مع تراجع معدلات الخصوبة بشكل حاد في جميع أنحاء العالم، تتجه جميع الدول ذات الاقتصادات المتقدمة تقريبًا نحو تراجع سكاني قبل نهاية هذا القرن، في حين أن العديد من الدول النامية ومنها دول مثل العراق ومصر واليمن وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، من المتوقع أن تشهد العكس تمامًا، طفرة ديموغرافية قد تعيد رسم توازن القوى العالمي. إن تداعيات أمر كهذا ستكون أشبه بزلزال: فبدون نمو سكاني متجدد، ستتوقف عجلة التوسع الاقتصادي في الدول التي تعاني من الشيخوخة، وستبدأ أسس بنيتها الاجتماعية والاقتصادية في التصدع. فما هو الدور الذي ستلعبه هذه الدول الصناعية في عالم الغد؟ وهل ستتمكن الاقتصادات الناشئة، المدفوعة بقوتها السكانية الشابة، من وراثة الهيمنة العالمية وإرسال القوى العظمى الحالية إلى أرشيف التاريخ؟
اليوم، يعيش ثلثا سكان العالم في دول انخفضت فيها معدلات الخصوبة إلى أقل من معدل الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل أسرة. وتشير توقعات الأمم المتحدة إلى أنه بحلول عام 2100، ستتراجع أعداد السكان في بعض أكبر اقتصادات العالم بنسبة تتراوح بين 20 إلى 50 في المائة. لن يعيد هذا التحول الهائل تشكيل المجتمعات فحسب، بل سيغير أيضًا الهياكل الاقتصادية بشكل لا رجعة فيها.
تشهد البنية العمرية للعديد من المجتمعات تحولًا جذريًا، من التوزيع الهرمي التقليدي، الذي تمثل قاعدته أعداد كبيرة من الشباب العاملين الذين يدعمون نسبة أقل من كبار السن هم رأس الهرم، إلى هياكل أشبه بالمسلّات، حيث يزداد عدد كبار السن بينما يتقلص عدد السكان في سن العمل. ففي الاقتصادات المتقدمة والصين، على سبيل المثال، ستنخفض نسبة الأفراد في سن العمل من 67 بالمائة في الوقت الراهن إلى 59 بالمائة فقط بحلول عام 2050. وبينما تظل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء استثناءً مع استمرار نمو السكان الشباب، ستواجه المناطق الأخرى نفس التحديات خلال جيل أو جيلين.
سكان الشرق الأوسط في 2100
يقدم الشرق الأوسط حالة فريدة ضمن التحول الديموغرافي العالمي. فمن المتوقع أن تشهد بعض دوله مثل تركيا وإيران، انخفاضًا في عدد السكان بحلول عام 2100، حيث ستتراجع تركيا من 85 مليونًا إلى 83 مليونًا، وإيران من 89 مليونًا إلى 80 مليونًا، لكن دولا أخرى في المنطقة سوف تشهد نموا سكانيا هائلا. العراق في مقدمة هذه الفئة الأخيرة حيث من المتوقع أن يرتفع عدد سكانه من 44 مليونًا إلى 112 مليونًا، ليصبح سكانه أكبر بنسبة 40٪ من تركيا أو إيران.
هذا التحول قد يعيد تشكيل ميزان القوى في المنطقة، حيث سيصبح العراق وهو أكبر دولة عربية ذات غالبية شيعية، قوة ديموغرافية وجيوسياسية بارزة. وبالمثل، من المتوقع أن يرتفع عدد سكان اليمن من 34 مليونًا إلى 74 مليونًا، متجاوزًا عدد سكان السعودية، مما سيضعه في موقع استراتيجي مؤثر في المنطقة.
أما مصر، التي تُعد بالفعل الدولة الأكثر سكانًا في العالم العربي، فستشهد تضاعف عدد سكانها تقريبًا من 111 مليونًا إلى 205 ملايين، متجاوزة مجموع سكان إيران وتركيا، وقريبة من عدد سكان روسيا. وفي الوقت نفسه، ستشهد دول مجلس التعاون الخليج نموًا أبطأ ولكن مستقرًا، حيث سيرتفع عدد سكانها من 59 مليونًا إلى 84 مليونًا بحلول عام 2100.
كما ستشهد إسرائيل، فلسطين، سوريا، والأردن زيادات سكانية كبيرة. من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان إسرائيل إلى 18.4 مليون نسمة، بينما سيرتفع عدد سكان فلسطين (غزة والضفة الغربية) من 5.2 مليون إلى 12.8 مليون وفقًا لتوقعات الأمم المتحدة. أما سوريا فستشهد تضاعف عدد سكانها تقريبًا من 22 مليونًا إلى 43 مليونًا، بينما سيرتفع عدد سكان الأردن من 11 مليونًا إلى 18 مليونًا. وعلى العكس من ذلك، من المتوقع أن ينخفض عدد سكان لبنان قليلًا، من 5.5 مليون إلى 4.7 مليون. وبشكل عام، ستصل هذه الدول الخمس إلى عدد سكان إجمالي يبلغ 95 مليونًا، مما يجعلها مجتمعة أكبر من تركيا أو إيران.
التأثير الاقتصادي: الاستهلاك، العمل، والنمو
مع تقدم المجتمعات في العمر، سيصبح المستهلكون والعمال أكبر سنًا وأكثر تمركزًا في الدول النامية. وبحلول عام 2050، سيكون نصيب كبار السن من الاستهلاك العالمي بنسبة الربع ، أي ضعف حصتهم في عام 1997. في الوقت نفسه، ستوفر الدول النامية نسبة متزايدة من القوى العاملة العالمية، مما يجعل استقرارها الاقتصادي وإنتاجيتها أمرًا ضروريًا للحفاظ على النمو العالمي.
