من يقطن مدن وقرى الضفة الغربية المحتلة، يعرف حقيقة من يسمون بـ “المستعربين"، أو وحدة "دوفدوفان" وهم ليسوا عربا ولا فلسطينيين، رغم أن عناصرها يتحدثون اللهجة الفلسطينية بطلاقة وتكتسي وجوههم الملامح العربية. عندما يخترقون شوارع وأزقة الضفة الغربية وغزة قبل "طوفان الأقصى"، فإنهم عادة ما يكونون في مهمة خاصة بحثا عن "صيد ثمين"، وتعني في الغالب قتل ناشط أو ناشطين فلسطينيين أو خطفهم في حالات استثنائية. ومن يسمع أحاديثهم لن يعرف انهم جنود إسرائيليون في مهمة غير مسموح بفشلها، حسبما تقول الأدبيات الإسرائيلية، التي تصورهم بأنهم لا يعرفون الفشل وغير مسموح لهم أن يسقطوا قتلى أو أسرى. فهل هذه هي حقيقة "المستعربين"، كما يصورهم مسلسل "فوضى" الإسرائيلي الشهير الذي عرضته نتفليكس والذي خدم أحد مؤلفيه في هذه الوحدة؟
كثيرا ما تستخدم هذه الوحدة حيلا لمساعدتها في الدخول إلى أعماق المدن الفلسطينية دون إثارة الانتباه، فمرة يتخفى أفرادها بتقمص شخصية فلسطيني متدين، بذقن وطاقية أو كوفية وعقال، ومرة يستخدمون عربات يشيع استخدامها في أوساط الفلسطينيين لبيع الفواكه والخضار، بل إنهم استخدموا سيارات إسعاف بلوحة أرقام فلسطينية.
ولأن نطق اللغة العربية بلسان طبيعي صعب على الأجانب، مثل اليهود الغربيين أو الاشكناز، خاصة في بعض الأصوات مثل الخاء والحاء والعين، فقد سعت "دوفدوفان" لتجنيد يهود من أصول عربية، يتحدثون لغتهم الأم وموغلين في خصوصيات الثقافة المحلية. ليؤور راز، نجم المسلسل وأحد مؤلفيه ينتمي لعائلة مزراحية وحسب سيرته الذاتية المنشورة على عدة مواقع فهو يتحدث العربية بلكنة منذ الصغر لأن أمه جزائرية الأصل ووالده عراقي، وربما لهذا السبب كان أحد عناصر دوفدوفان لسنوات.
ويحرص أفراد الاستخبارات الإسرائيليين على التغلغل في الخصوصيات الاجتماعية والثقافية للمجتمع الفلسطيني، عن طريق دراسة البيئة المحلية بطرائفها ونوادرها اللغوية وألقاب الأشخاص الشائعة فقط في محيطهم العائلي، فحين يستدعون شخصا للتحقيق يفاجئونه بالسؤال عن " عويجا" مثلا أو "أبو الطبيخ"، عوضا عن السؤال عن اسمائهم الشخصية، عندها يقتنع المطلوب إن كان قليل الخبرة بأن الأجهزة تعرف كل شيء ولا تخفي عليه حتى الألقاب الشائعة، فينهار ويعترف.
يتابع المسلسل مغامرات ““دورون”" ووحدته في ملاحقة نشطاء تنظيمي حماس والجهاد الإسلامي، من الضفة الغربية إلى غزة، بل إنهم يتسللون إلى الأراضي اللبنانية والسورية.
أول ما يلفت انتباه المشاهد العربي هو إشكالية فنية لم يتمكن معدو المسلسل من التعامل معها، فكما أسلفنا يتحدث عناصر "المستعربين" اللغة العربية بلهجة فلسطينية مقنعة، وهم ضليعون ليس فقظ في اللغة ولهجاتها، بل في العادات والثقافة المحلية، حتى يتمكنوا من تنفيذ مهماتهم في الأوساط الفلسطينية دون أن تُكشف هوياتهم.
