عندما تحدث الرئيس بايدن لأول مرة عن سقوط نظام بشار الأسد كان حريصاً على التأكيد على دور إدارته في الوصول لتلك النتيجة، مشيراً إلى إضعاف إيران وحزب الله. لكن دور واشنطن يتجاوز ذلك بكثير، متمثلاً في إضعاف النظام نفسه بفرض عقوبات اقتصادية مشددة عليه وعلى من يتعامل معه من خلال قانون قيصر، وكذلك السيطرة مع الميليشيات الكردية على مناطق النفط في شرق البلاد التي حُرمت الدولة السورية من عوائدها. أما ما يتعلق بدور محتمل لدعم وتسليح وتدريب الفصائل المسلحة أو دفع الجيش السوري للتراجع دون قتال فمن الصعب تحديد ما قامت به واشنطن بدقة حالياً وستظل هناك أسئلة تحيط به وبدور كل من إسرائيل وتركيا وربما بعض دول المنطقة.
بمرور الوقت، يتزايد الترحيب الأمريكي بما حدث في سوريا وما له من أبعاد استراتيجية وتأثير على المصالح الأمريكية بينما يستعد البيت الأبيض لعودة الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
أهم الدروس التي خرجت بها واشنطن من غزو العراق عام 2003 أن إسقاط نظام صدام حسين مهما كانت بشاعته قد فتح الباب لما هو أسوأ حيث اضطرت لإرسال عشرات الآلاف من القوات الأمريكية فيما عرف بـ(the surge) لإخماد حرب أهلية طاحنة عام 2007، ثم العودة مرة أخري لمساندة القوات العراقية في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). لذلك فإن سؤالاً منطقياً يفرض نفسه: هل استعدت واشنطن لمرحلة ما بعد بشار؟ وكيف ترحب بإنهاء حكمه بينما الظروف الموضوعية تثير مخاوف مما هو أسوأ من السيناريو العراقي حيث تتميز سوريا بأكبر تنوع ديني ومذهبي وعرقي في العالم العربي؟
لقد كان أحد الأخطاء الجسيمة بعد سقوط بغداد أن بول بريمر الحاكم المؤقت أقر بتفكيك الجيش العراقي، ما أدي عملياً لتفكك الدولة وانهيارها، وهو أمر لا شك يذكره بايدن والمحيطون به، ومع هذا سمحوا لإسرائيل بتدمير الجزء الأكبر من الجيش السوري. صحيح أنه يُنظر إليه على أنه "جيش بشار" أو أنه طائفي لكن كان من الممكن إعادة تنظيمه وتأهيله لضمان تماسك الدولة خاصة مع عدم استبعاد إمكانية التصادم بين الفصائل المسلحة، وهو ما يمثل هدفاً في ذاته لإسرائيل التي يمكنها الآن الاستمرار في احتلال أجزاء إضافية من سوريا والهيمنة على بقيتها، بما يفرغ أي حديث عن وحدة سوريا وسلامة أراضيها من مضمونه.
هل يرفع ترامب يده عن سوريا؟
الحقيقة أن ترامب -كما ذكر مستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون- ليست لديه فلسفة أو أيديولوجية، فكل ما يفكر فيه هو ماذا يفيد ترامب في هذه اللحظة.
لقد فهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو تلك المعادلة في تعامله مع ترامب فلم يعدم ما يقدمه له. كما أن مستشار الأمن القومي الثاني لترامب (جنرال اتش آر ماكماستر) أضاف بُعداً آخر وهو أن نيتانياهو استغل جهل ترامب بالقضايا وكان يتلاعب به ليأخذ منه كل ما يريده.
قد يكون ترامب في فترته الثانية أكثر معرفة بالشؤون الدولية، لكنه لن يكون أقل استغراقاً في ذاته وشرهاً لتحقيق ما يراه مصلحة شخصية له.
وكما رأينا بعد اندلاع العمليات العسكرية الأخيرة في سوريا فإن موقف ترامب منها لخصه في عبارة فيها الكثير من الاشمئزاز بوصفها بأنها "أرض الرمال والموت" وأن "هذه ليست حربنا… يجب ألا نتدخل".
فترامب تتملكه نزعة انعزالية واضحة ورفض غريزي لدخول الحروب، لكنه مستعد أيضا لاتخاذ خطوات تهدد باندلاع الحرب كما حدث باغتيال القائد الإيراني قاسم سليماني. ونظرة سريعة للمحيطين به ممن اختارهم لشغل المناصب الهامة في الدفاع والخارجية والأمن القومي نجدهم جميعاً من أشد الصقور، أو كما وصفهم أحد المعلقين (أندرو نابوليتانو) فإنهم مجموعة من (المحافظين الجدد) برداء MAGA أي تيار ترامب (لنجعل أمريكا عظيمة مجددا).
