على وقع أزمات الطاقة والمنافسة الآسيوية والتراجع الديموغرافي، يواجه الإنتاج الصناعي في أوروبا تحديا خطيرا، لدرجة أن هناك من يجادل الآن بأن القارة العجوز قد تشهد "اختفاء التصنيع" إذا استمر الحال هكذا بوتيرة متصاعدة. لكن كابوسا مثل هذا لن يؤثر على أوروبا فقط، لأن تداعياته ستؤثر على شركائها في جنوب المتوسط وشرقه.
تواجه القاعدة الصناعية في أوروبا، والتي كانت ذات يوم العمود الفقري للنمو الاقتصادي والتوظيف، صعوبات كبيرة في الوقت الراهن. فالاتحاد الأوروبي يعاني من ضعف الطلب الداخلي، وارتفاع تكاليف الطاقة، والمنافسة الشرسة من الصين والولايات المتحدة لذلك يظل السؤال قائمًا: هل أصبح التراجع هو قدر الصناعة في أوروبا؟
في تقرير حديث، حذّر رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق، ماريو دراغي، من أن أوروبا تواجه "تحديًا وجوديًا". ويتوقع دراغي أن ينزلق اقتصاد القارة إلى "معاناة بطيئة" إذا لم يتم التعامل مع هذه التحديات، مما يجعلها غير قادرة على الحفاظ على طموحاتها الاجتماعية والاقتصادية. المؤشرات المتاحة، بدءًا من الناتج المحلي الإجمالي إلى إنتاج المصانع، تقدم صورة قاتمة للحاضر. رغم ذلك، هناك ما يوحي أن تعديلات السياسات الذكية والتحولات القائمة على التكنولوجيا قد تدعم قدرة الصناعة الأوروبية على الاستقرار.
تؤكد بيانات الإنتاج الصناعي من يوروستات الاتجاه التنازلي. فقد انخفض الإنتاج في منطقة اليورو بنسبة 2.2% خلال العام الماضي، بينما سجل الاتحاد الأوروبي الأوسع (شاملا الدول التي لم تتبن عملة اليورو حتى الآن) انخفاضًا بنسبة 1.7%. وكانت التراجعات أكثر وضوحًا في القوى الاقتصادية الكبرى في أوروبا - ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا - حيث انخفض إنتاج السلع الرأسمالية والسلع الاستهلاكية المعمرة بشكل حاد. ويتماشى هذا التراجع مع تقييم لصحيفة وول ستريت جورنال التي أشارت إلى أن "محرك النمو" الأوروبي ربما يكون قد "تعطل".
تكاليف الطاقة والمنافسة
ألمانيا، التي تعد تقليديًا مركز القوة الصناعية في أوروبا، في وضع صعب. فقد انخفض الإنتاج الصناعي الألماني بنسبة 14%، ليصل إلى مستويات لم تُسجل منذ عام 2006 بعدما وصل إلى مستويات ذروته في عام 2017. وأعلنت شركة فولكسفاغن، أكبر جهة توظيف في البلاد، عن خطط لإغلاق ثلاثة مصانع وتسريح موظفين، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الشركة. تعكس هذه الإغلاقات أكثر من مجرد خفض التكاليف، إذ تشير إلى المصاعب التي تواجه ألمانيا في المنافسة عالميًا في ظل سعيها للتوفيق بين الطلبات المحلية والدولية على التكنولوجيا غير الملوثة.
وتعد أسعار الطاقة في الوقت الراهن، أخطر نقاط الضعف التي تواجه أوروبا. فتكاليف الغاز الطبيعي في أوروبا أعلى بثلاث إلى خمس مرات مقارنة بالولايات المتحدة، بينما أسعار الكهرباء الصناعية أعلى بمرتين إلى ثلاث مرات مقارنة بمثيلاتها في الولايات المتحدة والصين. يعود هذا التفاوت إلى اعتماد أوروبا على نموذج التسعير الحدّي، حيث تُحدد تكلفة الطاقة بناءً على أغلى وقود مطلوب لتلبية الاحتياجات. وعلى الرغم من نمو مصادر الطاقة المتجددة، إلا أنها غير كافية لتلبية الاحتياجات على مدار العام، خاصة في الدول التي تخلت عن الطاقة النووية، مثل ألمانيا وإسبانيا.
