لا تسبب الديون طويلة الأجل وميسرة الفائدة أزمات كبيرة إذا كانت في الحدود الآمنة. لكن ما حدث خلال السنوات العشر الأخيرة هو استسهال غير موفق في اللجوء إلى الديون قصيرة الأجل، بحيث بلغت قيمتها نحو 30,3 مليار دولار في سبتمبر 2023، وانخفضت بعد سداد جزء منها في أعقاب بيع أرض رأس الحكمة إلى 26 مليار دولار في يونيو 2024، وهي توازي نحو 17% من إجمالي الديون الخارجية، علما بأنها كانت مجرد 3,7 مليار دولار في يونيو عام 2014 أي نحو 7,9% من إجمالي الديون الخارجية في ذلك العام. وحتى يونيو عام 2020 كانت الديون قصيرة الأجل تشكل نحو 8,8% من إجمالي الديون الخارجية.
وحتى شهر يونيو من عام 2014 كانت الديون الخارجية تمثل نحو 15,1% من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفعت بشكل كبير لتبلغ 38,8% في يونيو 2024. أما عبء خدمة الديون الخارجية فكان في حدود 7,4% من قيمة صادرات مصر من السلع والخدمات عام 2013/2014، وارتفع ليبلغ 58,8% من تلك الصادرات في يونيو 2024.
وقد بدأ الدين الخارجي لمصر في التزايد كنتيجة مباشرة لعدم تعامل حكومات ما بعد ثورة يناير المغدورة، بخطة طوارئ لمعالجة الوضع الاقتصادي واختلالات الموازين الخارجية والداخلية، أي أنه ناجم بالأساس عن مستوى كفاءة إدارة الاقتصاد والخلل في أولويات الحكومات المتعاقبة التي أدارت الاقتصاد بنفس السياسات القديمة وبقوة الدفع الذاتي في البداية، قبل أن تبدأ في تطبيق أكثر جموحا لبرنامج صندوق النقد الدولي بداية من خريف عام 2016، وهو ما ساهم في مفاقمة الديون الخارجية بصورة غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي الحديث لمصر.
كانت البداية باستنزاف حكومة المجلس العسكري للاحتياطيات الدولية التي انخفضت من 35 مليار دولار في يناير 2011، إلى 15,6 مليار دولار عند نهاية حكم ذلك المجلس في يونيو 2012. صحيح أن الديون الخارجية بلغت عند نهاية حكم المجلس نحو 34,4 مليار دولار، أي أقل قليلا من مستواها في نهاية عهد مبارك، إلا أن ذلك تحقق من خلال استنزاف نحو 19,4 مليار دولار من احتياطات النقد الأجنبي. وخلال السنة التي حكمها الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي، ارتفع الدين الخارجي إلى 43,2 مليار دولار في نهاية يونيو 2013، بزيادة نسبتها 25,6% عن مستواه في يونيو 2012.
وخلال العام الذي حكمه الرئيس الانتقالي أو المؤقت المستشار عدلي منصور ارتفع الدين الخارجي بشكل محدود إلى 46,1 مليار دولار في يونيو 2014، وذلك نتيجة المنح التي تلقتها الحكومة في ذلك العام بقيمة 11,9 مليار دولار. ومع بداية عهد الرئيس السيسي، ارتفع الدين الخارجي بشكل محدود إلى 48,1 مليار دولار في يونيو 2015، وارتفع بقوة إلى 55,8 مليار دولار في يونيو 2016، ثم بدأ في القفز مع تطبيق البرنامج الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي في خريف عام 2016، فارتفع بنسبة 41,6% في السنة الأولى من تطبيق ذلك البرنامج ليبلغ 79 مليار دولار في يونيو 2017، وواصل الارتفاع حتى بلغ المستويات المشار إليها آنفا في عام 2024 بكل ثقلها كنسبة من الناتج وتفاقم عبء خدمتها كنسبة من صادرات السلع والخدمات.

"كعب أخيل" الاقتصاد المصري
تعاني مصر من فجوة كبيرة بين معدل الادخار المتدني للغاية، ومعدل الاستثمار الأعلى منه كثيرا رغم تدنيه أيضا مقارنة بالمعدل المناظر في العالم عموما وفي الدول النامية على حد سواء. وفي الوقت الذي بلغ فيه معدل الادخار والاستثمار العالميين نحو 26,6% من الناتج العالمي لكل منهما في عام 2023، وبلغ معدل الادخار نحو 32,7% من الناتج في الدول النامية والناهضة، وبلغ معدل الاستثمار فيها نحو 32,2% من ذلك الناتج في العام المذكور، فإن معدل الادخار في مصر بلغ 10,2%، 14,6%، 6,1% من الناتج المحلي الإجمالي في الأعوام 2021/2022، 2022/2023، 2023/2024 على التوالي. كما بلغ معدل الاستثمار نحو 17%، 16,5%، 13% في الأعوام المذكورة بالترتيب. وهذا يعني أن فجوة الموارد المحلية في مصر بلغت نحو 6,8% عام 2021/2022، ونحو 1,9% عام 2022/2023، وارتفعت مرة أخرى إلى 6,9% من الناتج المحلي الإجمالي المصري عام 2023/2024. وتلك الفجوة يتم سدها من خلال الاقتراض الذي يراكم المديونية تدريجيا.
