النظر في مآلات وتبدلات الثورة التونسية، التي اندلعت في ديسمبر 2010 واكتملت برحيل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في يناير من عام 2011 من البلاد، قد يفتح الباب لمقاربة في كل تجارب "الربيع العربي" الذي شمل عدة بلدان لكنها وصلت جميعا إلى طريق مسدود. ثورات أو انتفاضات لم تكتمل، أنتجت ما يصفه المراقبون بردة عكست نوعا من الثورات المضادة. تظل التجربة التونسية لريادتها في هذا المجال جديرة بالتأمل، لماذا لا يكتمل التغيير؟ هل أدركت الشعوب أنه كان مجازفة غير محسوبة العواقب ، أم أن ظروف التغيير لم تنضج من أدنى بعد فأدرك الجماهير السأم وقنعت بخيار ات نصفية لأن فاتورة الثورة باهظة عليها. نجلا بن صالح تلقي الضوء على تجربة السنوات الأخيرة في تونس تحت قيادة الرئيس قيس سعيد.
كان الخامس والعشرون من يوليو سنة 2021، يوما عاديا في تونس، فقد صادف عطلة نهاية الأسبوع بالتزامن مع ذكرى عيد تأسيس الجمهورية، لكن لم يعلم أغلب التونسيين أن خطاب الرئيس قيس سعيد في تلك الليلة بمناسبة الاحتفال بعيد الجمهورية سيدخل تونس في مسار جديد عن طريق انقلاب باستعمال الدستور، تمركزت دبابة أمام مبنى البرلمان التونسي ومنع الجنود النواب من الدخول في حين وقفت دبابة أخرى أمام مبنى التلفزيون الرسمي.
أدخل قرار الرئيس قيس سعيد بتجميد البرلمان قبل حله حماسا كبيرا لدى جزء كبير من التونسيين الذين خرجوا للاحتفال في الشوارع، وفي الوقت الذي ندد فيه حزب حركة النهضة صاحب الأغلبية في البرلمان بإجراءات سعيّد، واصفا إياها بالانقلاب، وجد شق آخر حرجا في الوصول لتوصيف سياسي واضح لقرار الرئيس التونسي، ولم يعلن عن موقف واضح لسبب وحيد وهو أن حركة النهضة وحلفاءها في البرلمان كانت تحارب رئيسا بصلاحيات محدودة وهو ما خلق أزمة سياسية خانقة في تونس.
بين العامين 2017 و2021، ارتفع مؤشر مدركات الفساد الذي أبلغت عنه منظمة الشفافية الدولية من 42 نقطة من أصل 100، سنة 2017 إلى 44 نقطة سنة 2021. في العام 2018، هزت قضية حقل "حلق المنزل" النفطي الرأي العام بسبب تمكين شركة أجنبية من استغلال الحقل رغم انتهاء رخصتها القانونية، وحملت منظمة "أنا يقظ" وهي فرع منظمة الشفافية الدولية في تونس، المسؤولية لرئيس الحكومة آنذاك يوسف الشاهد، وسط اعتصام سكان محافظة تطاوين في الجنوب التونسي للمطالبة بحقهم في عائدات إنتاج النفط والغاز بمنطقتهم. وفي تلك الفترة، كان البرلمان التونسي ميدانا مكشوفا للصراعات بين الكتل والاحزاب، أدت إلى انقسام حزب نداء تونس، وهو حزب الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي والذي تقاسم الحكم مع حركة النهضة آنذاك، وذلك بعد خلافات بين أعضاء الحزب مع السبسي بسبب نفوذ ابنه الشاسع داخل الحزب.
في العام 2015، ظهرت حركة شبابية تدعى "مانيش مسامح" (لن أسامح) تشكلت من أجل إسقاط مشروع للمصالحة الذي يهم رجال الأعمال المتورطين في قضايا فساد في عهد بن علي، وظلت الحركة تقاوم طيلة عامين من أجل إسقاط مشروع القانون الذي اعتبرته تبييضا للفساد وتبرئة لرجال الأعمال الذين نهبوا المال العام، غير أنه في أيلول سنة 2017، صادق البرلمان على القانون بأغلبية الأصوات، وهو ما سبب سخطا شبابيا كبيرا على مجلس النواب.