سلطت مجلة الإيكونوميست الضوء على تحديات الطاقة في ألمانيا، مشيرة إلى أن اعتمادها على الغاز الروسي الرخيص - الذي كان عنصرًا أساسيًا في نموذجها الصناعي لعقود - أصبح سلاحًا ذا حدين. ومع اختفاء الغاز الروسي الرخيص من المعادلة، يتعين على الاقتصاد الألماني إعادة التوازن، لكن هذه التحولات لا تزال بطيئة ومليئة بالعقبات.
تحاول المفوضية الأوروبية معالجة بعض هذه القضايا. ففي الآونة الأخيرة، فرضت تعريفات جمركية تصل إلى 35% على السيارات الكهربائية الصينية، في خطوة تهدف إلى حماية المصنعين الأوروبيين من الواردات المدعومة. يوفر قطاع السيارات وحده فرص عمل لـ 13 مليون شخص في أوروبا، وتشكل السيارات الكهربائية جزءًا متناميًا من السوق. هذه التعريفات الجمركية المرتفعة قد تمثل راحة مؤقتة، لكنها لا تعالج المشكلات الأساسية مثل ارتفاع تكاليف الإنتاج وأسعار الطاقة التي تمثل تحديا لمكانة أوروبا في سلاسل التوريد العالمية.
توفر مصادر الطاقة المتجددة فرصًا جديدة، لكن شبكات الطاقة في أوروبا تعمل بدأب لإدماج هذه المصادر بشكل فعال. فمن شأن شبكات طاقة أكثر كفاءة أن تؤدي إلى خفض التكاليف وتحسين الاعتماد عليها، لكن التحديثات المطلوبة في قطاع الطاقة مكلفة وتتطلب استثمارات طويلة الأجل. وقد مشكلة أسعار الطاقة المرتفعة بالفعل إلى إغلاق المصانع وانتقالها إلى خارج القارة، خاصة في قطاع الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الكيماويات والمعادن والتكرير.
يشير تقرير ماريو دراغي إلى ضرورة معالجة هذه القضايا إذا كانت أوروبا تأمل في تجنب عملية قد تؤدي لتخليها عن التصنيع على المدى البعيد. ويرى أن التركيز على الطاقة الخضراء وأهداف المناخ، رغم أهميته، يجب أن يتوازن مع حلول عملية تدعم التصنيع. تحتاج أوروبا إلى شبكة طاقة أكثر مرونة وحوافز أكبر للشركات لاعتماد تقنيات كفاءة الطاقة.
إن النموذج الراهن للإنتاج الصناعي في أوروبا يتعرض لمزيد من الضعف بسبب تراجع الانتاجية. على سبيل المثال، نما الدخل الحقيقي المتاح للفرد في الولايات المتحدة بوتيرة أسرع من أوروبا منذ عام 2000. ويرجع ذلك جزئيًا إلى الفرص الضائعة خلال الثورة الرقمية. كما يظل القطاع التكنولوجي الأوروبي غير متطور مقارنة بمنافسيه العالميين، ويتجه العديد من رواد الأعمال الأوروبيين إلى السوق الأمريكية بسبب التنظيمات الأكثر مرونة والوصول الأكبر إلى رأس المال الاستثماري.
مع ذلك، تظل أوروبا رائدة عالميًا في بعض الصناعات المتخصصة ذات المهارات العالية. تزدهر قطاعات مثل الهندسة الميكانيكية، والأدوية، وصناعات الطيران، مع شركات مثل إيرباص ونوفو نورديسك التي تجذب استثمارات كبيرة. تعتمد هذه الصناعات على القوى العاملة المؤهلة جيدًا والخبرة المؤسسية الواسعة، مما يمنح أوروبا ميزة تنافسية على الرغم من التحديات.
