كانت مرشحة الحزب الديمقراطي ونائبة الرئيس كامالا هاريس في فعالية ضمن حملتها الانتخابية في ميشيغان، يوم 19 أكتوبر، عندما سألها أحد الصحفيين ما إذا كانت تخاطر بخسارة الانتخابات "بسبب غزة". (لنكن أكثر صراحة: لأن إدارة بايدن-هاريس تتقاسم المسؤولية عن إبادة جماعية محتملة تقوم بها إسرائيل في غزة).
قالت هاريس: "هناك الكثير من القصص المأساوية القادمة من غزة"، وأضافت: "وطبعاً، إن القصة الأولى والأكثر مأساوية في هذه المرحلة، هي هجمات 7 أكتوبر."
وأنا أشاهدها تتملص من السؤال، متحولة إلى منظور مؤيد للإبادة الجماعية يركز على إسرائيل، تملكني إحساس قوي بأنه لن يجد كثيرون في صفوف اليسار المعارض للإبادة مبررا للتصويت لهذه المرشحة.
فبدلا من أن تقوم بمحاولة جادة للتواصل مع الناخبين العرب في معقلهم بأمريكا، والنأي بنفسها عن موقف الرئيس بايدن من إسرائيل، مضت هاريس في إلقاء عبارات مكرورة : عن "الاعتراف بالمأساة"، و"عدم الاستسلام أبداً"، ثم عادت لتؤكد على "ذبح 1,200 إسرائيلي بريء، واغتصاب النساء بفظاعة". لم تتحدث عن أي خطة لوقف الحرب، ولم تظهر أي تعاطف مماثل مع الأبرياء من الجانب الفلسطيني، بمن فيهم النساء والأطفال الذين قتلوا.
لا بد من التأكيد هنا أنه كان بوسع إدارة بايدن-هاريس وقف المجزرة فوراً لو أرادت، بقطع الإمدادات العسكرية عن القوات الإسرائيلية. لكن نتيجة عدم قيامها بذلك تمثلت في مقتل ما لا يقل عن 40,000 فلسطيني على يد إسرائيل، والعدد الفعلي ربما يصل إلى مئات الآلاف. وحتى لو كانت هاريس عاجزة عن التصرف تحت مظلة الإدارة الراهنة ،فإنه كان بوسع نائبة الرئيس أن تشير إلى أنها ستتخذ إجراءات بعد انتخابها، لكنها لم تفعل.
ازددت يقيناً بأنها خسرت اليسار عندما أثير الموضوع مرة أخرى أثناء ظهورها في برنامج "تاون هول" على قناة CNN في 23 أكتوبر، وهي ترد على سؤال عن كيفية "ضمان ألا يموت فلسطيني آخر بسبب القنابل الممولة من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين". هذه المرة كررت كليشيهات الديمقراطيين بأن "الكثير جداً من الأبرياء الفلسطينيين قد قتلوا"، قبل أن تتحول إلى موضوع آخر بنفس الدرجة من التهرب: "بالنسبة للعديد من الأشخاص الذين يهتمون بهذه القضية، فإنهم يهتمون أيضاً بخفض أسعار المواد الغذائية. إنهم يهتمون أيضاً بديمقراطيتنا، وعدم وجود رئيس للولايات المتحدة يثير إعجاب لطغاة ويمثل الفاشية."
لا يمكن للمرء الجزم بأن كارثة هاريس الانتخابية كانت بسبب دعمها لإسرائيل، متجاهلا بعض الزخارف البلاغية أو الرمزية. ففوز ترامب لم يكن بالفارق البسيط الذي توقعه الجميع، والناخبون يحركهم مزيج مختلف من العوامل، لكن في المقام الأول: "إنه الاقتصاد، يا غبي!" كما قال جيمس كارفيل منسق حملة بيل كلينتون في عام 1992. لكن قرار الدفاع عن إبادة جماعية، وعدم فعل أي شيء فعّال لوقفها، بل والمشاركة في ذلك من خلف الكواليس، لا بد أنه أضعف الزخم الذي احتاجه الديمقراطيون لمواجهة التحدي الذي مثلته عودة دونالد ترامب بهذه القوة. وليس هذا فقط، بل أن هناك جمهورا كبيرا منسيا، أمضى العام الماضي يشاهد الإبادة الجماعية المدعومة من الولايات المتحدة عبر هواتفهم. إذا كانوا مثلي، فإن الناخبين بينهم شعروا بكل ضربة مرعبة على غزة، ثم على لبنان، وكأن أقاربهم هم من كانوا في مرمى النيران، ومنازلهم ومستشفياتهم وأطفالهم كذلك.
