عادة ما نقرأ " المذكرات" كوثيقة عن الماضي" ، كسيرة من زمن الآخرين، لكن هذه المذكرات بالذات نقرأها كقطعة من الزمن الحاضر، كقطعة من زمننا. لذلك فعنوان الكتاب "زمن مغربي" مناسب تماماً ، لأن ما سنقرأه في الكتاب هو "زمن " من ضمن أزمنة"، أو بجانب " أزمنة أخري "،هو إذن دعوة لتعديد الروايات وزوايا النظر .فلكل زمنه، ولكل علاقته بزمنه. ولقد كانت متعتي شخصياً كبيرة لأن لي نصيبي من هذا الزمن الذي استعدت كثيراً من تفاصيله وأنا أتقدم في القراءة. تفاصيل بعضها يطابق تماماً ما عشته، وبعضها لا يطابق، أو يمكن روايته بطريقة مختلفة ، وهذا يؤكد مرة أخرى أننا يمكن أن نعيش نفس الحدث ، ونراه بشكل مختلف تماماً .
يعكس الكتاب إلى حد بعيد شخصية فتح الله ولعلو الإنسانية والسياسية والأخلاقية. فهو رجل يحب العمل حد العبادة. ونلمس ذلك بسهولة في هذين المجلدين الضخمين من 1400 صفحة في المجموع تخترقها مئات الوثائق والدراسات والأرقام والمراجع.
وهو سياسي مستقر وثابت في مواقفه،وقيمه، و صداقاته، ولكنه سياسي يحب المصالحة والتوافق والاعتدال وإمساك العصا من الوسط . وعلى امتداد الكتاب لا يفتأ الأستاذ ولعلو يؤكد أنه ظل طوال التزامه السياسي مستقلاً، لا ينخرط في الصراعات ، ولا ينحاز لطرف ضد آخر، وبرر ذلك بطبيعته الأكاديمية الميالة إلى الدراسة والتحليل أكثرمن ميلها إلى الاندفاع العاطفي أو إلى الاصطفاف، مع أنني أشهد أنه لم يكن دائماً على الحياد، بل إنه مثل كل سياسي يحترم نفسه كانت له دائماً ولاءاته وصداقاته وحساباته الدقيقة واختياراته الشخصية المستقلة. وسنرى بالطبع أثر هذه الخاصية السياسية في كل فصول الكتاب.
وهو ، أخلاقياً لم يكن أبداً رجل صِدَام ، أو عنف لفظي، أو صراحة جارحة، كان دائماً في نظري يفضل الصمت على الخصومة . ومن السهل أن نرى ذلك في الكتاب خصوصاً عندما يستحضر أسماء لم تكن دائماً ودودة معه حتى من أقرب الناس في عائلته السياسية.
و أخيراً فإنه ليس رجل تمرد أو إثارة ،لذلك لا يجب على القارئ أن يتوقع العثور في الكتاب على أسرار مثيرة ، أو تصفيات حساب ، أو فضائح مدوية، هذه أشياء توجد في الواقع ،ولكنها لا توجد في مذكراتنا المغربية .
ما يحضر في الكتاب هو الاحتفاء بالتجربة الشخصية ، والاحتفاء بدور الحركة الاتحادية في التاريخ السياسي للمغرب الحديث ،هو استحضار شخصيات وطنية ويسارية طبعت مسار التحولات السياسية في المغرب ، هو قراءة متأنية في الأحداث والوقائع التي شهدها المغرب، والتحولات التي عرفها العالم من حولنا، وفي كل ذلك حرص الكاتب على اتباع منهجية تعتمد على "المصالحة البعدية " مع الأشياء ، وعلى جرعات مخففة من النقد كلما استدعى الأمر ذلك . فالكتاب إذن بهذا المعنى ليس مذكرات على الطريقة التقليدية ( يقول العنوان إنه مذكرات وقراءات).
