عندما كان دونالد ترامب يتحدث عن الشرق الأوسط في حملته الانتخابية فإنه كان يردد عبارتين متناقضتين حسب جمهور الحاضرين: أمام العرب والمسلمين الأمريكيين الذين أراد أصواتهم في ولاية ميشيغان كان يؤكد رغبته في عودة السلام إلى الشرق الأوسط دون أن يوضح أي سلام وكيف سيحققه، فإذا انتقل إلى مكان آخر يتحول للحديث عن الدعم المطلق لحكومة نتانياهو في إسرائيل لتحقق أهدافها من النصر الكامل في الحرب بما ينفى إمكانية وقف إطلاق النار في المستقبل القريب، بل أنه وجه الكثير من الانتقادات لإدارة بايدن لأنها -حسب وصفه- وضعت قيوداً على حركة إسرائيل في غزة وأثناء هجومها الأخير على إيران، حيث دعا للسماح لحكومة نتانياهو بقصف البرنامج النووي الإيراني.
وترامب يقول عن نفسه إنه أكثر الرؤساء الأمريكيين دعما لإسرائيل في التاريخ. ورغم المبالغات الكثيرة المعروف بها، إلا أنه ربما يكون صادقاً في هذه العبارة تحديداً.
- فهو من اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها.
- وهو من اعترف بضم الجولان والسيادة الإسرائيلية عليها.
- وهو من دفع باتجاه التطبيع بين إسرائيل وجيرانها العرب دون ربط ذلك بالقضية الفلسطينية.
وأي قراءة موضوعية لسياسات ترامب القادمة تؤكد أنه سيحاول استكمال ما بدأه في فترة رئاسته الأولى.
ثمة مفهوم سائد في تاريخ السياسة الأمريكية يقول بأن الرئيس يكون أكثر حرية في فترته الثانية والأخيرة لأنه ليس مضطرا للتجاوب مع اللوبي الإسرائيلي لأسباب انتخابية. قد يبدو هذا الكلام صحيحا جزئياً فقط على أحسن الفروض. لأنه يوحي بأن كل ما يقدمه الرئيس في فترته الأولى يكون لأسباب انتخابية فقط. لكن الأهم هنا يتمثل في أن تحرر الرئيس من القيود الانتخابية لمنصبه، لا ينفي ارتباطه الحزبي وحرصه على تنفيذ أجندته السياسية والاقتصادية، وخضوعه لضغوط متشابكة من أعضاء الكونغرس وجماعات اللوبي، بل ومن والدائرة الضيقة من المحيطين به من كبار المسئولين. يُضاف إلى كل ذلك أنه لا يوجد ثمن يخشاه نتيجة الدعم المطلق لإسرائيل سواء داخليا أو حتى خارجياً. فقد كان ترامب يكرر كثيراً كيف أنه تجاهل تحذيرات الخبراء من أن نقل السفارة للقدس سيفجر الأوضاع في المنطقة لكنه فعل ولم يحدث شيء.
ترامب يعلم بالتأكيد أن أحد أسباب استمرار الحرب حتى الآن كان رغبة الإسرائيليين في مساعدته على الفوز في الانتخابات الأمريكية، وهو بالطبع يحتاج لرد الهدية بأحسن منها.
وهنا تجب الإشارة إلى أن القاعدة الجمهورية تميل ليس فقط للدعم الأمني والعسكري التقليدي لإسرائيل، بل إنها تدفع لسياسات راديكالية تتوافق مع أهداف اليمين الليكودي في إسرائيل بسياساته المتطرفة. لذلك فإن ملامح السياسة الأمريكية تجاه المنطقة في السنوات الأربع القادمة تحمل الكثير من المؤشرات التي تتطلب الانتباه لها في مقدمتها خطة لمنح الضفة الغربية كاملة لإسرائيل:
إخضاع الضفة الغربية لسيادة إسرائيل
رائد هذا المشروع هو دافيد فريدمان، سفير ترامب السابق لدى إسرائيل، ويتضمن مشروعه خطة تشمل الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية، دون منح سكانها أية حقوق سياسية، حيث يتحولون إلى "مقيمين" ليس لهم حق المواطنة. وفريدمان أيضاً دعا إلى التطهير العرقي لأهل غزة ونقلهم إلى سيناء. ولا يمكن التقليل من ذلك باعتبار أنه سفير سابق، فهو جزء من منظومة متكاملة محيطة بالرئيس المنتخب وتشكل رؤيته وسياساته دون جهد عربي للتأثير المضاد. وقد تحدث ترامب عن صغر مساحة إسرائيل وإمكانية زيادتها، ولم تكن مصادفة أن حديثه جاء في مؤتمر نظمته ميريام أدلسون التي تبرعت بمائة مليون دولار لحملته الانتخابية، وهى التي كانت دفعته مع زوجها الراحل شيلدون أديلسون لنقل السفارة إلى القدس.
