يذكرنا مصير فيلمين وثائقيين عن المعاناة الفلسطينية، أحدهما عن الضفة الغربية والآخر عن غزة، بالمعركة المتغيرة للهيمنة على سردية التاريخ، وهي المعركة التي طالما لازمت الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ففي الثالث من شهر مارس في لوس أنجلوس، فاز الفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى"، وهو إنتاج إسرائيلي- فلسطيني مشترك، بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، لتصويره الحي لما ترتكبه إسرائيل من معاملة قاسية وتطهير عرقي لأكثر من 1,000 من سكان "مسافر يطا" على الحافة الجنوبية للضفة الغربية المحتلة.
ويعد هذا أول فوز مشترك لفلسطين في الأوسكار، وربما يغري البعض باعتباره علامة فارقة جديدة في وصول السردية الفلسطينية إلى الثقافة الغربية السائدة. على الجانب الآخر، وبعد ست وثلاثين ساعة في لندن، كان كبار مسؤولي هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) يشرحون لنواب البرلمان البريطاني، سبب سحب ووقف عرض فيلم وثائقي آخر عن معاناة الأطفال الفلسطينيين بعد شكاوى من مسؤولين إسرائيليين وحلفائهم الأقوياء. لم يكن السبب أي انحياز مؤيد للفلسطينيين في الفيلم المستقل "غزة: كيف تنجو من منطقة حرب"، بل هو عدم الإعلان عن هوية أحد الشخصيات في الفيلم - وهو صبي يبلغ من العمر 13 عامًا كان والده يعمل في حكومة غزة التي تقودها حماس- رغم أن ذلك لم يكن له أي تأثير واضح على محتوى الفيلم.
يروي الفيلم الفائز بالأوسكار كيف أن الاحتلال الإسرائيلي، وعلى مدار أربع سنوات، يثقل كاهل مجتمع فلسطيني ريفي يعيش في منطقة زراعية لكنها استراتيجية، ليتم في النهاية طرد السكان من منازلهم ومصادر رزقهم التي ضمنت بقاءهم أحياء على مدى أجيال. ادّعى الجيش الإسرائيلي أنه يريد إخلاء المنطقة لاستخدامها كمنطقة تدريب عسكري، لكن الحقيقة التي يكشفها الفيلم في نهايته- وكما هو متوقع- هي أن الخطة هدفت منذ البداية لحرمان الفلسطينيين من أرضهم.
لقد وثّقت العديد من الأفلام الوثائقية قمع إسرائيل للفلسطينيين من قبل، لكن فيلم" لا أرض أخرى" أضاف عنصراً يراه الكثيرون السبب وراء فوزه بجائزة الأوسكار وعدد من الجوائز الأخرى خلال العام الماضي. أحد أبطال الفيلم، باسل عدرا، هو فلسطيني وناشط مؤثر من "مسافر يطا"، بينما الآخر، يوفال أبراهام، هو صحفي إسرائيلي وناشط في حركة التضامن مع الفلسطينيين، يساعد في توثيق هدم المنازل، وعنف المستوطنين اليهود، وممارسات الفصل العنصري، وهو يناضل إلى جانب باسل.