وبالفعل، فبالإضافة إلى السردية الخاصة ،هناك حضور قوي "للقراءات " ،من داخل الحقل السياسي ، ومن خارجه .من تاريخنا ومن تاريخ الآخرين. والقراءات كما هو معلوم تعتمد على التأويل ، لذلك سنجد مع كل قراءة شبكة التأويل الواضحة أو الملتبسة التي يقترحها المؤلف، ولذلك أيضاً جاء الكتاب عبارة عن تجاور لمقاربات متعددة ومتباينة، وربما كان الكتاب سيكون أسهل قراءة لو لم ينقسم إلى جزءين فقط ، بل إلى تيمات أساسية تبدأ بالسيرة، وتنتهي بحصيلة التدبير المالي والاقتصادي لحكومة التناوب.(الحكومة التي تشكلت بعد انتخابات 1997 و حصل فيها الاتحاد الاشتراكي على المرتبة الأولى والتي عهد برئاستها لعبد الرحمان اليوسفي بعد معارضة وإقامة في المنفى دامت لأزيد من ثلاثين سنة)
وبخصوص هذه الأخيرة أشير إلى أن حوالي 300 صفحة من أصل 1400 خصصها فتح الله ولعلو لتجربته في وزارة الاقتصاد والمالية . وهذا الجزء ينطلق من تقديم حصيلة عشر سنوات من الإصلاحات في هذا المجال ، كان قد سبق له وقدمها أمام البرلمان أثناء عرض آخر قانون للمالية أعدته الحكومة قبل مغادرتها سنة 2007 .وقد حددها في خمسين مؤشراً كبيراً تدل على أن المغرب الذي ستتركه هذه الحكومة لمن بعدها لا علاقة له إطلاقاً بمغرب "السكتة القلبية" الذي ورثته عن الآخرين.(عبارة استعملها الحسن الثاني لوصف الأزمة التي وصل إليها المغرب قبيل التناوب)، في هذا الجزء منجم من التفاصيل والمعلومات تحتاج إلى متخصصين أقدر مني على تحليل الحصيلة وتثمينها ونقدها إذا اقتضى الحال ، وهو الأمر الذي تظافرت للأسف جهود مختلفة لطمسه بل ولمحوه من الذاكرة السياسية المغربية .
-
المؤلف د.فتح الله ولعلو مع العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني (أرشيف)
وهنا، أود أن أستسمح صديقي الأستاذ فتح الله ولعلو لتقديم بعض الملاحظات التي خرجت بها من قراءاتي (التي هي أيضاً قراءة تخضع للتأويل ).
الملاحظة الأولى -عامة - تتعلق بهذا الفعل الذي نسميه كتابة المذكرات . لماذا نكتب مذكرات ؟هل لندافع عن تجربة؟أو عن أفكار؟ أو عن أطروحة ؟هل لنقدم حقيقتنا في مواجهة حقائق الآخرين.
هل لنُنْصف زاوية نظر معينة من ظلم التأْريخ و من شطط الروايات الخاصة ؟؟
هذه أسئلة تراودنا كلما بدأنا قراءة مذكرات أو انتهينا منها .