يعتبر عجز الميزان التجاري المتواصل منذ خمسة عقود بلا انقطاع، هو "كعب أخيل"، أو نقطة الضعف الرئيسية للاقتصاد المصري. وذلك العجز ناجم عن انخفاض الإنتاج عن الاستهلاك، وبالتبعية قزمية الصادرات بالنسبة للواردات. وقد بلغ مجموع العجز التجاري خلال السنوات العشر من عام 2014/2015 حتى عام 2023/2024 نحو -383,2 مليار دولار. ويضاف إليه العجز الكبير في ميزان دخل الاستثمار والبالغ -106,3 مليار دولار في الفترة ذاتها. وهذا العجز الكبير في الميزان التجاري وميزان دخل الاستثمار، تتجاوز قيمته مجموع تحويلات العاملين في الخارج رغم ضخامتها وإيرادات قناة السويس والسياحة، بما يؤدي في النهاية إلى عجز كبير في ميزان الحساب الجاري الذي يشمل التجارة السلعية والخدمية والتحويلات. وخلال السنوات العشر الأخيرة من عام 2015 وحتى عام 2024، بلغ متوسط العجز في ميزان الحساب الجاري نحو -3,9% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا. والنتيجة الحتمية هي الاستدانة من الخارج لسد هذا العجز في المعاملات الخارجية، مما يؤدي تراكميا إلى تعملق الديون الخارجية بصورة غير مسبوقة في حجمها ومعدلات تزايدها وتكاليف خدمتها.
وقد ساهمت أزمة كورونا في تفاقم الديون الخارجية بسبب تراجع عوائد قطاع السياحة الذي أصيب بالشلل في عام 2020 على الأقل. كما ساهمت حرب الإبادة الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بنصيب وافر في تقليص إيرادات قناة السويس من النقد الأجنبي عام 2024 بعد تحويل الشركات العالمية للنقل البحري لناقلاتها إلى طريق رأس الرجاء الصالح ابتزازا لمصر التي رفضت المشاركة في تحالف مضاد لليمن الذي تدخل لمساندة فلسطين من خلال منع السفن الصهيونية والسفن المتوجهة لميناء أم الرشراش (إيلات) من المرور عبر مضيق باب المندب. والفعل اليمني لم يكن ليؤثر على إيرادات القناة لأن السفن المتوجهة إلى ميناء أم الرشراش (إيلات) تتجه من البحر الأحمر إلى خليج العقبة رأسا ولا تدخل قناة السويس أصلا.
لكن كل تلك الظروف الطارئة تشكل عوامل ثانوية ومؤقتة، ليبقى العجز التجاري وعجز ميزان دخل الاستثمار والتورط غير الموفق في القروض قصيرة الأجل هي العوامل الأساسية في احتياج مصر للاستدانة من الخارج وتفاقم الديون الخارجية.
آليات العلاج
يمكن القول إجمالا أن مصر تحتاج إلى ترشيد الاستيراد بالذات بالنسبة للسلع الترفية، وترشيد الإنفاق العام عبر تجميد الإنفاق الأسمنتي على البنية الأساسية التي حدث فيها تطور لافت وكافِ في الظروف الحالية، والتركيز بدلا من ذلك على المشروعات الإنتاجية الزراعية والصناعية، وبخاصة الصناعات التي تنتج منتجات بديلة للواردات وفقا لاستراتيجية الإحلال محل الواردات في دورة متكاملة من السلع الاستهلاكية والوسيطة والرأسمالية، والصناعات عالية التقنية، والصناعات الإبداعية عالية العائد في مجالات الموسيقى والفنون الأدائية والبصرية (الفنون التشكيلية، السينما، الدراما والبرامج التلفزيونية) والحرف اليدوية، وصناعة التحف، والتكنولوجيا الإبداعية والبرمجيات، والوسائط الرقمية مثل الألعاب والرسوم المتحركة، والتصميم الجرافيكي، ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والرقمية، والإعلان والتصميم والنشر. وهي بتعبير آخر الصناعات التي تستمد منتجاتها، الجانب الأعظم من قيمتها من مواهب البشر وقدراتهم العقلية والإبداعية، وليس من قيمة المواد المستخدمة فيها، وهي صناعات تمتلك مصر ميزات كبرى فيها من خلال ثروتها البشرية من الموهوبين في المجالات المذكورة، والذين يتم تركهم لتستفيد بلدان أخرى منهم كأساس لصناعاتها الإبداعية!