في الفيلم، تبدو صداقة باسل ويوفال مليئة بالتحديات القدرية، وإن كانت تنطوي على بعض اللحظات المحرجة، حيث تتطور منذ لقائهما الأول لتوثيق هدم منزل فلسطيني في عام 2019. (لكن بالصدفة ومن أجل غرض الفيلم الوثائقي، تم تصوير تلك اللحظة بواسطة المخرجة الإسرائيلية المشاركة في الفيلم راحيل تسور). ينتهي الفيلم عندما تتصاعد مذابح المستوطنين المسلحين في أعقاب 7 أكتوبر، مما يجعل النشاط السلمي مستحيلاً. في المشاهد الأخيرة المفجعة، يحزم مئات من سكان مسافر يطا أمتعتهم ويرحلون. خطة باسل لمقاومة عمليات الطرد عبر حشد الدعم الدولي واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي أثبتت عدم جدواها أمام عدو بهذه القوة والوحشية. الآن، مع فوزه بالأوسكار، وصل صوته إلى جمهور واسع بشكل غير مسبوق، لكن ما الفائدة التي تعود على السكان المهجرين؟
في مواجهة هذا الفشل، يثار التساؤل حول جدوى وجود شخصية "الإسرائيلي الجيد" في الفيلم، خاصة وأن يوفال لم يكن له أي تأثير عملي على النتيجة. هل كان وجوده ضرورياً ليمنح باسل نوعاً من القبول أمام جمهور عالمي، يخفف من كونه "الآخر الفلسطيني"؟ هل كان للفيلم أن يفوز بجوائز دولية من دون يوفال؟ باستثناء الإشارة إلى دراسته للغة العربية، لا يتناول الفيلم دوافع وجوده-إنه هناك لمجرد أنه هناك- ومع ذلك، فإنه يساعد في تجسيد الامتياز الذي يتمتع به اليهود الإسرائيليون مقارنة بالفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. قد يجادل بعض النقاد بأن مشاركته تعزز الرؤية الصهيونية الليبرالية، التي تروج لفكرة أن "ليس كل الإسرائيليين سيئين"، وأن على الفلسطينيين التخلي عن نضالهم والتكيف مع أحفاد من سرقوا وطنهم وطردوهم من أراضيهم عام 1948.
بعد حفل الأوسكار، تداولت عدة حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي هذا المقطع من كتاب "ضحايا مثاليون" للكاتب الفلسطيني محمد الكُرد:
"خذوا على سبيل المثال نوعية الأفلام التي يصنعها الإسرائيليون والفلسطينيون معًا. يُرافق الإسرائيلي صانع الأفلام الفلسطيني كزميله الموثوق إلى المهرجان، ويُسمح له بالصعود إلى المسرح كظل كاريزمي... [نحن] نتنصت على محادثة محرمة، مصالحة مثيرة بين القاتل والمقتول. تصبح المناقشات حول الفيلم، والمراجعات، وطريقة الترويج له، وحتى حماسنا عند الحديث عنه فيما بيننا، كاستمناء لفظي، تختزل الفيلم إلى كونه مجرد تعاون بين إسرائيلي وفلسطيني، مما يحقق للمشاهد خياله عن نهاية سعيدة لقصة بائسة. نحن نحوله إلى شيء يُشبه الفِتش."
-
السردية الفلسطينية تكسب أرضا جديدا رغم "انتقادات" الحضور الإسرائيلي
لم يكن الكُرد يكتب عن "لا أرض أخرى" تحديدًا، لكن المقطع أثار جدلًا حادًا بين الحسابات المؤيدة لفلسطين على الإنترنت. بعضهم أشاد بخطاب قبول أبراهام للجائزة أمام الملايين حول العالم، حيث أدان "تفوق العرقية الإسرائيلية" وعدم المساواة في "نظام حيث أنا حر بموجب القانون المدني، بينما باسل خاضع للقانون العسكري الذي دمر حياته." في المقابل، أشار آخرون إلى أن أبراهام ضمّن خطابه دعوة ضمنية لحماس للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين الذين "تم اختطافهم بوحشية في جريمة 7 أكتوبر". وتساءلوا: لماذا يجب أن يُشوّه الخطاب الفلسطيني النقي لفيلم "لا أرض أخرى" بحديث يركز على نقطة إسرائيلية لا علاقة لها بالفيلم؟ وإذا كان من المهم ذكر الإسرائيليين المحتجزين في غزة، فلماذا لا يُشار إلى الآلاف من الفلسطينيين المعتقلين (بشكل غير قانوني وفق قوانين الحرب والاحتلال) في ظروف مروعة داخل السجون الإسرائيلية؟
لقد شهدت الأشهر الثمانية عشر الماضية خطابا إسرائيليا متزايدا عن تنفيذ "نكبة ثانية" ضد الفلسطينيين. وقد دفع سلوك إسرائيل وخطابها العديد من الغربيين إلى إعادة النظر في مواقفهم الإيجابية السابقة تجاه فكرة الدولة اليهودية، خاصة مع تزايد الوعي حول حقيقة تأسيس إسرائيل عام 1948. كذلك، تشدد الرأي العام العربي ضد إسرائيل، حيث يتناقص عدد من يعتقدون أن حل الدولتين ممكن أو مرغوب فيه. من هذا المنطلق، أثار مشهد الصهيوني الليبرالي يوفال أبراهام على المسرح إلى جانب باسل عدرا جدلًا في المعسكر المؤيد لفلسطين، تمامًا كما أثار منح الفيلم جائزة الأوسكار غضب المعسكر المؤيد لإسرائيل.