لكن الهياكل الاقتصادية الحالية في الدول التي تعاني من الشيخوخة ليست مصممة لدعم التوقعات المستقبلية للدخل والتقاعد. وستكون العواقب واضحة: ففي الاقتصادات المتقدمة والصين، قد يتباطأ نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 0.4 بالمائة سنويًا في المتوسط بين عامي 2023 و2050، وقد يصل التباطؤ إلى 0.8 بالمائة في بعض الدول. ولمواجهة هذا التراجع، سيتعين على هذه الدول زيادة إنتاجيتها الراهنة بمعدل الضعف أو زيادة عدد ساعات العمل إلى مستويات غير مسبوقة.
كما ستتعرض أنظمة التقاعد لضغوط هائلة. فلتأمين احتياجات كبار السن، قد يتعين تحويل ما يصل إلى 50 بالمائة من دخل العمل لدعم المتقاعدين. ومن المتوقع أن يزيد الفارق بين الاستهلاك الكلي ودخل كبار السن بمقدار مرة ونصف، مما سيزيد من الضغط على أنظمة الضمان الاجتماعي والاستقرار الاقتصادي. على الدول التي تواجه الموجة الأولى من التراجع الديموغرافي أن تتحرك بسرعة، بينما يجب على الدول التي ستواجه هذا التحدي لاحقًا أن تستعد لتجنب المصير نفسه.
توقعات القوى العظمى والتداعيات العالمية
يجب النظر إلى التحولات الديموغرافية في الشرق الأوسط ضمن السياق الأوسع لتفاعلات القوة العالمية. ففي حين ستشهد الولايات المتحدة نموًا سكانيًا متواضعًا من 338 مليونًا إلى 394 مليونًا بحلول عام 2100، من المتوقع أن يتراجع عدد سكان الصين بشكل حاد من 1.425 مليار إلى 767 مليون نسمة. كما ستنخفض نسبة سكان روسيا مقارنة بسكان الولايات المتحدة من 43٪ في الوقت الراهن إلى 28٪، مما سيضعف الموقع العالمي لروسيا بشكل أكبر. في المقابل، ستنمو الهند من 1.417 مليار نسمة إلى 1.530 مليار نسمة، مما سيعزز مكانتها كقوة عالمية مهيمنة.
وربما يتمثل التغير الديموغرافي الأكثر إثارة في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء. فمن المتوقع أن يرتفع عدد سكانها من 1.166 مليار إلى 3.442 مليار بحلول عام 2100، مما يجعلها المحرك الرئيسي لنمو السكان العالمي. سيساوي عدد سكان أفريقيا حسب توقعات نهاية القرن الراهن 450٪ من عدد سكان الصين وأكثر من ثمانية أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة، مما يجعل تنميتها الاقتصادية أمرًا حاسمًا لاستقرار العالم.
وإذا لم تُتخذ إجراءات حاسمة، فإن الأجيال الشابة في الدول التي تعاني من الشيخوخة ستواجه اقتصادات ذات إمكانات نمو منخفضة وأعباء مالية هائلة لدعم المتقاعدين. إن نظام توارث الثروة بين الأجيال، حيث يدعم الشباب تقاعد المسنين ونظام الرعاية الصحية، يتفكك بسرعة. وإذا تُركت هذه المشكلة دون معالجة، فقد يكون المصير الحتمي هو الانهيار البطيء والمؤلم للدول المتقدمة من داخلها.
المجهول في التغيرات الديموغرافية
تفرض هذه التحولات الديموغرافية تغييرات اجتماعية عميقة. إذ يجب إعادة تعريف أنماط العمل التقليدية، وإعادة النظر في سن التقاعد، وإعادة صياغة العقود الاجتماعية. والأهم من ذلك، يجب عكس اتجاه انخفاض معدلات الخصوبة لمنع تراجع السكان، وهو تحدٍّ غير مسبوق في التاريخ الحديث.
ورغم أن سياسات الهجرة قد توفر حلاً مؤقتًا لنقص العمالة، إلا أنها ليست حلاً مستدامًا على المدى الطويل. ولكن ماذا عن الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا؟ هل يمكن أن تجعل أنظمة الذكاء الاصطناعي العامة (AGI) معادلة السكان غير مهمة؟ إذا تولت الآلات إنتاج الثروة بالكامل، مما يفصل بين العمل البشري والإنتاجية الاقتصادية، فقد نجد أنفسنا في عالم تنهار فيه العقود الاجتماعية القائمة تمامًا.
في هذا السيناريو، لن تكون التركيبة السكانية هي العامل المحدد للإنتاجية الاقتصادية، بل ستتخذ التحديات المجتمعية شكلًا مختلفًا تمامًا. لن يكون السؤال هو كيف يمكن للسكان العاملين دعم المتقاعدين، بل كيف سيتم توزيع الثروة عندما لا يكون للعمل البشري دور في الاقتصاد. قد تصبح الحلول مثل الدخل الأساسي الشامل ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية. ومع ذلك، تبقى هذه الأفكار مجرد تكهنات. فالذكاء الاصطناعي العام لم يوجد بعد، وتأثيره على المجتمعات والنظام العالمي غير معروف. ولهذا السبب يُطلق عليه "التفرّد" فما بعد هذه العتبة، تصبح جميع التنبؤات بلا جدوى.