رغم أن العرب تحدثوا لعقود من الزمن عن أن فلسطين هي قضيتهم المركزية، فإن أغلبهم لم يخلص لهذا في كل الأوقات والأحوال، إذ انصرفت كل دولة إلى مصلحتها المباشرة والضيقة، التي تناقضت أحيانًا، عند بعض الدول، وبالأـحرى كما تصور من يحكمونها، مع مصالح الشعب الفلسطيني.
وحين اندلع "طوفان الأقصى" ظنت أنظمة الحكم العربية أنها ستكون حربًا كغيرها من تلك التي وقعت ضد قطاع غزة منذ أن تمكنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) من حسم الأمور لصالحها في حكم القطاع وإدارته، وأنه يمكن الاكتفاء بالتصريحات والبيانات العابرة، أو حتى التزام الصمت، أو إدانة المقاومة لأنها هي التي بدأت هذه المرة، في تجاهل لتاريخ الصراع أو شرعية مواجهة الاحتلال، لكنها فوجئت أنها أمام حرب مختلفة في الدرجة، من حيث قوة النيران وطول المدة وارتفاع سقف الأهداف.
وفضلًا عن الاختلاف في الدرجة، تحولت الحرب إلى اختلاف في النوع عن سابقاتها، حين تنفتح على الغاية الكبرى للنخبة الحاكمة في تل أبيب منذ 1948 وحتى الآن، والتي كانت تكتمها أو تسكت عنها أو تؤجل إعلانها بشكل رسمي صريح، وهي المتعلقة بإقامة ما يسمى بـ "إسرائيل الكبرى"، أو على الأقل الوقوف عند حد توسيع جغرافية الدولة العبرية بابتلاع فلسطين التاريخية كاملة عبر تهجير أهل غزة والضفة الغربية، إضافة إلى هضبة الجولان السورية على الأٌقل، إن افترضنا انسحابًا جديدًا من الحيز الحدودي في جنوب لبنان، ومنطقة جبل الشيخ في سوريا.
هنا وجدت الأنظمة العربية، لاسيما فيما كانت تعرف في الأدبيات السياسية سابقا بـ "دول الطوق" نفسها أمام معادلة جديدة، تتصالح فيها مصلحة الفلسطينيين مع مصلحة هذه الدول، بل مع دول عربية أكثر وأبعد، على الأقل من زاوية إحراجها أمام شعوبها. بل إن بعض النخب الحاكمة، والذين حولها من مستشارين أو بيوت خبرة وتفكير، صارت تدرك أنه لو تمت تصفية القضية الفلسطينية، فسيتداعى كل شيء بعدها، وتُستباح أرض دول، وتتفتت أخرى، وتوضع ثالثة تحت ضغط شديد يحولها إلى كيانات هشة تابعة لا إرادة لها، وفي كل هذا قد تتساقط أنظمة حكم كأوراق الشجر في الخريف، أو تجد نفسها متعرضة لاضطرابات اجتماعية بعد جرح شرعيتها بشكل مباشر، قد يسببه أي صمت أو قبول لسيناريو تهجير الفلسطينيين، بما قد يقود إلى تقسم وتفكك، ربما يكون أسوأ من "سايكس بيكو".
ووطأة هذا السيناريو أشد على مصر والأردن، لأسباب تاريخية وجغرافية وسياسية، ولعل نقطة البداية هنا أن غزة كانت تحت الإدارة المصرية قبل عام 1967، والضفة الغربية كانت تحت الإدارة الأردنية حتى فك الملك حسين الارتباط بها عام 1989، والمنطقتان لهما حدود مع البلدين. لكن هذه العلاقة التاريخية والجغرافية لم تضع القاهرة وعمَّان في وجه العاصفة بهذه الدرجة من قبل، طوال الهجمات الإسرائيلية السابقة على الفلسطينيين، مهما ترتب عليها من قتل ودمار.
فما نحن فيه الآن بالنسبة لمصر يعني وضع شبه جزيرة سيناء في خطر شديد، فلو رضيت مصر بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، فإنهم لن يكفوا عن المقاومة، ووقتها ستقوم إسرائيل باستهدافهم، على غرار ما تفعل ضد مخيمات وتنظيمات فلسطينية مقاومة في سوريا ولبنان، ووقتها ستجد مصر نفسها في حاجة إلى الرد. ولو رفضت مصر فقد تفكر إسرائيل في طرد أهل غزة عنوة، وهنا ستضع الجيش المصري في مأزق، فإن ترك المُهجرين يدخلون سيناء فهذا خيار صعب، وإن تصدى لهم فهو خيار أصعب، بل يمكن أن تتوهم إسرائيل أنها بحاجة إلى احتلال شريط حدودي من سيناء تطرد الغزاويين إليه.
