لم يتخيل أحد تزحزح موسيقى البوب عن عرشها الذي ظل صامدًا لسنوات، مثلما لم يتصور أحد تزحزح الطرب الأصيل من قبله، لكن في الحقيقة لم يتمكن أي نوع موسيقي من النجاة من التغيير الذي ظل هو العامل الثابت دائمًا في تاريخ الأغنية المصرية التي مر عليها الكثير من الأحداث المثيرة.
بعد وفاة أم كلثوم وعبد الحليم قطبي الفن والذين سيطرا على الساحة الغنائية العربية لمدة طويلة، استمر البحث طويلًا عن أصوات تسد هذا الفراغ، ونتيجة للتأثير الهائل للمطربين طوال فتراتها الفنية، لم يجد المستمعون ما يعوضهم عن غياب النجمين، لم تكن البدائل ترتقي لنصف موهبة وتأثير الجيل السابق، فظهر مغنيين يتبعون نفس الأسلوب بدون تجديد أو إحلال.
بعد أن كان الاستماع إلى الموسيقى يقتصر فقط على المذياع أو حضور الحفلات، ظهر الكاسيت، ومع ظهوره قلب موازين التسويق والإيرادات وصناعة النجم، أصبح يمكن للجميع الاستماع لمطربيهم المفضلين في أي وقت وفي أي مكان طالما يمتلكون هذا الجهاز المدهش في وقتها، لم يكن يخلو منزل من شرائط الكاسيت، ربما نستطيع القول إن فراغ الأغاني الطربية قد سُد أخيرًا.
إذا عدنا بالزمن واسترقنا السمع إلى شوارع مصر في الخمسينيات والستينيات لتبينا صوتين أو ثلاث أصوات، لكن إذا تقدمنا قليلًا سنستمع لثورة موسيقية، أنتجت من الأصوات والألحان السريعة والوجوه الجديدة وحتى اللهجات المختلفة.
في عشر سنوات اشتدت المنافسة بين مطربين أمثال محمد فؤاد وعمرو دياب وحميد الشاعري وهشام عباس مع مواجهة شديدة من كارهي التغيير الذين يتمسكون بالعادات والخط غير المتغير لكل ما هو ثابت وصلت إلى درجة تخوين حميد الشاعري باعتباره ليس مصريًا ودخيل على الثقافة، لكن لم يتخيل هؤلاء أن يغزو الشارع المصري أغاني غير مصرية بالكامل وهي أغاني الراي التي غزت الشارع المصري مع بزوغ مغنيين أصحاب جاذبية شديدة مثل الشاب خالد والشاب حسني ورشيد طه والذي قدموا لونًا مميزًا لم يعهده المستمعون المصريين.
بحلول منتصف التسعينيات ومع ظهور القنوات الفضائية، بدأ العصر الذهبي لموسيقى البوب، حيث أصبح للموسيقى وجه، ولم يعد يقتصر الأمر فقط على من يستطيع الغناء بشكل جيد وطربي، ولكن من يستطيع اتقان فن الترفيه بكل جوانبه من غناء واستعراض وحركة وأحيانًا اغراء هناك من استطاع فهم هذه الموجة الجديدة وطور من نفسه وفهم المعطيات من حوله وهناك من رفضها والتزم بالطرق الاعتيادية والذين بطبيعة الحال انخفضت أسهمهم كثيرًا وطواها النسيان.
في منتصف عصر القنوات الفضائية بدأت المقارنات والثنائيات والمسميات والتي ربما انجذب لها الجمهور أكثر من انجذابه للموسيقى نفسها، وملك هذه المسميات بالطبع هو تامر حسني الذي أعلن عن نفسه بقوة عن طريق الدعاية وإطلاق الألقاب، ثم بدأ عصر ثنائي جديد مختلف عن ثنائية أم كلثوم وعبد الحليم.
كان المحرك الأساسي لهذه الثنائية هو الجمهور بشكل كبير، مقارنات لا تنتهي بين الجمهورين بين من هو أحق بهذا العصر، وبينما لم يلتفت لها عمرو دياب بشكل كبير، أهتم تامر حسني بصورته أمام الجمهور وظهوره في كل مناسبة واعلانه عن أحقيته بهذا اللقب، بينما يغرد محمد منير وجمهوره خارج السرب.
استمر هذا الحال بدون تغيير إلى أن حدث ما لم يتوقعه لا المطربين ولا الجمهور، قيام الثورة المصرية في الخامس والعشرين من عام ألفين وأحد عشر، طالت الثورة كل شيء في الدولة المصرية بما فيها الموسيقى، بدأت ظهور قوائم سوداء للمطربين التابعين للنظام والذي أسرع كل واحد منهم بتقديم أغنية للثورة عسى أن يجد له مكانًا في العصر الجديد، لكن ربما قد فات الأوان على ذلك، فقد ظهرت موسيقى جديدة ترفض كل ما كان قديمًا وبعيدًا عن الشارع.