إيران والبرنامج النووي
الجزء الآخر- وربما الأكثر إلحاحاً في الاستراتيجية الإسرائيلية - هو إقناع واشنطن بالمشاركة في تدمير البرنامج النووي الإيراني. فالحقيقة أن الاعتقاد بأن امتناع نتانياهو عن قصف المواقع النووية الإيرانية مؤخراً كان فقط استجابة لطلب الرئيس بايدن، هو اعتقاد خاطئ. فرئيس الوزراء الإسرائيلي يدرك حاجته للقدرات العسكرية الأمريكية في قصف العديد من المفاعلات النووية الإيرانية المحصنة تحت الأرض، حيث تملك واشنطن قذائف ثقيلة يمكنها اختراق الكثير من تلك الحصون.
ويتردد في واشنطن أن نتانياهو سعى لإقناع ترامب للقيام بهذه العملية ضد إيران واقترب من تحقيق هدفه في الفترة التي أعقبت هزيمته في الانتخابات السابقة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، قبيل مغادرته البيت الأبيض، لولا تدخل رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة في ذلك الوقت مارك ميلي الذى حذره من تفجر حرب إقليمية شاملة تتعارض مع المصالح الأمريكية.
لكن الأوضاع الإقليمية الآن ربما تجعل هذا القرار أكثر سهولة، فهناك حرب قائمة بالفعل، وتمكنت إسرائيل من تحجيم القدرات العسكرية لحزب الله وحماس بما يقلل من مخاوفها بشأن رد الفعل الإيراني الذي كان يعتمد في استراتيجيته إلى حد بعيد على التهديد بالقدرات الصاروخية لدى حزب الله تحديداً.
ولا شك أن نتانياهو سيضغط أيضاً على بايدن لاستغلال الفترة المتبقية له في البيت الأبيض لتحقيق الهدف المشترك للدولتين بالتخلص من الصداع النووي الإيراني، وهو ما يرفضه بايدن -حتى الآن- لكن كان قراره بإرسال القاذفات الاستراتيجية B-52 الى المنطقة مؤخرا، مؤشرا هاماً قد يتجاوز حدود التهديد إلى احتمال التفكير الفعلي في القيام بهذه الخطوة المؤجلة، فإذا لم يحدث ذلك تبقى عودة ترامب إلى السلطة عامل ثقة لدى الإسرائيليين بإمكانية تنفيذ هذه الخطوة أو ضمان انصياع السياسات الإيرانية بالكامل تحت التهديد بها.
وترامب بطبيعته الشخصية لا يميل إلى الحروب وكثيراً ما تفاخر بأنه لم يبدأ حرباً في فترة رئاسته الأولى وانتقد الإدارات السابقة لهذا السبب، لكن هذا وحده لا يكفى لقراءة موقفه.
فإذا عدنا مثلاً لقراره باغتيال القائد الإيراني قاسم سليمانى، فإنه تلقى تحذيراً من صديقه السيناتور ليندزى غراهام أثناء لعبهما الجولف بأن الإقدام على ذلك يمكن أن يجر واشنطن إلى حرب مع إيران، لكنه لم يتردد وتم اغتيال سليماني في يناير/كانون الثاني عام 2020، رغم تراجع إسرائيل عن المشاركة في تنفيذ العملية.
فالرجل إذن ليس لديه مانع من المخاطرة أحيانا، ولديه صور ذهنية مختلطة لمفاهيم القوة والخشونة أقرب لشخصية ممثل الكاوبوي الشهير جون وين، ومع نوعية الشخصيات المحيطة به من الصقور المؤيدين لليمين الإسرائيلي يصبح مثل هذا القرار ممكناً جدا. علينا فقط أن نتصور إدارة تشمل وزيراً للدفاع مثل السيناتور توم كوتن، أو وزير خارجية مثل السيناتور ماركو روبيو أو ريتشارد غرينيل، وهم مرشحون بالفعل لمناصب في إدارته، فكلها مؤشرات على سياسات الإدارة القادمة خاصة مع رئيس محدود الخبرة والعمق في الشؤون الخارجية. ولا أظنه سيحتاج جهداً كبيراً لإقناعه بضرب إيران أو التشدد معها، خاصة بعد الكشف عن محاولة إيرانية لاغتياله، فهو بطبيعته يخلط ميوله الشخصية بسياساته.