ويمكن للدولة أن تقوم برعاية عمليات كبرى للاكتتاب العام لبناء مشروعات خاصة يملكها حملة الأسهم ويديرها مديرون تنفيذيون تحت رقابة الدولة وبمشاركة منها لطمأنة مستثمري الأقلية، ويُفَضَل ضمان حد أدنى من العائد لهم من خلال تمليكهم سندات مضمونة لتلك الشركات التي يمكن أن تعمل في مجالات الصناعات الزراعية والمعدنية والكيماوية والمحجرية والعالية التقنية والإبداعية. وضمن آليات معالجة العجز الكبير في ميزان دخل الاستثمار، من الضروري أن تتوقف مصر نهائيا عن قبول الاستثمارات الأجنبية في قطاع العقارات حيث تقوم بتحويل أرباحها للخارج في صورة عملات حرة تستنزف رصيد مصر منها، بينما تتوفر شركات محلية يمكنها أن تقوم بكل النشاطات المحتملة في هذا القطاع بدون استنزاف أرصدة مصر الدولارية.
كما أن مصر تحتاج لأن تعطي السلطات النقدية المصرية الثقة للأسواق بإعلان صريح بأن الجنيه المصري لن يتم تخفيضه مقابل الدولار مجددا لفترة ثلاثة أعوام على الأقل، وذلك لتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية الموجهة للإحلال محل الواردات أو التصدير كضرورة لتحسين الميزان التجاري، لأن تلك الاستثمارات يتم بناؤها على حسابات مستقبلية ولا يمكن ضبطها في ظل عملة مضطربة وسريعة التدهور.
الديون المحلية
ارتفع الدين العام المحلي من 1816,6 مليار جنيه في منتصف عام 2014، إلى 8312 مليار جنيه في العام المالي 2023/2024 وفقا لمشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي المذكور، وسوف يبلغ نحو 88,2% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر للعام المالي 2024/2025 والبالغ نحو 17 تريليون جنيه مصري، بما يعني أن ذلك الدين سيبلغ نحو 15036 مليار جنيه في العام المالي 2024/2025. أي أن ذلك الدين ارتفع بنسبة 728% خلال الأعوام العشرة الأخيرة.
والديون المحلية ناجمة عن العجز في الموازنة العامة للدولة بالأساس، وعن الفوائد المرتفعة على تلك الديون التي تقترضها الدولة من خلال أذون وسندات الخزانة. وقد بلغ مجموع العجز الكلي في الموازنة العامة للدولة خلال الأعوام المالية من 2014/2015، إلى 2024/2025 نحو 5671 مليار جنيه.
وكان من الممكن للموازنة العامة للدولة أن تقترب من التوازن وربما تتوازن لو كان هناك وحدة للموازنة العامة للدولة تشمل كل الهيئات والشركات العامة المدنية والعسكرية. وكان تقليل العجز ممكنا وربما الاقتراب من التوازن لو حصلت وزارة المالية على إيرادات بيع أراضي العاصمة الإدارية الجديدة، لأنها في النهاية أرض الدولة التي من المفترض أن تدخل إيرادات بيعها لموازنتها العامة. وتبلغ مساحة العاصمة الإدارية نحو 166 ألف و 645 فدان من الأراضي الواقعة جنوب طريق القاهرة-السويس وشرق الطريق الدائري الإقليمي، وتم استخدام أقل من 11 ألف فدان في المرحلة الأولى، وبالتالي لو دخلت إيرادات بيع أراضي المراحل التالية للموازنة العامة للدولة، فإنها يمكن أن تقلل العجز الكلي وربما تصل للتوازن. كما أنه من الممكن تحسين الإيرادات والتوازن لو تم تعديل قانون الضرائب لفرض ضرائب الأرباح التجارية والصناعية على الأنشطة المدنية لشركات جهاز الخدمة الوطنية. وكل ذلك يمكن أن يقلل الحاجة للاستدانة المحلية ويوقف تفاقم تلك الديون.
وفي ظل تعملق الديون الداخلية والخارجية بصورة مكبلة للاقتصاد المصري وللحكومات والأجيال القادمة، قدر مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2024/2025 قيمة مخصصات سداد فوائد وأقساط تلك الديون الداخلية والخارجية بنحو 3441,2 مليار جنيه تعادل نحو 20,2% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر للعام نفسه.
هذه المدفوعات الهائلة لفوائد وأقساط الديون المحلية والخارجية تستنزف الإيرادات العامة والدخل الوطني، وتشكل عاملا مهما في استمرار توليد وديمومة العجز في الموازنة العامة للدولة المصرية والاحتياج للمزيد من الاستدانة من الداخل والخارج بكل الشروط الاقتصادية والسياسية السلبية للاستدانة من الخارج بالذات.
ولا يمكن معالجة العجز في الموازين الخارجية بإجراءات نقدية فقط، مثل التخفيضات المتتالية لسعر صرف الجنيه المصري، وغالبيتها غير منطقية أصلا وبعيدة عن سعر تعادل القوى الشرائية وفقا لصندوق النقد الدولي نفسه، بل يأتي الحل من الإجراءات التي أوردناها سابقا كآلية لمعالجة الديون.