ولكن هناك في نظري شيء أهم من هذه الأسئلة هو أن فعل الكتابة هو فعل مُحَرِّر. إذا كانت السياسة والتوافقات الاجتماعية تكبلك، فإن المفروض أن الكتابة تنقذك من كل هذه القيود وتجعلك تقول الاشياء، حتى الأشياء التي تُغْضِبُ وتجرح، دون أن تنتظر جزاءً ولا شكوراً . لأنك بمجرد مَا تضع قدمك في حقل الكتابة فإنك تضع نفسك خارج الأسوار، وتكف عن أن تكون سياسياً ،أو شخصية عامة، أو مسؤولاً سابقاً يطوقه واجب التحفظ. انطباعي وقد يكون خاطئاً، هو أنك بالرغم من كثير من المقاطع المؤثرة بسبب نبرتها الذاتية، بقيت سياسياً بالمعني الذي ذكرته في بداية هذا الحديث ، حتى وقد اخترت الكتابة كاعتناق للحرية، في هَذَا السياق كنت أتمنى ليس إرضاء لفضولي كقارئ، ولكن استجابة لحق المواطنين في التعرف عليك بشكل أعمق وأفضل كشخصية عامة، فتتحدث عن تجاربك الذاتية في العلاقات الأسرية ،في الحب، في السفر ،في علاقتك بالموسيقى والأدب والرياضة لكنك آثرث ربما أن تذوب في الجماعة، وتلخص كل ذلك في كونك ابن الحركة الوطنية وابن الرباط. والحال أنك ، ابن أمك وأبيك وتجربتك الخاصة، ابن طفولتك، وأخطائك نجاحاتك، وخيباتك، وكان يهمنا كثيراً أن تتقاسم معنا هذه الجوانب. لكن ألتمس لك العذر في هذا الاختيار، لأنه يدخل في باب الحشمة التي تتصف بها وفي باب التقليد المغربي الذي لا يحب الكشف عن الحياة الخاصة .
ومسألة " البوح الشخصي" في المذكرات هي التي تضفي على هذا الجنس الكتابي ، نبرة الحميمية والصدق الضرورية لتفاعل الناس وتعاطفهم . وتنقل إلى القارئ الذي لم يعش بالضرورة الأحداث التي نتذكرها كثافة الشغف الذي خضنا به معاركنا، وعشنا به قضايانا، ولتأكيد ما أقول ، أنا كقارئ من أحسن المقاطع التي أعجبتني في الكتاب هي التي تتحدث فيها عن أسفارك الأربعة (القاهرة وباريس)،وقد قمت بها وأنت فتى في الخامسة عشرة إثر فوز في مسابقة عربية في القراءة،وقادتك إلى الاطلاع مبكراً على التجربة الناصرية،ثم إلى رحلة إلى يوغوسلافيا تيتو حيث أنجزت بحثاً عن الفولكلور الصربي.
الملاحظة الثانية تتعلق بتحليل بعض الأحداث وتقديم النقد الضروري بخصوصها .فالأخطاء كانت كثيرة في حياتنا الحزبية وفي تجربتنا الحكومية ، والحديث عنها بنوع من الجرأة تمرين ضروري لإنتاج المعرفة بتاريخنا السياسي ، وإنارة طريق المستقبل .وإذا سمحت لي سأعطي بعض الأمثلة من الأحداث التي عشناها والتي كانت تقتضي وماتزال وقفة تحليلية من طرفنا ، ووقفة نقدية على وجه الخصوص .
أبدأ أولاً من الحياة الحزبية . في الكتاب فصل ممتاز عن العلاقات مع الفقيه البصري والتوجه البلانكي .(كان الفقيه البصري يتزعم في الحزب جناحاً يدعو إلى التغيير بالعنف الثوري جواباً على عنف الاستبداد) وفي هذا الفصل يقدم فتح الله ولعلو تحليلاً أميناً لهذه العلاقات ، ورأياً واضحاً في ما يخص استعمال العنف والانقلاب الذي سبقنا الشرق إليه بسنوات وربما مَارس به كثيراً من الجاذبية على بعض مناضلي الاتحاد وقادته، والبورترية الذي يقدمه الكاتب للفقيه البصري وإن لم يكن يتضمن كل الحقائق فإنه واقعي إلى حد مَّا، لكن عندما يصل الأمر إلى عودة الفقيه سنة 1995 سيختل الميزان ، ذلك أن اليوسفي باقتراح من الأموي هو من قرر أن تنظم للفقيه عودة شعبية كبيرة ، وهذا القرار كما يقول فتح الله أحدث شرخاً كبيراً في الحزب .