والمعروف أن تيار المحافظين الجدد يرتبط بقوة بإسرائيل، هو الذي جر الرئيس الأسبق جورج بوش الابن إلي الحرب في العراق وكان يأمل في تكرار التجربة في إيران. وكثيراً ما انتقد ترامب تلك الحرب لكن لا يمكن الجزم بقدرته على تحجيم هذا التيار في إدارته الجديدة فهو من اختارهم وهم من سيستمع لنصائحهم في قراراته، ومنهم السناتور ماركو روبيو المرشح لوزارة الخارجية، الذي سبق وطالب عام 2015 بفرض حظر للطيران فوق سوريا. لكنني أستثني من هذه المجموعة تولسي جابارد مرشحة ترامب لمنصب مدير أجهزة الاستخبارات، فقد سبق لها زيارة بشار الأسد وأشادت بدوره في مواجهة التطرف الإسلامي، وربما لهذا السبب تواجه "جابارد" صعوبات كبيرة في إقناع أعضاء مجلس الشيوخ بالتصديق على تعيينها، ولكن حتي لو حصلت علي المنصب فإنها ستكون بمفردها وسط مجموعة الصقور، لكنها تظل الأقرب لشخصية وتفكير ترامب بما يعطيها بعض النفوذ.
لكن بصرف النظر عن التوجهات الشخصية للرئيس المنتخب فإنه لا يمكنه غض الطرف تماماً عن التطورات السورية لتأثيرها على المصالح الأمريكية. فسوريا - كما ذكر الكاتب المعروف توماس فريدمان- من نوع الدول التي تنفجر للخارج وليس الداخل، بما يؤثر على الدول المحيطة، ومنها بالطبع إسرائيل التي سنعود لها لاحقاً.
ورغم أن الولايات المتحدة لا يبدو أن لديها حتى اللحظة استراتيجية واضحة للتعامل مع سوريا لكن يمكن القول إن لديها عدة محاور أساسية:
أولا مكافحة الإرهاب، ونلاحظ أن التدخل الامريكي المباشر في الأحداث الأخيرة تركز على مهاجمة نحو 75 هدفاً لداعش في سوريا بما أكّد عزم واشنطن على عدم السماح لها باستغلال الفراغ الأمني لتطل برأسها من جديد مع توجيه رسالة واضحة لبقية الفصائل المسلحة بعدم الاقتراب أو التعاون معها حتى لا تصبح هدفاً للعمليات العسكرية الأمريكية. وسوف يكون على ترامب أن يقرر كيفية التعامل مع جبهة تحرير الشام التي صنفتها إدارته كمنظمة إرهابية عام 2018، لكنها الآن تتصدر الفصائل المسلحة التي انتزعت السيطرة على دمشق وأغلب المدن الكبري. وتقول المصادر الرسمية في واشنطن إن الجبهة صارت أكثر براغماتية واعتدالاً ويتحدث زعيمها أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) بلغة مقبولة وهناك مداولات بين المسؤولين والخبراء حول إمكانية رفعها من قائمة المنظمات الإرهابية. تقول واشنطن إنها ستنظر إلى أفعال الجبهة وسلوكها للحكم والقرار، وربما يكون ذلك أيضاً ما سيفعله ترامب للتأثير على سلوك الجبهة. صحيح أن هناك اتصالات مباشرة أكدها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تتم على الأغلب بقنوات استخباراتية، لكن المؤكد أن هناك رغبة أمريكية لخلق اتصال رسمي مباشر يعطيها تأثيراً أكبر علي أحمد الشرع ورفاقه بعيداً عن القناة التركية التي تعطي حكومة أردوغان نفوذا كبيراً يختصم من الدور الأمريكي، في وقت تتعرض فيه القوات الكردية المتحالفة مع واشنطن لهجمات من الفصائل الموالية لتركيا.
وسوف تركز إدارة ترامب -على الأقل علناً- على عملية سياسية جامعة لكل الأطراف وذلك بهدف منع انفراد جبهة تحرير الشام بالسلطة، ويمكنها أن تضغط بإبقاء أو رفع العقوبات الاقتصادية التي تمنع حتى الدول الأخرى من مساعدة سوريا في عملية إعادة البناء.