الفيروس الذي أطاح بالحكومة والبرلمان
لم يغفر شق كبير من التونسيين لحزب حركة النهضة بسبب سوء إدارتها للحكم لما يزيد عن ثماني سنوات، شهدت تونس خلالها اغتيال زعيمين سياسيين في عام واحد منها، إضافة إلى سبع عمليات إرهابية خلفت 140 قتيلا من المدنيين وعناصر الجيش والشرطة من ضمنهم أكثر من خمسين سائحا خلال عمليتين ارهابيتين في العام 2015 تفصل بينهما أربعة أشهر فقط، كما لم يغفر التونسيون للحزب وحلفائه في البرلمان وفي الحكومة أيضا سوء إدارتهم للأزمة الصحية التي عاشتها تونس بسبب انتشار وباء كوفيد 19 بين العامين 2020 و2021، والتي أدت إلى وفاة قرابة 29 ألف شخص بسبب الوباء.
ففي 17 يوليو 2021، سجلت تونس وفاة 205 شخص في يوم واحد بسبب الإصابة بالفيروس وهو أعلى معدل سجل في العالم في ذلك اليوم، وفي ذلك اليوم أيضا، طالب البرلمان الحكومة بحضور جلسة استماع، غير أن الجلسة أُجلت بعد اعتذار أعضاء الحكومة بسبب "التزامات طارئة" قبل أن تكشف منظمة "أنا يقظ" عن أن هشام المشيشي، رئيس الحكومة آنذاك، كان يقضي عطلة نهاية الأسبوع في فندق فخم في إحدى المدن السياحية صحبة أعضاء آخرين في الحكومة نشروا صورهم على حساباتهم الخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي. أثار ذلك الخبر غضب التونسيين الذين انتقدوا لامبالاة الحكومة بالوضع الصحي الخطر بعد امتلاء أقسام الإنعاش بالمرضى ونقص الأكسجين، وسط نسق تلقيح بطيء ضد الفيروس، يعتبر الأقل في الدول العربية، ومحاباة النواب والمسؤولين ورجال الشرطة في تلقي اللقاح قبل غيرهم من التونسيين، وصفقة مشبوهة لاقتناء الكمامات انتفع بها وزير الصناعة حينها ونائب بالبرلمان.
في ذلك الوقت كان الرئيس التونسي قيس سعيد في دوامة صراع قوية مع البرلمان، وبالتحديد حركة النهضة التي أقالت رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ المدعوم من سعيد، وثبّتت هشام المشيشي مكانه، ووصل الصراع بين سعيد وحركة النهضة حد اتهام الحزب له في بيان "بتهديد الديموقراطية والنزعة التسلطية"، ودعته إلى أن "يتوقّف عن كل مسعى لتعطيل دواليب الدولة وتفكيكها".
عمّق انتشار وباء كورونا الذي كشف عن ضعف البنية الأساسية الصحية، الأزمة والتقط سعيّد اللحظة المناسبة يوم 25 يوليو 2021 ليعلن تجميد البرلمان وإقالة الحكومة وإعلان إجراءات استثنائية، وعهد إدارة الأزمة الصحية إلى الجيش الوطني الذي كان حزامه القوي منذ تنصيبه رئيسا لتونس.
حصّن الرئيس قيس سعيّد نفسه جيدا حتى لا يتم عزله، فقد كانت زياراته إلى ثكنات الجيش والشرطة كثيرة، وفي كل مرة كان يطلق تهديداته ضد البرلمان والحكومة من هناك ويذكّر الجنود بواجبهم في حماية تونس. كما امتنع عن التوقيع على قانون المحكمة الدستورية خوفا من عزله وهي الطرف الوحيد الذي يمكنه عزله من منصبه.