هذه اللحظة في نظري جديرة بالتحليل ،أولاً لماذا قرر اليوسفي هذا الأمر الذي لم تسبقه مصالحة اتحادية ،ولا نقاش بين أنصار العنف وأنصار النضال الديمقراطي؟
وثانياً لماذا رغم الشرخ الواضح الذي حدث بسبب ذلك النقاش الذي بدا عقيماً وعبثياً قياساً إلى أهمية المرحلة،ظلت تفاصيل الصراع طي الكتمان ؟
يقول الأستاذ فتح الله ولعلو، عن حق ، إن هذا الحدث نتج عنه شرخ كبير طال الحزب والجريدة .ووحدة التنظيمات الحزبية واستمرت تداعياته المخربة شهوراً بعد ذلك .
-
قاد المناضل الراحل عبد الرحمان اليوسفي، تحولا سياسيا غير مسبوق في تاريخ المغرب الحديث
ولكن للأسف لا أحد من القادة المتصارعين، لا اليوسفي ، ولا الأموي ، ولا اليازغي ، قدم بوضوح أفكاره بهذا الخصوص. يمكن فقط أن نخمن بَعْدياً أن الأستاذ اليوسفي أراد أن ينزع " شوكة الفقيه" من طريق المستقبل( كنا على بعد ثلاث سنوات من تجربة التناوب) ، ولكن المشروع سيفشل من أساسه عندما سيفشل مشروع إلحاق الفقيه بقيادة الحزب في اجتماع اخريبكة الذي حضره المؤلف آنذاك. وجاءت الرسالة الشهيرة التي نشرها الفقيه في الصحافة(رسالته إلى اليوسفي وبوعبيد التي ترجع لبداية السبعينات والتي يفضح فيها ضلوع قادة الحزب في المحاولات الانقلابية العسكرية)، وهي رسالة يعتبرها ولعلو ملفقة من الأساس، لتنهي كل أمل في انتزاع الشوكة.
كما يمكن أن نفهم بسهولة أن المناضلين وبعضهم أصبح في قيادة الحزب ممن خاضوا تجربة النضال الديمقراطي منذ المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975 ، وبنوا بجهد كبير تجربة المشاركة في المؤسسات المنتخبة، ومؤسسات النضال الحقوقي، وحركات الدفاع عن حقوق المرأة ، ومؤسسات العمل الثقافي والجمعوي بصفة عامة، وخاضوا نضالات اجتماعية كبيرة، بعضهم دفع من حريته وقوته واستقرار عائلته ثمنها الباهظ . وبنوا المؤسسات الاعلامية للحزب وبوأوها مكانة الصدارة في المشهد الصحفي، وفوق ذلك كانوا كلما انخرط تيار العنف في تنفيد مغامرة من مغامراته وجدوا أنفسهم في غيابات السجون.
صحيح أن الشهيد عمر بنجلون رسخ لدى المناضلين منذ المؤتمر الاستثنائي باسم ما سماه " بالأخوة الاتحادية " فكرة مفادُهَا أننا نختلف عن أنصار التغيير بالعنف، ولكننا نقتسم معهم مُثُلَ مقاومة الاستبداد .ولكن الفترة التي حصلت فيها عودة الفقيه كانت ربما تقتضي حواراً يجعل تلك العودة لبنة من لبنات المصالحة وليس شرخاً في البناء .
يتحدث الأستاذ فتح الله ولعلو عن مراحل سياسية بالغة الأهمية منها مرحلة ما بعد اليوسفي ، والطريقة التي حسمنا بها خلافته وهي باختصار انتخاب كاتب أول جديد ، وتحرير وثيقة سياسية هامة ( وثيقة 28 نوفمبر) لإسناد هذا التغيير فكان أن تَوجنا الأستاذ محمد اليازغي كاتباً أولا للحزب ودفَنَّا الوثيقة التي كان يمكن أن تصبح بوصلة لعملنا الحزبي .