واجه معدو السلسلة صعوبة في العثور على ممثلين إسرائيليين يتقنون اللغة العربية، ولم يلجأوا لاستخدام ممثلين فلسطينيين إلا في بعض الشخصيات الهامشية، لذلك جاء أداء الممثلين اللغوي غير مقنع. من الصعب على المشاهد العربي أن يقتنع أن "“دورون”" استطاع أن يقنع فتاة فلسطينية أنه فلسطيني يعمل مع جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني ويوقعها في حبه بينما هو يتحدث اللغة العربية بلكنة قوية ونطق بائس للكلمات.
هذا على المستوى الشكلي، أما على مستوى ملامح افراد القوة ومدى مطابقتها او اختلافها عن ملامح عناصر "دوفدوفان"، فنحن نعرف أن صانعي المحتوى الدرامي والكتاب الإسرائيليين يرسمون ملامح شخصياتهم بشكل مسيس لكن بطريقة ذكية لا تكشفهم بسهولة أمام المتلقي. أي أنهم يحاولون تضليل المتلقي عن طريق "رشوته" بملامح واقعية لكن سطحية للشخصيات.
في هذا المسلسل مثلا يقول أحد عناصر القوة إن تدريبهم كان كفيلا بتجريدهم من أي مشاعر إنسانية في التعامل مع الأهداف (العناصر الفلسطينية التي يقتلونها أو يعذبونها). وهذا صحيح، ويمكن أن يحسب اعترافا مباشرا وصدقا في تصوير الملامح، سوى أنه ورد في لقطة واحدة هامشية، بينما حرص صانعو المسلسل على نفيه من خلال سلوك عناصر الوحدة.
عمل المسلسل أيضا على خلق صورة أسطورية لأفراد الوحدة، فهم أبطال خارقون ليس فقط في قدراتهم العسكرية ومواهبهم المتعددة، فمثلا يصور المسلسل "“دورون”" على أنه دون جوان، يوقع في حبائله الفتيات الفلسطينيات بكل سهولة، بل يقتادهن إلى السرير بشكل طبيعي وبكل سلاسة، وكأن الأمر معتاد وشائع في المجتمع الفلسطيني.
أما الشخصية التي تحمل اسم "ايوب"، وهو قائد الوحدة، فهو حين وقع في أيدي عناصر من حزب الله استدرجوه إلى العاصمة البلجيكية بروكسل كان خارقا في مقاومة كل أشكال التعذيب التي استخدمها آسروه من أجل انتزاع اعترافات منه. يظهره المسلسل بوجه دام وأطراف مكسورة بفعل التعذيب، لكنه يقاوم بشراسة ولا يرف له جفن. ويبقى كذلك حتى حين نقلوه إلى لبنان ومن ثم إلى سوريا، حيث تسلل افراد من وحدته وتمكنوا من إنقاذه.
وهناك مشاهد أخرى كثيرة تتجلى فيها "إنسانية" أفراد الوحدة، فـ"“دورون”"، الدون جوان، بعد أن يوقع الفتيات الفلسطينيات في حبائله، ويسيطر على أجسادهن، يبقى علي الوفاء لهن حين يقرر الجهاز إما قتلهن أو التخلي عنهن. فكثيرا ما يصطدم مع مرؤوسيه انتصارا لعشيقاته اللواتي غرر بهن وجندهن للجهاز أو على الأقل استطاع استخدامهن للوصول إلى معلومات عن نشطاء فلسطينيين.
في الواقع تتعامل الأجهزة الأمنية مع المتعاونين معها من الفلسطينيين بازدراء. تستخدمهم بعد أن تكون غررت بهم أو ابتزتهم، وحين يصبحون عديمي الفائدة نادرا ما تهب لمساعدتهم. ينتهي أغلبهم منبوذين في المدن الإسرائيلية، متروكين لمصائرهم. حتى حين تريد الدولة الإسرائيلية مكافأتهم فهي تدفع لهم مرتبات من أموال تبتزها من ميزانية السلطة الفلسطينية. ومن المعروف أن السلطات الإسرائيلية تقوم بجباية أموال الجمارك على الحدود مع الأردن من المواطنين الفلسطينيين، وفقا لترتيب تضمنته اتفاقية أوسلو. من المفروض أن تقوم الدولة الإسرائيلية بتحويل هذه الأموال الفلسطينية كاملة غير منقوصة إلى السلطة الفلسطينية، لكنها تفعل ذلك بشكل جزئي، حيث تخصم منها مقابل أشياء كثيرة، منها رواتب للعملاء الفلسطينيين السابقين في أجهزة الأمن الإسرائيلية.