وهكذا نصل إلى القصة المؤسفة الخاصة بـ بي بي سي، التي عرضت ثم حذفت من على منصتها فيلم "غزة: كيف تنجو من منطقة حرب". عندما تم عرض الفيلم الذي أخرجه جيمي روبرتس ويوسف حماش في 17 فبراير الماضي، كانت مفاجأة لكثيرين من منتقدي تغطية بي بي سي ، إذ بدا أخيرًا أن المؤسسة قدّمت عملًا يسلط الضوء على الجانب الإنساني للضحايا الرئيسيين في غزة المدمرة: الأطفال الفلسطينيون. الفيلم يوثق حياة أبطاله الصغار، آمالهم ومخاوفهم، لتشعر بمحبتهم وكأنهم أطفالك. شخصيتي المفضلة هو زكريا، متطوع في استقبال سيارات الإسعاف بوحدة الطوارئ في أحد المستشفيات، يشهد زكريا بعينيه أهوالًا تفوق الوصف، ومع ذلك، يحتفظ بروح المرح الشقية التي تميز طفلًا في الحادية عشرة من عمره، رغم الغبار والدماء التي تغطيه. لن يمكنك إلا تمني سلامتهم جميعًا والصلاة من أجل نجاتهم. وعلى عكس الفيلم الفائز بالأوسكار، لا يوجد أي تمثيل بشري لإسرائيل في الفيلم، بل فقط الصوت والصورة العنيفة التي تملأ المشاهد: القنابل، المقاتلات الحربية، الجروح، إطلاق النار، الطائرات المُسيّرة، المروحيات، ورسائل صوتية تأمر المدنيين بالفرار.
-
حفل الأوسكار وتكريم صناع فيلم "لا أرض أخرى"
بمجرد عرض الفيلم، شرعت آلة الضغط الإسرائيلية في حالة استنفار فوري لتقويض مصداقيته. وُجهت اتهامات له بعدم التوازن لأنه ركّز فقط على الفلسطينيين، فيما اشتكى آخرون من الترجمة، حيث لم يُترجم المصطلح الفلسطيني المعتاد للإسرائيليين، اليهود، بنفس الكلمة "اليهود"، بزعم أن ذلك كان محاولة لإخفاء مدى "معاداة السامية" لدى سكان غزة. لكن الضربة القاضية جاءت مع اكتشاف أن والد الراوي الصغير للفيلم، عبد الله اليازوري، يعمل نائبًا لوزير الزراعة في حكومة حماس. وصف المشتكون الدكتور أيمن اليازوري بأنه "قيادي إرهابي"، رغم أن سيرته الذاتية لا تشير إلا إلى خبرة تكنوقراطية بحتة، بما في ذلك حصوله على الدكتوراه من بريطانيا وعمله سابقا في حكومة الإمارات. ومع ذلك، فإن عدم كشف صانعي الفيلم عن هذه المعلومة قبل البث، قدم الذريعة اللازمة لسحب الفيلم. احتفل منتقدو الفيلم بذلك، لكن رسالة موقعة من أكثر من 800 فنان وشخصية إعلامية أُرسلت إلى رؤساء " بي بي سي"، طالبت بإعادة بث الفيلم الوثائقي.