تعد الشيخوخة السكانية في أوروبا عاملاً آخر في التحديات الاقتصادية. فبحلول عام 2040، من المتوقع أن ينخفض عدد القوى العاملة في أوروبا بحوالي مليوني شخص سنويًا. هذا التحول الديموغرافي سيزيد من الضغط على البرامج الاجتماعية، مما يبرز الحاجة الملحة إلى تحسين الإنتاجية والابتكارات مثل الأتمتة. وتعد ألمانيا رائدة بالفعل في مجال أتمتة المصانع، مما قد يساعد في تخفيف نقص العمالة، ولكنه يتطلب استثمارات كبيرة مقدماً.
التداعيات على الشرق الأوسط
يؤدي التراجع الصناعي الأوروبي، الناتج عن ارتفاع تكاليف الطاقة والمنافسة العالمية والتحولات الاقتصادية الهيكلية، إلى تأثيرات ملموسة على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. مع تقلص القاعدة الصناعية الأوروبية، ينخفض الطلب على المدخلات الصناعية والطاقة، مما يؤثر على اقتصادات دول الخليج المصدرة للنفط. دفع هذا الانخفاض دولاً مثل السعودية والإمارات إلى تنويع اقتصاداتها، بالتركيز على قطاعات مثل الطاقة المتجددة والسياحة والتمويل لتعويض تراجع الإيرادات.
في شمال إفريقيا، حيث ترتبط اقتصادات دول مثل المغرب وتونس ومصر ارتباطًا وثيقًا بالأسواق الأوروبية، سيؤدي التراجع الصناعي إلى تفاقم نقاط الضعف. انخفاض الاستثمارات الأوروبية وضعف التجارة يزيد من البطالة والضغوط المتعلقة بالهجرة. في الوقت نفسه، تتأثر اقتصادات بلاد الشام، التي تعاني بالفعل من عدم الاستقرار الإقليمي، بانخفاض التحويلات والتجارة من أوروبا.
على الرغم من هذه التحديات، تخلق التحولات الاقتصادية فرصًا للمنطقة لتعزيز ارتباطها الاقتصادي مع القوى الاقتصادية الناشئة مثل الصين والهند، التي تبحث عن شركاء جدد في التجارة والطاقة. على سبيل المثال، تعزز دول الخليج اندماجها في مبادرة الحزام والطريق الصينية لمواجهة آثار الركود الاقتصادي الأوروبي.
يرى محللون، مثل نيكو باليش من "أوكسفورد إيكونوميكس"، أن التراجع في الإنتاج الصناعي الأوروبي يمثل ركودًا مؤقتًا وليس التخلي عن التصنيع على المدى البعيد. وفقًا لباليش، فإن انخفاض الحصة الأوروبية من الإنتاج الصناعي العالمي يعزى بشكل رئيسي إلى زيادة الإنتاج الآسيوي، وليس إلى تآكل جذري في التنافسية. يعتقد أن بعض الصناعات قد تتراجع، لكن صناعات أخرى ستنمو، خاصة تلك التي تتطلب مهارات ومعرفة متقدمة.
قد يعتمد مستقبل الصناعة الأوروبية على قدرتها على التكيف مع نموذج نمو أكثر استدامة، يعتمد على مصادر طاقة متنوعة، والابتكار التكنولوجي، وزيادة الطلب المحلي. وبينما يجادل البعض بأن تكاليف الطاقة المرتفعة تعيق النمو، يرى المؤيدون أن تحسين البنية التحتية وإطار تنظيمي مرن قد يدعم ازدهار القطاع الصناعي الأوروبي.
تواجه الصناعة الأوروبية مشهدًا مليئًا بالتحديات، من تكاليف الطاقة إلى المنافسة العالمية والتحولات الديموغرافية. ومع ذلك، فإن قدرة أوروبا على الريادة في الصناعات المتقدمة ذات المهارات العالية، إلى جانب تغييرات سياسية ذكية، يمكن أن تضمن بقاء القارة قوة صناعية. يعتمد مستقبل الصناعة الأوروبية على قدرتها على تحقيق التوازن بين الضغوط الاقتصادية الآنية والأهداف طويلة الأمد، من خلال إعادة تصور نموذجها الطاقي وإعادة ضبط نهجها تجاه المنافسة العالمية.