الرجل النظيف والمتسلّط
ساند جزء كبير من التونسيين إجراءات تجميد البرلمان لسببين أولهما أن الرئيس التونسي يتمتع بشعبية بسبب ظهوره المتكرر في الإعلام بصفته أستاذ جامعي من خارج منظومة الأحزاب السياسية، وهو ما أكسبه صفة "الرجل النظيف" الذي يمكن أن يكون المنقذ، كما استفاد سعيد من المحاصصة الحزبية داخل البرلمان ليعلق فشل الحكومات المتعاقبة على الديمقراطية في شكلها السابق ويقدم مشروعه الخاص بالديمقراطية التشاركية والرقابة الشعبية على البرلمان. كل ذلك متّعه بمساندة شعبية عريضة خلال العام الأول من انقلابه.
بعد عام من الانقلاب وتجميد البرلمان، لم يكتف الرئيس قيس سعيد بإصدار مراسيم جديدة لتسيير البلاد، بل طرح استفتاء لتعديل الدستور الذي كُتب بمشاركة صورية من خبراء، وانطلق في بناء مساره الجديد بشعار محاربة الفساد، ففي أواخر العام 2022، أصدرت المحكمة الابتدائية بتونس قائمة تضمّنت خمسة وعشرين شخصا وُجهت إليهم تهمة التآمر على أمن الدّولة الداخلي وارتكاب "أمر موحش" ضد رئيس الدولة، وتضمنت تلك القائمة اسم مديرة ديوان الرئيس سعيد السابقة، وتوسعت القائمة في بداية العام 2023، لتشمل أهم قيادات حزب حركة النهضة وبعض السياسيين المعارضين الآخرين، ورجل أعمال كان يوصف في السابق بأنه رجل الظل في عهد بن علي. وحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية، اعتقل أكثر من 70 شخصا منذ عام 2022 من بينهم سياسيون ومحامون وصحفيون ورجال أعمال، و تجاوزت مدة إيقاف أغلبهم، دون صدور أحكام، المدة المسموح بها قانونا والتي لا يجب أن تتجاوز 14 شهرا.
منذ العام 2021، يرفع الرئيس قيس سعيد شعار محاربة الفساد ومحاربة المتآمرين، وفُتحت أبواب السجون لمعارضيه ومنتقديه، خاصة بعد صدور قانون يكافح الجرائم الإلكترونية والذي يجرم انتقاد المسؤولين، وطالت الاعتقالات مسؤولين في منظمات محلية بتهمة تبييض الأموال بسبب إسنادها مهاجرين غير نظاميين. تلخّصت سياسة الرئيس قيس سعيد خلال إدارته البلاد طيلة ثلاث سنوات كاملة قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، في التهديد بملاحقة المتآمرين وسط أزمة اقتصادية خانقة أوصلت البلاد إلى نسبة تضخم بلغت 10.4 بالمائة وهي الأعلى منذ ثلاثة عقود، وهي نسبة ارتبطت بارتفاع أسعار سنوي كبير لأسعار المواد الاستهلاكية.
لم يقدم الرئيس قيس سعيد خطة لتجاوز الأزمة، لكنه راهن على ما أسماه بالشركات الأهلية من أجل الاستثمار، وهو مشروع لقي انتقادات حتى من المقربين من الرئيس بسبب ضبابيته. لكن سعيد يدفع بشدة نحو إنجاح مشروعه رغم كل العقبات القانونية التي يواجهها بسبب ثغرات في القانون المنظم لهذه الشركات. في المقابل، اعتمدت الحكومة المدعومة من سعيد على الاقتراض، الذي خُصص جزء منه لدعم ميزانية الدولة، ووصلت قيمة القروض المخصصة لدعم الميزانية في العام 2024 إلى أكثر من 7200 مليون دينار أي ما يعادل 2250 مليون دولار، وهو رقم ضخم جدا.
