تعددت الأسباب التي أدت إلى غياب الديمقراطية في البلدان العربية منذ استقلالها "الصوري" عن الاستعمار، فمنها ما هو إفراز لثقافة راسخة تصنعها الأيديولوجيات الدينية في حديتها عن "البيعة" و"الأممية" و"استعادة النموذج السياسي التاريخي"، كما تصنعها العلمانية ذات الطابع الشمولي وعلى رأسها الناصرية والبعثية وبعض التوجهات اليسارية التي لا تعطي الحرية وزنًا كبيرًا في فكرها وممارساتها، إلى جانب التقاليد القبلية والعشائرية المتجذرة في العقول والنفوس.
وتوجد عوامل أخرى تتعلق بقفز العسكريين إلى سدة الحكم في بلدان عربية عدة فور رحيل المستعمر، وغلبة الطابع الشمولي والتسلطي على حركات التحرر، وشيوع التصورات الشعبوية عن "البطل المخلص" على حساب "المؤسسية"، ومنها ما يرتبط بتأخر التعليم أو ضعف كيفه قياسًا إلى كمه، وهو وسيلة مهمة لتبصير الناس بحقوقهم. وهناك شق يتعلق بعدم الدخول إلى فضاء التحديث السياسي الذي يبدأ بوجود عقد اجتماعي بين الشعب والسلطة، وإعلاء دور القانون في هندسة الحياة الاجتماعية.
وجاء الصراع العربي ـ الإسرائيلي ليشكل عاملًا ثقيل الوزن في تأخر ميلاد الديمقراطية عربيًا، آخذًا اتجاهين يشكلان معا سكينًا يطعن محاولات بناء نظم سياسية ديمقراطية بالبلاد العربية في عنقها، أو منجلًا يجز كل ديمقراطية ناشئة ليمنعها من الاستواء على سوقها، وقد يعيدها إلى نقطة الصفر، أو حتى ما دون ذلك، مثلما رأينا في بلاد عربية عدة عقب إجهاض الثورات والانتفاضات التي اندلعت عام 2011.
والاتجاه الأول شكله السلوك الإسرائيلي نفسه. ففي ظل عملها الدؤوب والمُحكم على إضعاف النظام الإقليمي العربي عبر التفتيت والتشتيت والإلحاق بالمشروع الغربي، وإسرائيل في قلبه، حاربت إسرائيل التحول الديمقراطي عربيًا، لأن هذا من شأنه أن يُمكّن الشعوب العربية من ناصية القرار، ما يؤثر سلبًا على علاقة الدول العربية بإسرائيل، من منظور أن أغلب هذه الشعوب يناصر القضية الفلسطينية.
كما خشيت إسرائيل من أن إقامة نظم ديمقراطية في البلاد العربية سيجعل تل أبيب تفقد الصورة التي صنعتها لنفسها بأنها واحة الديمقراطية وسط صحراء من الاستبداد، أو أنها "فيل في غابة"، حسبما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك في معرض تحليله لما وصفه بـ "المحيط الصعب" الذي تعيش إسرائيل في وسطه.
لهذا رأينا كيف أبدت إسرائيل مخاوفها من الثورات العربية التي نادت بالحرية، وبناء نظم جديدة، وبرز هذا جليًّا مع ثورة يناير المصرية، لأن نجاحها كان من شأنه أن يؤثر على التعاون الأمني الخفي بين القاهرة وتل أبيب، أو يتم تجميد السلام، بما يجبر إسرائيل على إعادة هيكلة جيشها، في العدد والعدة والتدريب، لتضع في حسبانها مواجهة مصر، أسرع مما تصورت وقدرت. وقد عبر عن ذلك الموقف رئيس اركان الجيش الاسرائيلي السابق أشكنازي في تصريح له قبل رحيل الرئيس المصري حسني مبارك بيوم واحد، حين أكد أن الاستقرار في المنطقة العربية أهم لإسرائيل من الديمقراطية.