هذا لا يعنى أنه سينسى تماما نوازعه لتفادى الحروب، لكن كما رأينا عندما اتخذ قراراً بسحب القوات الأمريكية من سوريا فإن أجهزة الدولة استطاعت الالتفات حول قراره ولاتزال القوات الأميركية موجودة على الأراضي السورية.
كذلك فإن نتانياهو خبير في إدارة العلاقة مع واشنطن بكل أطيافها السياسية خاصة مع اليمين القريب منه أيديولوجيا، ورأينا كيف أنه استطاع مواجهة بايدن وضغوطه وماطل في وقف إطلاق النار إلى أن تمت الانتخابات، أما مع ترامب فقد حصل منه على كل ما يريد في فترته الأولى، وهو الآن متحفز ليصبح الزعيم التاريخي لإسرائيل بحصد ما تبقى.
وقد ذكرت مصادر قريبة من ترامب أنه طلب من نتانياهو إنهاء الحرب مع دخوله البيت الأبيض فى العشرين من يناير القادم، ولكن، حتى لو استجاب له رئيس الوزراء الإسرائيلي بإعلان إنهاء العمليات العسكرية الرئيسية، فإنه سيترك ثغرة يواصل من خلالها العمليات العسكرية الجزئية حسب ما تتطلبه الأوضاع ثم يستغل تلك الرخصة لمواصلة الحرب بمستوى أقل إلى أن يحقق أهدافه بمساندة ترامب.
نحن إذن أمام مرحلة ربما تكون هي الأخطر في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي الذي تم تحويله لصراع فلسطيني-إسرائيلي. ولست ممن يضعون العرب دائماً في إطار المفعول به، أو يقللون من قدرتهم على التأثير -إذا أرادوا- حتى داخل أميركا. المشكلة في اعتقادي أن كثيراً من الدول العربية ارتاحت للتحالف مع التيارات اليمينية في واشنطن من أجل مصالح مباشرة ضيقة لكنها تجد الآن نفسها أمام إعادة تشكيل المنظومة الإقليمية بالكامل دون مراعاة لمصالح شعوب المنطقة ورغباتهم.
وليس مطلوباً من الدول العربية الآن الدخول في مواجهة مع إدارة ترامب أو مع إسرائيل، فلهذا ثمن بالتأكيد لا أظن أن أياً منها مستعد لدفعه. لكن تبقى لدى تلك الدول ورقة هامة هي (التطبيع). فقد أعلنت السعودية مؤخراً أنها لن تمضي فيه قبل بدء خطوات إقامة الدولة الفلسطينية، والمهم هو إعادة التأكيد على هذا الأمر علناً وفى الاتصالات الخاصة مع الإدارة الجديدة، وهو أمر مطلوب أيضاً من بقية الدول العربية والإسلامية التي بدأت أو تفكر في الإقدام على هذه الخطوة.
وقد يتصور البعض أن الأمر يتعلق فقط بالفلسطينيين أو حقوقهم، لكنه مرتبط أيضاً بمصالح تلك الدول ودورها الإقليمي والدولي. فأي تطبيع شامل مع إسرائيل بدون تسوية عادلة للقضية الفلسطينية سيكون إعلاناً عن هيمنة اليمين الإسرائيلي المتطرف ليس فقط على إسرائيل ولكن أيضا إقليمياً بفرض شروطه وأجندته التي لا تخلو من عنصرية تجاه العرب أنفسهم، ودعونا لا ننسى أنهم يتحدثون عن فلسطينيي الداخل باعتبارهم "العرب"، فالعواصم العربية المعنية بالقرار تحتاج إلى الفلسطينيين أكثر من حاجة الفلسطينيين لها، لأنهم الحاجز الاستراتيجي والديموغرافي الذى يحجم تلك النوازع التوسعية الإسرائيلية ويضع (الفرامل) أمام تلك الهيمنة التي يعتقدون الآن أنها صارت في متناول أيديهم.
لقد علقت صحيفة نيويورك تايمز بأن ترامب حصل على أصوات كثيرة من العرب الأمريكيين وكذلك اليهود المحافظين من مؤيدي إسرائيل وقالت: أحد الطرفين سيصاب بخيبة أمل شديدة، ولا أجد صعوبة في معرفة عن أي منهما تتحدث الصحيفة!