ثورة فنية موسيقية ربما كانت أفضل حظًا من السينما والتي لم تقم لها قائمة إلى الآن، بزغت المئات من الفرق الموسيقية المعتمدة اعتمادًا كاملًا على الابتعاد عن كل ما كان مألوفًا في الماضي، أغنيات تتحدث عن الوطن والثورة والغربة والعديد من المواضيع التي لم يكن من المسموح التحدث عنها في الماضي.
ربما أبرز تلك الفرق كانت فرقة "كايروكي" والتي يمكن أن نقول أنها استفادت الاستفادة الأكبر من الثورة الموسيقية في مصر، كانت فرقة "كايروكي" رائدة في ما يُسمى بالفن البديل، لاقت أغانيها استحسانًا كبيرًا عند الشباب المتلهفين لسماع كل ما هو ثوري وسياسي.
ربما يمكن أن نطلق على "كايروكي" في فترة من الزمن اسم "فرقة سياسية" لكثرة أغانيها التي تتحدث عن الوضع المصري مثل "مطلوب زعيم" و"بحلم أطير" و"خليك مكانك" وهي أغاني اتسمت بالثورية الشديدة ولكنها ربما اقتصر سماعها على فئة قليلة من الجمهور، وفي نفس هذا الوقت بزغ نوع جديد من الفن "البديل" غطى فئة أكبر من الجمهور ولاقى نقضًا كبيرًا، المهرجانات.
تختلف المهرجانات عن الفن الشعبي الذي لطالما كان موجودًا في مصر متمثلًا في مطربين أمثال أحمد عدوية محمد طه وخضرة محمد خضر وجمالات شيحة ومن بعدهم طارق الشيخ وعبد الباسط حمودة، الفن الشعبي ربما لم يستطع أن يحقق ما حققته المهرجانات وهو الانتشار في طبقات أرقى وأغنى من الطبقات التي اعتادت سماع هذا اللون من الموسيقى.
انتشرت المهرجانات كالنار في الهشيم في مصر والعالم العربي، إيقاع سريع وكلمات جذابة وألحان تتردد على كل لسان، لكن بالطبع لم تسلم من ألسنة الجيل القديم من رافضي كل جديد، لم يسلم أحد من مغني المهرجانات من أول الهجوم على هذا النوع إلى حد منع المغنيين من أداء حفلات أو تسجيلهم في نقابة الموسيقيين.
مع ازدياد الهجوم على موسيقى المهرجانات وتدهور الوضع السياسي في مصر تراجعت شعبية الفن البديل والمهرجانات كثيرًا ربما لأن الوضع المعيشي والاقتصادي لم يتحمل كل هذا وشعر المستمعون أنهم في حاجة إلى بعض الهدوء.
تغير مدهش حدث في السنوات العشر الأخيرة في الساحة الفنية، ظهر نوع جديد غير مألوف يُسميه البعض "تراّب" ويسميه البعض بالراب، وهو مزيج بين أغاني المهرجانات التي تعتمد على الـ"أوتو تون" والموسيقى الغربية، لكن ما هو مدهش ويستحق التأمل أن صناع هذا النوع من الموسيقى ربما لم يتعدَ عمرهم أكثر من تسعة عشر عامًا.
مع التقدم التكنولوجي لم يعد الفن حكرًا على رواد صناعة الأغنية، بل تحديدًا كل من يمتلك حاسوب في منزله، وهنا برز العديد من المواهب الصغيرة التي بدأت في التخبط قليلًا في البداية مع عدم وجود هوية حقيقة لهذا اللون إلى أن أصبح الآن رواد هذا النوع هم الأشهر في العالم العربي.
"لغة الشارع"، يعتبر الكثير من المستمعين للـ"تراب" أن هذا هو الوصف الدقيق لهذا النوع من الموسيقى، ولكن برغم أنه يعبر عن شريحة كبيرة من الجيل الجديد لمتذوقي الموسيقى لكنه استطاع في وقت قصير أن يسيطر على الوضع الموسيقي في مصر، فحقق أعلى استماعات على كل الوسائط وأصبح صانعيه هم رواد الفن الجديدون.
ربما سنجد في الأيام القادمة لونًا جديدًا يستطيع السيطرة على الوضع الموسيقي في مصر لكن هناك قاعدة ثابتة وحيدة وهي أنه وبرغم تعاقب الأجيال والفنانون والآلات والجمهور يبقى التغيير عاملًا ثابتًا لا يتزحزح ويلفظ كل من يتمسك بأدواته القديمة رافضًا للتطور.