ومن الملفت للانتباه كيفية تصوير المسلسل للعلاقة بين الوحدة وجهاز الأمن الفلسطيني. يصور المسلسل مسؤولي الأمن الفلسطينيين وكأنهم على علاقة ودية مع نظرائهم الإسرائيليين، على الأقل من الطرف الفلسطيني، فنرى كبار مسؤولي جهاز أمن السلطة متهافتين في تعاملهم مع مسؤولي الأمن الإسرائيليين، بينما أولئك يتعاملون معهم بازدراء، خاصة العناصر النسائية. يتكرر مشهد يخاطب فيه مسؤول جهاز الأمن الفلسطيني نظيرته الإسرائيلية بـ"حبيبتي"، فتنهره بازدراء قائلة: أنا مش حبيبتك!
رغم ذلك يتعين القول أن سجل دوفدوفان الحقيقي، وعلى عكس ما يصوره "فوضى" ، لم يكن كله لأبطال اسطوريين. فقد لحقت بالوحدة هزيمة مدوية في عام 2000 في مواجهة ناشط فلسطيني واحد هو محمود أبو الهنود. في ذلك العام تقدمت الوحدة مدعومة بالطيران الإسرائيلي لاعتقال أبو الهنود أحد قادة حماس في قرية عصيرة الشمالية، لكنها بدلا من تنفيذ "عملية نظيفة" على طريقتها، اكتشف أبو الهنود تقدم أفرادها وتبادل معهم إطلاق النار. وحسب الإعلام الإسرائيلي وقتها ارتبك افراد الوحدة المتسللين في شوارع وفوق أسطح البلدة وأطلقوا الرصاص على بعضهم فسقط ثلاثة قتلى منهم وجُرح آخرون واضطرت إسرائيل لوقف عمليات الوحدة مؤقتا.
في مقابل تلك الحادثة الحقيقية، يشدد المسلسل على السلاسة التي يدخل بها أفراد الوحدة الإسرائيلية إلى الأوساط الفلسطينية في المدن والقرى، إلى درجة أن هناك مشهدا في إحدى الحلقات يصور جنازة أحد الناشطين، بينما يحمل النعش عناصر من حماس ملثمين بشعار الحركة ويرددون هتافات بالعربية، ليكتشف المشاهد أن هؤلاء، وهم عشرات، هم من أفراد الوحدة الإسرائيلية. والأدهى من ذلك أن حماس لا تكشفهم إلا عندما يقرر قائدهم، “دورون”، تحذير فتاة فلسطينية كان قد استخدمها بعد تضليلها لانتزاع معلومات. لقد جازف “دورون” بكشف عناصره في سبيل أن يحذر الفتاة الفلسطينية ويطلب منها مغادرة المنطقة.
في الواقع لا يرى الفلسطينيون هذه اللفتات الإنسانية في تعاملهم مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، سواء كانوا متهمين أو مضللين أو متعاونين.
أما أكثر ما لفت انتباهي في المسلسل فهو سهولة دخول عناصر المستعربين وتسللهم إلى تجمعات الناشطين السياسيين، سواء في الأراضي الفلسطينية أو في لبنان أو حتى في سوريا.
من الواضح أنهم يتغلغلون فعلا، فقد كشف ذلك مسلسل الاغتيالات في قيادات حزب الله وحماس مؤخرا، لكن في الواقع يحدث ذلك عن طريق قذائف أو صواريخ موجهة عن بعد. في الواقع أيضا، هم يجندون عناصر محلية مقربين من الهدف، لكنهم لا يصلون إليه بأنفسهم، بخلاف المسلسل، حيث نرى عناصر الوحدة يتجولون في شوارع المدن العربية، ومنها غزة قبل الحرب، بسياراتهم وأجهزة اتصالهم، ينفذون المهام ويخرجون منها بنفس السلاسة.
في الحقيقة يمكن ملاحظة "التوجيه السياسي" في الدراما الإسرائيلية، لكنه مستخدم بشكل ذكي، مموه، لا يجعله مكشوفا أمام المشاهد، وهذا هو سر عدم إساءته إلى دراما المسلسلات أو الأعمال الأدبية وعدم تأثيره على مدى مصداقيتها الدرامية.