وتشير التقارير إلى أن عددا غير قليل من أمثال هؤلاء الناس يعيشون في الولايات التي كانت تمثل معركة حاسمة كان يتعين على هاريس الفوز بها، لكنها بدلا من ذلك صوتت لصالح ترامب في الخامس من نوفمبر. يمكنك أن ترى ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي – عدد لا يحصى من الناخبين الأمريكيين الذين يتشتت انتباههم يوميًا بسبب المشاهد المروعة من غزة ولبنان التي يتم بثها على أجهزتهم. نرى بعضهم في المسيرات، أو يخيمون في الجامعات، أو يقاطعون الخطابات السياسية. لا شك أن بعض الناخبين المناهضين للإبادة صوتوا للديمقراطيين على أمل عبثي لمنع "الشر الأكبر" من الوصول إلى السلطة. عودة ترامب ستكون بالتأكيد أخباراً أسوأ للفلسطينيين. وربما يكون البعض قد صوت لترامب بسذاجة (في رأيي) مصدقين ادعاء الجمهوريين بأنه مرشح مناهض للحرب. لكن من المؤكد أن الغالبية حجبوا دعمهم عن أي مرشح لم يتخذ موقفاً صارماً ضد الإبادة. أنا متأكد من أنني كنت سأفعل الشيء نفسه، لو كنت ناخباً أمريكياً.
في الأشهر المقبلة، ستسمح بيانات الانتخابات الأكثر تفصيلاً للمحللين، وفي النهاية للمؤرخين في المستقبل، بفهم أكاديمي دقيق لمقدار تأثير غزة على هزيمة هاريس. ولكن لنواجه الحقيقة: فالتعليقات في وسائل الإعلام الرئيسية، بدون استثناء، ستتجنب هذا السؤال المحرج، تماماً كما تجنبت مناقشة العديد من القضايا القادمة من فلسطين ولبنان، وعلى رأسها الإبادة الجماعية ذاتها، وكذلك رعاية واشنطن لها. (التعليق الذي نشرته BBC New بعنوان "لماذا خسرت كامالا هاريس أمام دونالد ترامب" لم يخيب التوقعات؛ لم يذكر لا غزة بالمرة )
لنفترض أن غزة لعبت دورًا ما في هزيمة هاريس، أكثر مما يُنسب إليها الفضل؛ بالتأكيد بين أولئك الذين لديهم مشاعر شخصية قوية تجاه فلسطين، وربما كجزء من فشل الديمقراطيين الأوسع في الوصول إلى الناس من جانب بينما يحاولون - ويفشلون - في تأمين ما يكفي من الأصوات على الجانب الآخر. هل يقول ذلك شيئاً عن الشكل المستقبلي للسياسة الأمريكية، التي أظهرت دعماً ثابتاً بإجماع الحزبين الكبيرين لإسرائيل يعود على الأقل إلى الستينيات؟ للأسف، من غير المحتمل أن يؤدي ذلك إلى فترة من التفكير الذاتي أو تغيير طوعي في المسار السياسي. هذا حتى دون الأخذ في الاعتبار دور جماعات الضغط القوية المؤيدة لإسرائيل مثل AIPAC، التي تحتفل حالياً بفوز 362 مرشحاً ناجحاً من كلا الحزبين أيدتهم، وهزيمة "11 مرشحاً معادياً لإسرائيل" عارضتهم في مجلسي الكونغرس هذه المرة. .
نحن في عالم يسيطر عليه شعار AIPAC بأن "دعم إسرائيل هو سياسة جيدة وممارسات سياسية جيدة"، وهو لا يزال صحيحاً في السياق الأمريكي، رغم هزيمة هاريس التي كانت حريصة على تأييد إسرائيل، ولم تفشل أبداً في ذكر دعمها لها. لكن تأثير هذا الدعم لم يكن كافيا لهاريس بين مؤيدي إسرائيل الكثيرين، في مواجهة خصم كان أكثر دعماً لإسرائيل منها.
لقد حرص المرشح ترامب خلال حملته الانتخابية، في الحقيقة، على تصوير إسرائيل كقضية حزبية في الولايات المتحدة، وذهب إلى حد القول – في تصريح غير عادي يمكن أن يسمعه المرء فقط من عقائديين حقيقيين في محور المقاومة المعادي لإسرائيل – إن إسرائيل "لن تبقى موجودة خلال عامين" إذا فازت هاريس.
هل سيأتي مستقبل تؤدي فيه تصرفات إسرائيل المتمادية في الوحشية، التي نراها اليوم في شمال قطاع غزة وتوسيع القصف في لبنان، إلى تقويض الدعم الذي تحظى به من الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة؟ هل يمكن أن يمتد نوع الاستقطاب الذي يبدو أن ترامب سيجلبه معه إلى موقف ليشمل إسرائيل، لتصبح موضع خلاف بين اليسار واليمين، كما هو الحال في قضية شراء الأسلحة النارية مثلا ؟ بدون القوة التي تملكها AIPAC لجعل الخطاب مقبولاً لإسرائيل وداعميها في الولايات المتحدة، يمكن أن نرى الديمقراطيين يعارضون مبادرات ترامب الأكثر تطرفا ومعه ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (أو أي خليفة له في السنوات الأربع المقبلة).
ينبغي لنا أن نراقب عن كثب لنرى ما إذا كانت التجاوزات الإسرائيلية الجديدة، مثل ضم الضفة الغربية المحتلة، والتي تدعمها بلا شك إدارة ترامب الصديقة لإسرائيل، ستؤدي إلى ديناميكية حزبية جديدة في واشنطن. وقد يكون للأجيال الشابة من الناخبين الأمريكيين والناخبين المستقبليين، جيل تيك توك الذي جرى الحديث عنه كثيرا، وجهة نظر مختلفة تمامًا للصراع، الذي لم يشاهده في السنوات الماضية من خلال عدسة إسرائيل حصريًا.