ومنها مرحلة الانتخابات الجماعية لسنة 2003 ،والتي أعتبرها شخصياً منعرجاً خطيراً أدى بالحزب إلى انكسار لم ينهض منه أبداً .
والحكاية كما يوردها فتح الله ولعلو في الكتاب ،هي أن اليوسفي (عن خطأ في تصوري " يقول المؤلف) أصر على اعتبار الاتحاد الاشتراكي أحق بعمودية الدار البيضاء، رغم أنه جاء في المرتبة الثانية من حيث عدد المستشارين ، والحال أن اتفاقاً حصل بين الاتحاد وحزب الاستقلال قبل الانتخابات يُلْزم كل طرف منهما بدعم صاحب الرتبة الأولى . وقد كان من نتائج إخلالنا بالاتفاق أن فقد الحزب الرباط وفاس إثر ذلك ، ودخل في دورة الجمود والتراجع .
على أن أكثر مَا يثير الانتباه في ما أَثاره الأستاذ فتح الله ولعلو بخصوص الحياة الحزبية ،هو علاقة القادة في ما بينهم، ولو أنه لا يغامر كثيرا في البحث عن جذور هذا التوتر المزمن ومحاولة تفسيره بطريقة مقنعة . لماذا تأزمت الأمور بين اليوسفي واليازغي(نائبه في رئاسة الحزب) إلى حد مُخَرب ، لماذا انقلب الأموي(زعيم الكونفدرالية الديموقراطية للشغل) على اليوسفي بعد فترة كانا فيها حليفين نادراً مَا تحقق للقيادة مثلهما .
يقول فتح الله ولعلو إنه لم يفهم أبدا ما حصل بين هذين الأخيرين، ولكن ألا يمكن أن نعتمد على تحليل صراعات النفوذ داخل الحزب ، وعلى تفكيك الآليات التي حضر بها التناوب التوافقي والجروح السرية التي خلفها ، لنقترب من فهم هذه الحروب الصغيرة ، التي جرت في غرف مغلقة ولكن نيرانها التهمت عقوداً من الأُخوة الحزبية. في كل الأحوال ، فإن الخسائر الكبيرة المترتبة عن هذه الصراعات والتي رصدها فتح الله ولعلو كلما اقتضى الأمر ذلك ، لا يمكن أن نحسبها فقط على صراع الأنانيات، وتضارب الاستراتيجيات الفردية ،بل إنها تعبير عن تحولات سوسيولوجية وثقافية مست الحزب والمجتمع ولم نتعامل معها بروح نقدية تخضع الحزب نفسه للإصلاح على غرار مَا نطالب به للدولة.
وأخيراً أود أن أثير هنا- لأن الأستاذ فتح الله ولعلو يتحدث عن ذلك - مسألة أساسية كثيراً ما شكلت خلفية للنقاش السياسي الذي صاحب وأعقب حكومة التناوب وهي طبيعة العلاقة التي جمعت بين الملك وبين اليوسفي وحكومته . مَا هي لحظات التوافق ،وَمَا هي لحظات التأزم وكيف دُبرت اللحظتان ؟، وهل استعملنا في ما بيننا ومع الرأي العام الوطني خطاب الحقيقة والمكاشفة، أم لجأنا إلى " التكتم التقليدي " الذي انتقده الشهيد المهدي بن بركة بشدة في تجربة حكومة عبد الله ابراهيم في بداية الاستقلال.
يحكي الأستاذ فتح الله ولعلو في كتابه هذه القصة العجيبة . ذات يوم دَعَاه جلالة الملك للاجتماع به في مكتبه بمقر القيادة العليا ، وأثناء الحديث قال الملك إنه يراعي كثيراً عبد الرحمان اليوسفي ، وأن على هذا الأخير أن يراعيه أيضاً ففهم ولعلو شيئين من هذه الإشارة، أولهما أن شيئاً مَّا حصل بين الرجلين ربما عَكَّر صفو العلاقة ، وثانيهما أن عليه أن يوصل هذه الرسالة .