لا يمكن نسيان المخاوف التي حلت في نفوس الإسرائيليين وقت "الربيع العربي"، ووصف بعضهم انتفاضاته بالمأساة الشديدة، لأنها قد تُحيل الأوضاع إلى ما قبل حرب يونيو 1967، حال وصول قوى معادية لإسرائيل إلى الحكم، خصوصًا من الحركة السياسية الإسلامية، وهنا طرحت تل أبيب فكرة، أشبه بـ "خطة مارشال" لوقف المد الإسلامي، وقدمت نفسها طرفًا يمكن التعاون معه، والوثوق فيه، لتحقيق هذا الغرض.
فإسرائيل تريد في النهاية نظم حكم غير ديمقراطية حولها، تحتاج إلى تل أبيب في تثيبت وجودها، سواء بالتعاون المباشر أو التقرب إلى الولايات المتحدة، مقابل تحويل القوة العسكرية العربية إلى قوة شرطية هدفها حماية هذه الأنظمة، بالدرجة الأولى، ومسموح لها، من حين إلى آخر، تسويق خطاب داخلي حول العداء لإسرائيل أو مواجهة مخططاتها لدغدغة مشاعر المواطنين.
وهذه الرغبة الإسرائيلية لم تكن بعيدة، على مدار العقود الفائتة، عن ترتيبات القوى الغربية، التي كان يشغلها تحقيق مصالحها، وحماية أمن إسرائيل، ومنع اليسار من الوصول إلى السلطة في الدول العربية أيام الحرب الباردة، وحتى قبل ذلك.
وشكلت هذه الأهداف عصب سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، التي ملأت الفراغ في الشرق الأوسط بعد انسحاب بريطانيا، ولذا ساعدت وتحمست لوصول العسكريين إلى الحكم، في وقت كانت فيه المؤشرات تبين أن القوة المؤهلة لوراثة أنظمة الحكم التقليدية في العالم العربي تتوزع بين الإسلاميين واليساريين، وهي السياسة نفسها التي اتبعتها في أمريكا اللاتينية في وجه تمدد اليسار. لهذا لم تُعن واشنطن بمدى ديمقراطية الأنظمة العربية أو ديكتاتوريتها، إنما عنيت بتحقيق هذه الأهداف الثلاثة.
ليس معنى هذا بالطبع أن كل العسكريين الذين وصلوا إلى سدة الحكم كانوا مجرد ذيول وأتباع للمشروع الغربي الذي يدافع عن إسرائيل ويدللها، فبعضهم، وإن جارى الأمريكيين في البداية كنوع من الحيلة حتى يتمكن، فهو سرعان ما ذهب إلى تبني مشروعه الوطني المختلف، المعادي للنزعة الاستعمارية في الغرب، ونظر لوجود إسرائيل باعتبارها وجهًا لهذه النزعة، ولذا يجب مواجهتها. والمثال الظاهر في هذا المضمار هو الرئيس المصري جمال عبد الناصر. لكن الغرب خطط للتخلص ممن خرجوا على الخط الذي رسمه لأنظمة الحكم في العالم العربي، ونجح في ذلك غالبًا، واستعاد النظام الإقليمي العربي ليدور في فلكه مرة أخرى.
أما الاتجاه الثاني فيعود إلى الأنظمة العربية نفسها، إذ اتخذت من الصراع مع إسرائيل ذريعة أو تكأة لتأجيل الديمقراطية تحت لافتات من قبيل: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" و"تحرير فلسطين هو الهدف الأسمى"، وبذا تم إرجاء البحث في مسألة السلطة السياسية، من حيث الفكر والممارسة، أو العلاقات المدنية ـ العسكرية، حتى يتحقق هذا التحرير.
ووجدت هذه الدعوة قبولًا لدى تيارات وفئات وشرائح اجتماعية عربية عدة، أو استخدمت بقوة في قمع كل صوت ينادي بالديمقراطية، أو يربط تغول إسرائيل بديمقراطيتها الداخلية بين اليهود، أو يؤمن بأن هذا التحرير لن يكون إلا بتحرر البلاد العربية أولًا من نخب تتصرف كأنها مستعمر جديد.