لطالما ساهمت صحافة بي بي سي، وبكثير من الأمثلة، في الخطاب الإعلامي الذي يعمل على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم في مقابل إضفائها الطابع الإنساني على نظرائهم الإسرائيليين. المثال التقليدي على ذلك هو ميل بي بي سي إلى استخدام مصطلح "يموت" عند الحديث عن الفلسطينيين في "اشتباكات"، بينما تصف نفس الحادث عندما يتعلق بالإسرائيليين بأنهم "يُقتلون" )أو أحيانًا "يُذبحون بوحشية"(. في وقت مبكر من الحرب، قدمتُ شكوى ناجحة ضد عنوان خبر نشرته بي بي سي حول مجزرة ارتكبتها إسرائيل بحق عائلة فلسطينية، حيث كان العنوان: "في مخيم لاجئين بغزة، أب ينجو بعد زوجته وأطفاله الأربعة". "ينجو"! . ما كان أشد إزعاجًا هو الجهد المتعمد الذي بذلته بي بي سي لرواية قصص الضحايا الإسرائيليين، بينما غالبًا ما تعامل الضحايا الفلسطينيين (واللبنانيين) الأكثر عددًا مجرد أرقام بلا أسماء. لذلك، كان من المريح أن نشهد إنتاجًا مدته 59 دقيقة يعكس هذا الاتجاه بطريقة مؤثرة ومُقنعة، ولو لمدة يومين فقط قبل أن تحذفه بي بي سي!
بطبيعة الحال، ولأننا في عام 2025، فإن قيام بي بي سي بحذف الفيلم من تطبيقها Iplayer ساهم في الترويج له بدلاً من منع الجمهور من مشاهدته. فقد تم تحميل الوثائقي على العديد من منصات البث، وربما حصد جمهور مشاهدين أكبر من ذلك الذي كان سيشاهده على بي بي سي. ولكن من حيث المبدأ، يمكن مقارنة طريقة التعامل معه، افتراضيًا، بفيلم وثائقي يظهر فيه طفل إسرائيلي تربطه صلة عائلية غير معلنة بمسؤول إسرائيلي متورط في إبادة غزة- هل كان سيتم سحب مثل هذا الفيلم إذا اشتكى الفلسطينيون؟ هل كان الوزراء سيتدخلون كما حدث في هذه الحالة؟ على كل حال فإن، بي بي سي تسمح لمراسليها بمرافقة جيش متهم بالإبادة الجماعية، وتوفر منبرًا لمجرم الحرب بنيامين نتنياهو، المطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية منذ 21 نوفمبر 2024. أحيانًا تجعل هذه المعايير المزدوجة الوضع أشبه بالمهزلة.
الجدل حول أحدث وثائقيات بي بي سي عن غزة ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الأحداث المشابهة عبر السنين، ما يعكس الجهود المكثفة للسيطرة على السرديات المؤيدة لفلسطين باعتبارها عنصرًا أساسيًا في الصراع. في نهاية عام 2024، ضخت إسرائيل 150 مليون دولار إضافية في مشاريع هاسبارا (الدبلوماسية العامة)، في خطوة فُسرت على أنها دليل على الذعر المتزايد من تآكل هيمنة سرديتها السابقة. ولكن فوز فيلم "لا أرض أخرى" بجائزة الأوسكار، حتى وإن كان إنتاجًا مشتركًا بين "القاتل والمقتول"، كان أمرًا لا يمكن تصوره قبل أكتوبر 2023 وتداعياته، مما يظهر مدى التحول الذي طرأ على المشهد خلال عام ونصف.