وبالفعل فقد أبلغ الرسالة في حينها . ولكن الأستاذ اليوسفي كما جلالة الملك لم يقل كلمة واحدة عَما حدث، ويعلق فتح الله بعد ما أورد الحكاية بأنه لاحظ تحسناً كبيراً في العلاقة بعد يومين أو ثلاثة ، ففهم أن المياه عادت إلى مجاريها . لكن وعلى غرار كثير من الأشياء، لا نعرف شيئاً لا عن المشكلة وَلاَ عن علاجها . كم مرة كانت تجربة التناوب ستتوقف بسبب أزمة من الأزمات ، وكم مرة دفع الحزب ثمناً باهظاً من أجل استمرارها ، ولكن هذه "اللحظات الصامتة" لم تدخل أبداً في عملية التملك الجماعي لتجربتنا السياسية .
من السهل أن نخمن بأن العلاقة بين الملك واليوسفي كان فيها جانب موضوعي يتعلق بملفات التدبير ، ومن المؤكد -وهذا شيء طبيعي -أن خلافات صغيرة أو كبيرة قد تكون حصلت بهذا الخصوص، ولكنها لم تخرج إلى النقاش العام وربما يكون هذا الصمت قد أضر كثيراً بمضمون العمل السياسي وبأساليبه التي ظلت تتأرجح بين الحداثة والتقليد . وكان فيها أيضاً جانب ذاتي ، له علاقة بالمكانة الاعتبارية للمرحوم اليوسفي وبدوره البالغ الأهمية في الانتقال بين عهدين، وبالتباعد البديهي الذي قد يكون بين جيلين وتجربتين بالغتي الاختلاف.
ونتذكر هنا أن " مهندسي" الخروج عن المنهجية الديمقراطية، كثيراً مَا برروا هذا الخروج ، بحاجة الملك إلى وزير أول لا يُكَبله بتلك المكانة الاستثنائية التي كانت لعبد الرحمان اليوسفي . وقد مهدوا لهذا التبرير بشهور من الثرثرة عما كانوا يسمونه بالتناقض الصارخ بين البطء الحكومي– والسرعة الملكية .
تحليل العلاقة بين الملكية والحكومة في فترة التناوب (1998-2002) مسألة في غاية الأهمية ، لأن الملك محمد السادس كما يؤكد على ذلك فتح الله ولعلو في الكتاب قام بمجهود كبير لتحديث الملكية في خطابها وفي أسلوب عملها وفي علاقتها بالمواطن، وكان من شأن هذا التحليل أن يقربنا من فهم أكثر عمقاً ودقة لمكتسبات هذه المرحلة ، وللتوقفات أو التراجعات التي أعقبتها . أي ما يمكن أن نحسبه على العودة المتكررة إلى الماضي وما يمكن أن نجزم بأنه بَذرَةٌ من بذور المستقبل .
لا يمكن أن نقرأ هذا الكتاب دون أن نشعر بأن المؤلف في نهاية المطاف قد قدم لنا من خلال الوقائع والأحداث والشخصيات ملخصاً لملحمة اليسار في المغرب عامة والاتحاد خاصة في انجاز تحول سياسي صعب لم يبلغ مداه كمَا سيعترف بذلك عبد الرحمان اليوسفي في خطاب بروكسل ، ولكنه وضع لبنات لا يستهان بها علي هذا الطريق .
وعندمَا ننتهي من قراءة الكتاب لا يمكن أن لا نفكر بوضع الاتحاد اليوم ،وكيف مر من وضع المعادلة الصعبة التي يتوقف على حلها كل تقدم في البناء السياسي إلى مجرد رقم بين أرقام.