النفوذ الإسرائيلي وإيران
لكن يبقي الاهتمام والتأثر الإسرائيلي بسوريا هو العامل الأهم في إبقاء الارتباط الأمريكي بها، حيث أثبتت السنوات الأخيرة أنها-أي إسرائيل- هي من تقود السياسة الأمريكية في المنطقة، وليس العكس، وبالتالي سيظلّ أحد الأهداف الأمريكية حالياً ومستقبلاً هو ألا يسفر التغيير في سوريا عن وضع يهدد أمن إسرائيل و -بدرجة أقل- الدول الحليفة في المنطقة.
وقد لوحظ عند إعلان نيتانياهو عن احتلال القوات الإسرائيلية للمنطقة العازلة في سوريا أنه شكر ترامب على قراره أثناء رئاسته الأولى بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، وهو مؤشر على خطوة قادمة محتملة بأن يعترف أيضا بانضمام تلك الأراضي الإضافية لإسرائيل. ولكن، حتى لو لم يحدث ذلك الاعتراف، فلا أظن أن إدارة ترامب ستضغط على نيتانياهو لسحب قواته من تلك المنطقة، التي قد تستخدمها إسرائيل للضغط على السلطة الجديدة في دمشق للاعتراف بضم الجولان لها، وهو أمر مستحيل لكنها ستستغله كمبرر للإبقاء علي قواتها في المنطقة العازلة إلي أجل غير منظور.
ثانيا البرنامج النووي الإيراني، يظل الهدف الأمريكي/ الإسرائيلي الأكبر هو أن يساعد الوضع الجديد علي محاصرة آيات الله في إيران، وهو ما تحقق إلي حد بعيد بالضربات العنيفة التي وجهتها إسرائيل لحزب الله في لبنان، ثم بسقوط نظام الأسد الذي جعل بلاده المعبر البري من إيران والعراق إلي لبنان لإمداد الحزب بالسلاح والذخيرة.
واعتقادي أن هذه فرصة تاريخية لإسرائيل لتسوية كل حساباتها الاستراتيجية مع إيران، التي لم تعد تملك قوة الردع بالدفاع المتقدم الذي كان يقدمه لها حزب الله، ومن هنا فليس أمام طهران سوي القبول بشروط أكثر قسوة في اتفاق جديد حول برنامجها النووي، أو محاولة الإسراع بإنتاج قنبلة نووية تستعيد بها ذلك الردع المفقود. لكن، كما أثبتت التجارب خاصة في الأشهر الأخيرة، فإن إيران مخترقة تماما من أجهزة الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية بما يجعل من الصعب عليها المضي في هذه الخطوة دون انكشافها بما يزيد من احتمال تعرض برنامجها النووي لضربة قوية ظلّ نيتانياهو يدفع واشنطن تجاهها لسنوات طويلة وكاد ينجح في إقناع ترامب بها في فترته الأولي لولا تدخل القيادة العسكرية المعارضة لها في البنتاغون.
لكن الظروف الآن أكثر ملاءمة لإسرائيل، فإيران في أضعف حالاتها، ولا أظن نيتانياهو سيضيع هذه الفرصة الذهبية، ليس فقط للتخلص من الصداع النووي الإيراني، ولكن لحسم المعركة النهائية مع ما يسمي بمحور المقاومة، وإمكانية إسقاط النظام في طهران، وفرض هيمنة إسرائيلية على المنطقة في المستقبل المنظور بما يسمح بامتداد عمليات التطبيع بالشروط الإسرائيلية.
طبعا يظل هناك احتمال أن يتمرد ترامب جزئياً على السياسات المرسومة له المتعارضة مع توجهاته الشخصية، وأن ينقلب علي الأفكار الجاهزة لكبار المسؤولين المحيطين به وأن يفكر مرة أخري في سحب القوات الأمريكية من سوريا، لكن يظل ذلك احتمالاً ضئيلا، فمن نجحوا من قبل في إقناعه بإلغاء قرار الانسحاب من سوريا لن يعدموا الوسيلة لإقناعه أو الضغط عليه للسير في ركابهم.
بقي أمر آخر هام وهو أن ترامب في الأغلب سيخسر في الانتخابات النصفية للكونغرس بعد أقل من عامين لتأتيه أغلبية ديمقراطية معارضة، بما يحوله عملياً لبطة عرجاء في العامين الأخيرين لحكمه، خاصة أنه لن يرشح نفسه مرة أخري، وليس هناك من يفهم قواعد اللعبة السياسية في واشنطن أكثر مِن نيتانياهو، لذا فإن العامين القادمين سيكونان حاسمين في تنفيذ الأجندة اليمينية المتطرفة في إسرائيل لفرض رؤيتها وسياساتها فيما يُعرف في أمريكا بمشروع الانتصار الإسرائيلي!