على مر القرون، كان المال شريان الحياة للحضارة البشرية، المال هو القوة التي شكّلت المجتمعات واقتصاد الدول وحياة الأفراد. ولكن ما هو المال في جوهره؟ المال ليس ذهباً ولا بنكنوت ولا عملة رقمية. إنه وعاء رمزي للطاقة البشرية- تمثيل للوقت والمهارة والجهد المبذول في صناعة السلع أو تقديم الخدمات. كل معاملة مالية هي تبادل لهذه الطاقة؛ والاقتصاد يعمل كنظام محاسبة عظيم للبشرية، يتتبع تدفقها في جميع أنحاء العالم.
هذا الفهم المادي للاقتصاد، النابع من النظرية الماركسية، يرى أن الثروة تُولد من العمل والموارد والسلع الملموسة. كان هذا واضحاً للفترة الأطول من التاريخ: حيث بُنيت الاقتصادات على الحقول التي حرثها المزارعون، والسلع التي صنعها الحرفيون، والخدمات التي قدمها العمال.
ومع ذلك، في العصر الحديث، تم زعزعة هذا المنظور بشكل عميق. فقد تجاوزت الأنظمة المالية العالم المادي، مما سمح بتوليد ثروات هائلة ليس من خلال إنتاج السلع أو الخدمات، بل من خلال المضاربة على قيمتها. أدوات مثل المشتقات المالية (تتمثل في العقود المرتبطة بتعاملات في أصول محددة مثل التأمين عليها أو الحواطة ضد ارتفاع أو انهيار أسعارها) وغيرها من الأدوات المالية المجردة، فصلت عملية خلق الثروة عن قيود العمل. فكّر في هذا: تُقدر بعض المصادر أن القيمة النظرية لأسواق المشتقات المالية العالمية في العام الماضي تجاوزت 1 كوادريليون دولار- م يزيد بكثير عن الناتج المحلي الإجمالي العالمي البالغ 105 تريليون دولار.
ومع ذلك، تفيد منظمة العمل الدولية بأن أكثر من 58٪ من الدخل العالمي لا يزال يأتي مباشرة من الأجور. يظل العمل البشري، رغم هذه الأدوات المالية المجردة، العمود الفقري لمعظم الاقتصادات.
هذا الانفصال المتزايد بين الموارد الملموسة والآليات غير الملموسة للتمويل يثير أسئلة عميقة حول العدالة والاستدامة. ولكن ماذا سيحدث عندما لا يصبح العمل هو العمود الفقري للاقتصاد؟ عندما تجعل الذكاء الاصطناعي والروبوتات والأتمتة الجهد البشري غير ضروري لإنتاج السلع والخدمات، سيتم التشكيك في طبيعة المال ذاتها. فحين لا يعود المال مرتبطًا بالطاقة البشرية، سيكف عن أن يصبح أداة لتمثيل جهود الأفراد. وإذا لم يعد الاقتصاد يقيس العمل البشري، فما الذي سيقيسه إذن؟
أجزاء من اقتصادنا أصبحت بالفعل غير مرتبطة بالعمل. والآن، سيصبح الاقتصاد الحقيقي أيضاً منفصلاً تماماً عن المشاركة البشرية، وستتوقف عملية خلق الثروة تماماً عن أن تكون نتيجة للجهد البشري. ستُغلق الحلقة. والسؤال الملح هو: ما هي الصورة التي ستصبح عليها المجتمعات؟
هذه ليست أسئلة لمستقبل بعيد أو رجما بالغيب، بل هي تحديات يجب مواجهتها اليوم، حيث يتم إعادة تعريف العلاقة بين المال والعمل والقيمة بشكل جذري.
نهاية الإنتاج القائم على البشر
يشبّه العديد من المراقبين التحول التكنولوجي الحالي بالثورات العظيمة في الماضي- ظهور الزراعة، أو اختراع الطباعة، أو الثورة الصناعية. وبينما تقدم هذه المقارنات بعض الفائدة، فإنها تغفل تمييزاً حاسماً. كل ثورة سابقة في تاريخ البشرية جاءت بأدوات تضاعف الإنتاجية البشرية. المحراث جعل الزراعة أكثر كفاءة؛ الطباعة نشرت المعرفة على نطاق واسع؛ المصانع والآلات زادت من حجم وسرعة الإنتاج. ولكن في جميع هذه الحالات، بقي الإنسان في مركز العملية. فقد اعتمدت هذه الأدوات على الطاقة البشرية لتعمل.
أما الآن، فنحن على أعتاب ثورة لا تعزز فقط الإنتاجية البشرية، بل تهدد باستبدال الطاقة البشرية بالكامل. أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة قادرة بالفعل على كتابة المقالات، وتأليف الموسيقى، وتشخيص الأمراض، وتصميم المنتجات - وهي مهام تتطلب سنوات من التدريب والجهد البشري. الروبوتات والأنظمة الآلية تزداد قدرة على أداء المهام البدنية المعقدة دون إشراف بشري. هذا ليس مجرد تطور للأدوات؛ بل هو تحول جذري في العلاقة بين الإنسان والإنتاج.