والواقع أن مذكرات فتح الله ولعلو لم تتوقف كثيراً عند هذا التغيير، وإن كانت قد تعرضت لبعض مؤشراته السياسية ، وقد تكون العودة بالتحليل والمساءَلة ضرورية لما جرى بعد انتخابات 2002، وكيف قرر الحزب المشاركة في حكومة جطو، وهل جرت هذه المشاركة فعلا ضد إرادة اليوسفي ،وماذا جرى أيضا بعد انتخابات 2007 ،ولماذا رفض أغلب قادة الاتحاد تنظيم مؤتمر استثنائي لتقييم تجربة التناوب والأسباب العميقة وراء نزول الاتحاد إلى المرتبة الخامسة ، وكيف جرت مفاوضات المشاركة في حكومة الفاسي(زعيم حزب الاستقلال الذي عينه الملك رئيساً للحكومة سنة 2007) وكل ما أعقب ذلك من تخبطات بدأت بذلك الإبعاد الشبه انقلابي لليازغي والراضي من منصبيهما في المكتب السياسي وانتهت بمؤتمر وطني كان كل شيء فيه يدل على أن الحزب قد انتقل إلى ضفة أخرى.
من هذا المؤتمر أتذكر مسألتين على وجه الخصوص:
المسألة الأولى تتعلق بما كتبه أحد الصحفيين المرموقين من قدماء الحزب ، حين وجد نفسه تائهاً بين مُؤْتمرين لا يعرف معظمهم ، بأن ما جرى للحزب يشبه مَا جرى لمدننا العتيقة في السنوات الأخيرة . لَقد تم ترييفه بطريقة شبه كاملة، وقد ظهر ذلك أول مَا ظهر في نتائج الانتخابات الجماعية ،إذ مر الحزب من وضع مهيمن على المدن الرئيسية إلى وضع حزب لا يفوز إلا في المجالس القروية أو المدن الصغيرة.
والمسألة الثانية تتعلق " بالمسلكيات " كما كان يسميها عبد الواحد الراضي، التي أصبحت مهيمنة داخل الحزب وقد جرب فتح الله ولعلو فجاجة هذه المسلكيات، عندما كان مرشحاً للكتابة الأولى في المؤتمر الثامن ،وكنت حينها قد اقترحت عليه عرض برنامجه على أحد كبار المنتسبين إلى الحزب من أقاليمنا الجنوبية ، سعياً إلى مساندته، فما كان من هذا " المناضل" إلا أن بادره قائلاً: " قل لي ما هي الأقاليم التي تريد أن أشتريها لك ؟". فكانت تلك المرة الأولى التي أحسسنا فيها أن المستنقع الانتخابي قد انتقل بأكمله إلى داخل الاتحاد .
التساؤل عن وضع الاتحاد الاشتراكي اليوم ليس تساؤلا عن أرقامه الانتخابية ، أو عن رصيده من المقاعد والمواقع، فهذه أشياء تذهب وتعود في كل الديموقراطيات الفتية أو الراسخة، ولكن التساؤل هو عن "روح الاتحاد" التي كانت تجعل منه درع الطبقات الضعيفة في مواجهة الاستبداد والظلم ،والتي جعلت منه على امتداد تاريخه صوت كل القضايا العادلة في العالم ،وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي ساهم دفاعاً عنها في إنشاء الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني ( قضى فتح الله ولعلو تسع سنوات في قيادتها)،وأعطى اسم فلسطين للجريدة الناطقة باسمه .
هذه الملاحظات التي أقدمها بين يدي الكتاب ليست انتقاداً ولا لوماً .إنما هي استجابة لما يدعو إليه الكتاب ، أن نتذكر ، وأن نقرأ .إنه دعوة للتفكير والنقد والمساءلة وبهذا المعنى فإن الكتاب وثيقة لا غنى عنها لفهم " الزمن المغربي " .