لكن ظلت هذه أصوات معزولة في مقابل تلك التي عملت بقوة على تعزيز دور الجيش في الحياة السياسية، تحت ذريعة أن هذا مهم في مراحل الصمود والتصدي والتحدي والصراع والحرب، رغم أن هذه المهمة كان من المفروض أن تؤدي إلى العكس تمامًا، وهو تفرغ الجيوش لمهمتها القتالية، وترك السياسة والاقتصاد للنخب المدنية.
ظل العسكريون طوال الوقت يتحدثون، سرًا وهمسًا وجهرًا، عن ضرورة ألا يتركوا ظهورهم مكشوفة، ولذا لابد أن يكونوا في السلطة، والقرار بأيديهم، فلا يزج بهم أحد في حرب، ولا يقرر طرف نيابة عنهم دفعهم إلى مواجهة مسلحة. وطالما تم استدعاء قضية "الأسلحة الفاسدة" المزعومة، التي أُتهم بها الملك فاروق في حرب 1948 لتبرير وجود الجيش في السلطة حتى وهو في مهمة حرب، مع أن الخبرة البشرية أثبتت صحة المقولة الذهبية للزعيم الفرنسي شارل ديجول: "الحرب أخطر من أن تترك للجنرالات وحدهم".
واستخدم العسكريون احتمال قيام الحرب ضد إسرائيل في أي وقت، في أمرين: الأول هو الإسهام في منح نظم حكمهم شرعية بدرجة معينة، قائمة على التصدي للعدوان أو تحرير الأرض السليبة أو مناصرة القضية الفلسطينية، بوصفها قضية العرب المركزية. والثاني هو نقل السمت العسكري، في التفكير والتعبير والتدبير، إلى الحياة السياسية، تحت دعاية زاعقة تقول إننا مجتمعات في حالة حرب محتملة، أو عليها أن تواجه مؤامرة دائمة عليها. وانطبق الأمر نفسه بدرجة واضحة على دول تحكمها نخب تقليدية على أساس وراثي.
ظل هذا قائمًا عقودًا من الزمن. وحتى حين ذهبت بعض أنظمة الحكم إلى إبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل، فإنها لم تتخل عن الميزة التي تكتسبها من فكرة التصدي هذه، اتكاء أيضًا على الأطماع الإسرائيلية في العالم العربي، سواء بقيادته اقتصاديًا وتقنيًا وفق منطق شيمون بيريز أو إخضاعه بالقوة العسكرية وفق رغبة بنيامين نتنياهو وحلفائه من اليمين المتطرف.
وهنا يتجدد الحديث في مصر عن أطماع إسرائيل في سيناء، وفي الأردن عن مخاوف من أن يطرد إليها فلسطينيو الضفة الغربية، فيما استمرت حالة سوريا مع احتلال هضبة الجولان. وخارج دول الطوق لا تخلو الأدبيات السياسية من حديث عن شن إسرائيل هجمات عسكرية ضدها، مثلما حدث للمفاعل النووي العراقي 1981 ولمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس 1985، وحروب أخرى خفية، اقتصادية وبيولوجية وثقافية، ضد العالم العربي كله، بما فيه الدول التي تربطها بإسرائيل علاقات جيدة.
وحين يلوح بعض المعارضين العرب مثلا، بأن إسرائيل دولة ديمقراطية لليهود، وأنها ورغم كل القيود التي تفرض هناك حتى في حالة الحرب تظل تعرف التعددية وتداول السلطة واستقلالية القضاء وهو أحد سر قوتها، يرد العسكريون العرب على ذلك دومًا بأن الجنرالات في إسرائيل يصلون إلى سدة الحكم، والجيش هو جوهر ومركز المجتمع والسياسة. وهذه حقيقة لا مراء فيها، كما أن عنصرية إسرائيل ضد الفلسطينيين لا جدال فيها، لكن من يحكم في إسرائيل من الجنرالات يخضع للنظام السياسي القائم، ولا يُخضع هذا النظام لمشيئة شخص أو جهة، وتظل الحالة التي تطرحها طريقة بنيامين نتنياهو، الذي يتصرف كحاكم مستبد، استثنائية إلى الآن.