تحمل تداعيات هذا التحول آثارًا عميقة. العمل كان دائمًا أكثر من مجرد وسيلة للبقاء؛ فقد كان مصدرًا للهوية، الهدف، والمعنى. يفتخر المزارع بزراعة المحاصيل. يجد الفنان إشباعًا في خلق الجمال. يستمد الطبيب غايته من شفاء المرضى. ولكن عندما تصبح الطاقة البشرية غير ضرورية لدعم الاقتصاد، فماذا سيعني العمل؟ وإذا فقد العمل معناه، كيف يمكن للأفراد أن يجدوا هدفًا؟
نحن ندخل عصرًا قد يجد فيه الملايين، وربما المليارات، أنفسهم بلا عمل تقليدي. وبينما يمكن أن يؤدي ذلك إلى أوقات غير مسبوقة من الترفيه والحرية الإبداعية، فإنه قد يؤدي بنفس السهولة إلى أزمة في المعنى. بدون البنية والتحقق التي يوفرها العمل، قد يشعر الناس بالضياع، وهم يكافحون لتعريف مكانهم في عالم لم يعد بحاجة إلى عملهم.
مقايضات التقدم
من المغري النظر إلى هذه التغيرات بتفاؤل. فالتقنيات التي تلوح في الأفق تحمل وعودًا استثنائية. قد يمكننا التطور في التكنولوجيا الحيوية من علاج الأمراض، وإطالة عمر الإنسان، وربما حتى القضاء على الشيخوخة تمامًا. قد يكون أول إنسان سيعيش 150 عامًا أو أكثر على قيد الحياة بالفعل في الوقت الراهن. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل مشكلات استعصت طويلًا على الفهم البشري، من التغير المناخي إلى ندرة الغذاء. قد تحررنا الأتمتة من الأعمال الشاقة، مما يسمح لنا بالتركيز على الإبداع والاستكشاف وبناء العلاقات.
ومع ذلك، يحذرنا التاريخ من أن التقدم لا يأتي دائما دون آثار عكسية. فالثورة الصناعية، مع كل تقدمها، فتحت الباب أمام أكثر الحروب تدميرًا في تاريخ البشرية. الأدوات التي تحسن حياتنا يمكنها أيضًا أن تُستخدم كأسلحة لتدميرها. التقنيات التي تعدنا بالوفرة قد تفاقم التفاوت، وتخلق أشكالًا جديدة من القمع، وتغذي النزاعات.
غالبًا ما تأتي القفزات الاستثنائية مع أحزان عظيمة. السؤال ليس ما إذا كنا سنواجه مقايضات، بل كيف ستبدو تلك المقايضات؟ هل ستوسع الأتمتة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، حيث يجني مالكو أنظمة الذكاء الاصطناعي أرباحًا هائلة بينما يُترك الآخرون فقراء؟ هل ستتنافس الأمم في الهيمنة على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، مما قد يفجر سباقات تسلح جديدة؟ وهل ستبقى الدول نفسها، ككيانات، وهي التي كانت الركيزة الأساسية للنظام الجيوسياسي، قادرة على البقاء في ظل هذا التحول العميق للمجتمعات البشرية؟
تهديد للبقاء
على مر التاريخ، سعى البشر لفرض النظام على فوضى الوجود. لقد تبنى البشر الأديان، واخترعوا الحكومات، والأنظمة الاقتصادية لتوفير البنية والتوقعات. لكن وتيرة ونطاق التغير التكنولوجي اليوم يُربك هذه الأنظمة، ويتركنا مع أسئلة أكثر من الإجابات. كيف سيبدو المجتمع عندما يختفي العمل التقليدي؟ كيف سنعيد تعريف مفاهيم مثل النجاح، الإشباع، والقيمة؟ ما العقود الاجتماعية الجديدة التي ستظهر لمعالجة هذه التحديات؟
تقف الإنسانية على عتبة أعظم تحول لها- تغيير سيعيد تعريف جنسنا البشري والكوكب نفسه. وهذا ليس مستقبلاً بعيدًا؛ من المتوقع أن يحدث هذا التحول في العقد المقبل، مع توقع بعض الخبراء لجدول زمني أقصر. ومع ذلك، نحن كجنس بشري، غير مستعدين له للأسف. السؤال لم يعد ما إذا كان هذا التغيير سيحدث، بل ما إذا كنا سنستطيع التكيف في الوقت المناسب للبقاء.
بدلًا من الاستسلام لليأس، يجب أن ننظر إلى هذه اللحظة كفرصة لإعادة تصور أنظمتنا وأولوياتنا. إذا لم يعد المال يعكس الجهد البشري، ربما يمكن إعادة تعريفه - كمقياس للازدهار المشترك أو التقدم الاجتماعي. وإذا لم يعد العمل التقليدي يرتكز حياتنا، يمكننا بناء مجتمع يقدر الأمور غير الملموسة: الإبداع، التعليم، وثراء العلاقات الإنسانية.
لن يكون الانتقال سهلاً، والمخاطر هائلة. التاريخ يوضح، بوحشيته المعتادة، أن التراجع غالبًا ما يسبق التقدم. المهمة الحرجة هي منع التدهور من الوصول إلى نقطة يصبح فيها التعافي مستحيلاً، كي ل نصل إلى نقطة اللاعودة.