أما بالنسبة للأردن فإن الوضع صعب جدًا أيضًا، فتهجير جزء من أهل غزة إلى الأردن سيفتح الباب مستقبلًا، ودون شك، في أن تستقبل الأردن تهجيرًا آخر لأهل الضفة الغربية، وهي الأهم بالنسبة لإسرائيل من زاوية دينية لاسيما في ظل تحكم اليمين المتطرف في الحياة الاجتماعية والسياسية والأمنية.
ومثل هذا التهجير يعني اختلالا في التركيب السكاني للمملكة الأردنية الهاشمية، إذ سيصبح أغلب سكانها من الفلسطينيين، بما قد يؤثر على توازنات الحكم، أو على الأقل وقوع البلاد في اضطراب شديد، حيث سيجد الأردن نفسه، وبدلا من وضعه الجغرافي كمنطقة عازلة بين إسرائيل والعراق وسوريا والسعودية، مأخوذا إلى خيار المقاومة، حين تضغط الأغلبية على أصحاب القرار كي ينحازوا إلى جماعات وتنظيمات، تؤمن بحق العودة، ولا يمكن أن تنسى استرداد فلسطين.
-
العاهل الأردني أكد لترامب وجود خطة عربية لا تنطوي على تهجير سكان غزة
لهذا تبدو مصر والأردن أكثر عناية بالتصدي لسيناريو التهجير، لكن هل هذا يعني بالضرورة تماهي البلدين مع المقاومة؟ الإجابة بالطبع: ليس بالضرورة. فربما يكون هناك تصور آخر، قد تشي به تصريحات الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط لقناة "العربية" التي قال فيها: "فلتتنحى حماس إذا اقتضت المصلحة الفلسطينية ذلك."، وهو تصريح أزعج كثيرين، وانخرط البعض في تحليلات عنه تبين أن بعض الدول العربية ربما تتسلم قطاع غزة لإعادة إعماره وتثبيت أهله فيه شرط أن تديره السلطة الفلسطينية التي نشأت وفق اتفاق أوسلو.
لكن مشكلة هذا السيناريو، الذي يسلم رقبة المقاومة إلى إسرائيل من باب وقف التهجير بما يجعل تسويقه شعبيًا ممكنًا، أنه يجهل التاريخ تمامًا، فقد حدث هذا من قبل عشرات المرات في تاريخ العرب، حيث طلب قادة الجيوش الغازية من الخلفاء والملوك والأمراء، أن يأمروا جندهم بإلقاء السلاح، وسيكون الناس آمنين، فلما ألقوه، ضربت الجيوش الغازية سيوفها في الأعناق، وقتلت المسالمين العزل قبل المحاربين.
إلا أن هذا التحليل يمكن دحضه، حال النظر إلى الغضب الإسرائيلي المستمر من الموقف المصري، فضلًا عن تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقطع المعونة عن مصر إن لم توافق على تصوره حول غزة. وعلاوة على أن مصر رفضت مرارًا عرضًا إسرائيليًا باستعادة إدارة قطاع غزة أيام حكم حسني مبارك، فإنه ليس هناك ما يضمن ألا تناهض المقاومة أي قوة تدخل غزة لضبط أحوالها الأمنية، في ظل التناقض بين أهداف الطرفين، وهي مسألة تدركها مصر بالطبع.
في كل الأحوال، تبقى أكبر طعنة في الظهر هي أن يتوهم بعض العرب أن استيلاء إسرائيل أو أمريكا على غزة، بعد إخراج أهلها منها، سيجعل لهم نصيبا في "الريفيرا" المزعومة، بوصفهم هنا تجارًا أو أصحاب شركة مقاولات، وليست دولا تعي مركزية القضية الفلسطينية.
ابتداء، فإن السيناريو الأكثر رجحانًا هو أن أهل غزة باقون فيها بصمودهم وإخلاصهم ومقاومتهم، وحتى لو انزلقت الأوضاع إلى السيناريو الكارثي، فإن تأثيرها السلبي لن يتوقف عند حدود أهل غزة ولا الفلسطينيين عموما، لكنه سيطال النظام الإقليمي العربي برمته، قياسا على ما جرى من وقائع وأحداث تاريخية سابقة بالمنطقة.