في الحقيقة ليس العسكريون العرب فقط هم من يتذرعون بإسرائيل لإرجاء الديمقراطية، فالنموذج الإسرائيلي، الذي هو عبارة عن "دولة دينية" يبدو مغريًا للجماعات السياسية الإٍسلامية، التي تراقب عن كثب كيف ينطلق المشروع الإٍسرائيلي من وعد ديني، وكيف يستشهد المسؤولون في إسرائيل، بمن فيهم العلمانيون، بالتوراة والتلمود في خطابهم السياسي، لتبرر هذه الجماعات تمسكها بأيديولوجيتها التي تربط الدين بالسلطة السياسية، وتسعى إلى تديين الصراع مع إسرائيل.
وجاءت الحرب على قطاع غزة لتصب في اتجاه عرقلة الديمقراطية عربيًا بسبب إسرائيل، لكن من زاوية أخرى غير مباشرة. إذ رأت الأنظمة العربية كيف تتصرف نظم الحكم الغربية مثل الديكتاتوريات العتيقة حين يكون الاحتجاج موجها ضد مصالح النخبة المهيمنة على المال والقرار السياسي، فتضيق ذرعًا بحرية التعبير، وتتخذ إجراءات رادعة ضد المخالفين، وتحاصر المتظاهرين وتشوههم، وتراقب النشطاء وتتبعهم وتقبض عليهم، وتنتهك الخصوصيات وتجرحها عميقًا، وتلجأ إلى خطاب ديني، مثلما رأينا في حالة أمريكا، لدعم إسرائيل مثلما تفعل أنظمة الحكم الدينية البحتة.
لكن على الوجه الآخر فإن حرب غزة، في إظهارها الهوة الكبرى بين السلطات السياسية والشعوب بالبلدان العربية في مقاربة القضية الفلسطينية عاطفيًا وذهنيًا، تفتح بابًا آخر للوعي بخطورة ترك القرار العربي في يد أفراد أو مؤسسات أو نخب لا تعمل بالضرورة لصالح الشعوب، إنما يتماهى بعضها مع عكس ذلك، بما فيه التساوق مع المشروع الإسرائيلي في المنطقة.
لكن تظل رغبة الشعوب هذه، في حاجة إلى من يُذكّر بها، ويعمل لها بمرور الوقت، وإلا ستفقد قوة دفعها تدريجيًا، لاسيما إن أُصيب كثيرون بإحباط حيال التغيير، ورأوا أن قضايا مثل التحرر والديمقراطية لم يحن وقتها بعد، وهنا يعاد طرح إسرائيل كعامل مستمر لتعويق الديمقراطية في الدول العربية.
ليس معنى هذا أن الحرب الدائرة حاليًا ستحدث تغيرًا مفاجئًا في المسار الديمقراطي العربي، ولو حتى في المدى القريب، خاصة أن المقترحات المطروحة لحل القضية الفلسطينية أو تأجيلها أو حتى تصفيتها، يحتاج إلى قوة باطشة في كل بلد عربي على حدة لتمرير هذا بين الشعوب، سواء بالتلاعب أو القمع والقهر. لكن هذا الحدث في تعميقه للوعي والألم في آن، لن يمر دون تأثير في العالم العربي، على غرار ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، حيث كانت مساندة الديمقراطيين للعدوان الإٍسرائيلي على قطاع غزة جزءًا من عقابهم في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، فسقطت مرشحتهم كاميلا هاريس سقوطًا مروعًا، ليس لموقف الأمريكيين من أصل عربي وإسلامي من الحزب الديمقراطي فقط، لكن أيضًا لأن بعض الأمريكيين من أصول أخرى، فزعوا من الجور على الحرية الذي ووجه به المحتجون على "الإبادة الجماعية"، بمن فيهم آلاف من اليهود أنفسهم.
• روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي ـ مصر