لم يخف الرئيس التونسي يوما أنه ضد ما يسميه الأجسام الوسيطة بما في ذلك المحكمة الدستورية والهيئات المستقلة والإعلام والأحزاب، لذلك لم يجد صعوبة في تجميد الهيئات المستقلة مثل الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وثلاث هيئات أخرى.
ينظّر الرئيس التونسي لنسف الأجسام الوسيطة منذ سنوات، قبل صعوده للحكم، واستفاد من الأزمات والصراع الذي احتد بين الأحزاب في البرلمان والذي كان يُبث مباشرة على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى التلفزيون الرسمي، حتى وصل لتبادل العنف، ليقول للتونسيين إنهم لا يحتاجون لأحزاب تتصارع وأن ذلك الشكل من الديمقراطية لا يُلزمهم، وبذلك تمكّن بسهولة من "شيطنة الأحزاب" وتبنى طرح الديمقراطية المباشرة التي تربط الشعب به مباشرة، لذلك كان في كل مرة يسير في شوارع العاصمة ويخاطب الناس ويطمئنهم ويعدهم بحمايتهم من المتآمرين ويقرع أبواب الوزراء والمسؤولين ويؤنبهم أمام عدسة كاميرا مصور القصر الرئاسي.
لا تخلو كل خطابات الرئيس قيس سعيد من نبرة الوعيد للمتآمرين داخل دواليب الحكم وخارجه الذين يعرقلون جهوده من أجل البناء، حتى بات بالنسبة للكثيرين الرجل الصالح الوحيد في البلاد.
نسف الرئيس قيس سعيد وجود الأحزاب، فقيادات أكبر حزب في تونس، وهي حزب حركة النهضة في السجن، وتقبع رئيسة الحزب الدستوري الحر في السجن، وانقسم حزب "نداء تونس" ولم يعد له وجود يُذكر، أما بقية الأحزاب فلا وزن فعليا لها، باستثناء "حركة الشعب" التي ساندته في البداية وتمكنت من الفوز بمقاعد في البرلمان، قبل أن تعدل موقفها.
الرئيس قيس سعيد صديق الأزمات، بما في ذلك الأزمات التي يخلقها هو بنفسه، وهو بارع في استغلالها، لسبب بسيط وهو أنه الرجل الصالح القادم من حي شعبي في العاصمة، لا يملك ثروة ولم يشارك في نهب الدولة، كل ذلك كان كافيا لأن يصدقه قطاع من التونسيين رغم أنه يطلق وعودا لا يملك خططا لتنفيذها، وهي وعود لا تشمل الحقوق والحريات بل تطهير البلاد من "المتآمرين واللصوص" كما دأب على القول.
يريد جزء من التونسيين ثورة تضمن شيئين: التشغيل ومستوى مقبول للعيش، وعلقوا آمالهم على الرئيس قيس سعيد لأنه سوّق لهم أنهم أصحاب القرار فعليا وأن عملية تطهير البلاد من الفساد سترجع للبلاد ثروتها، في المقابل، لا تستطيع النخب في تونس توسيع حلقة المساندين لها في الدفاع عن الحقوق والحريات، لأنها نالت ما نالته الأحزاب من شيطنة واتهام بالترفع عن مطالب التونسيين.
يعلم الرئيس التونسي قيس سعيد أنه يسير في طريق وعر ، ورغم نجاحه في ولاية رئاسية ثانية، فلم تكن نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية قبل عامين مرضية له، فهي لم تتجاوز 11 بالمائة. كما عمل خلال الانتخابات الرئاسية للعام الماضي على إقصاء كل خصومه رغم انصاف المحكمة الإدارية له وقام نواب مساندون له في البرلمان بالتصويت على تنقيح قانون الانتخابات قبل أيام من الاقتراع، ويراهن سعيد على حلفائه في الاتحاد الأوروبي، وخاصة اليمين في إيطاليا، بعد أن قبل دور حراسة جنوب حوض البحر المتوسط مقابل بعض المساعدات ولكن الأهم بالنسبة له هو الصمت إزاء الوضع الحقوقي المتأزم في تونس.