لأكثر من عقدين، ظلت عناوين الصحف العالمية والخطابات السياسية تردد تحذيرا مكررا مفاده أن "إيران على بُعد أسابيع فقط من امتلاك سلاح نووي". كان التحذير لازمة مألوفة تطلقها إسرائيل وتكررها بعض الدوائر السياسية الغربية. ومع ذلك، ورغم سنوات من هذا الهلع، لم تجرّب إيران قنبلة، ولم تُطلق رأسًا نوويًا، ولا تزال تحت رقابة دولية مكثفة. فأين الحقيقة إذن؟
دعونا نكشف عن هذا الغموض وننظر إلى ما يتطلبه الأمر فعليًا من إيران، ليس فقط لتخصيب اليورانيوم، بل لبناء سلاح نووي حقيقي وإمكانية استخدامه، فمن شأن ذلك أن يبين مدى بُعد إيران عن تشكيل تهديد نووي حقيقي - ولماذا يجب أن نتشكك في كل مرة يظهر فيها عنوان جديد عن "العد التنازلي للقنبلة".
تخصيب اليورانيوم وحده لا يكفي
لصنع سلاح نووي، تتمثل الخطوة الأولى في الحصول على مواد انشطارية صالحة للاستخدام في الأسلحة - إما اليورانيوم عالي التخصيب (HEU) أو البلوتونيوم-239. ركز البرنامج النووي الإيراني على تخصيب اليورانيوم، ولا شك أن مخزونه قد ازداد على مر السنين، وأن تقنية أجهزة الطرد المركزي قد تحسنت.
ووفقًا للتقارير الأخيرة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، قامت إيران بتخصيب اليورانيوم إلى ما يقارب 60% من النقاء - وهو ما يُعتبر أقل بنسبة 30% عن نقاء اليورانيوم عالي التخصيب المطلوب لصناعة القنبلة. لكن إذا أرادت إيران صنع قنبلة، فهل يمكنها التخصيب إلى درجة المطلوبة؟ نعم، في نهاية المطاف.
لكن التخصيب وحده لا يصنع قنبلة - تمامًا كما أن وجود وقود في سيارتك لا يجعلك سائق فورمولا 1.
فإيران أو أي دولة تسعى لامتلاك الرادع النووي عليها أن تقوم أولا بصناعة القنبلة، ومن ثم امتلاك الوسائل اللازمة لإطلاقها (استخدامها عسكريا)، واختبارات موثوقة للتأكد من نجاحها. وهذه أمور لا تستغرق أسابيع، بل عدة سنوات وربما أكثر.
-
تصنيع سلاح نووي صالح للاستخدام الميداني مهمة شاقة قد لا تقدر إيران عليها
القنبلة المدفعيّة مقابل القنبلة الانفجارية
بمجرد امتلاك المواد الانشطارية، يكمن التحدي التالي في تحويلها إلى سلاح فعلي. هناك طريقتان أساسيتان تم اتباعهما تاريخيًا:
1. القنبلة المدفعيّة
هذا التصميم هو الأبسط. يتضمن إطلاق قطعة من اليورانيوم-235 على قطعة أخرى لتكوين كتلة فوق حرجة وبدء انفجار نووي. لا يتطلب هندسة دقيقة للغاية - فقط يورانيوم عالي النقاء وآلية عمل موثوقة.
المرة الوحيدة التي استُخدمت فيها قنبلة مدفعيّة في الحرب كانت في هيروشيما عام 1945. أسقطت الولايات المتحدة قنبلة "الولد الصغير"، التي عملت وفقًا لهذا المبدأ.
هل تستطيع إيران صنع قنبلة مدفعيّة؟ نظريًا، نعم. إذا جمعت ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب واختارت سلاحًا بدائيًا من الجيل الأول، فسيكون التصميم المدفعيّ هو أسرع طريق.
ولكن هناك مشكلة، تتمثل في السلاح الذي يحمل القنبلة أو توصيلها إلى الهدف وهو التحدي الحقيقي. فالقنابل المدفعيّة كبيرة وثقيلة وغير مناسبة لتحميلها على الصواريخ الحديثة. يجب أن تُطلق بواسطة طائرات قاذفة - وهو ما يعني، نظريا في حالة إيران، على الأرجح التحليق فوق أراضٍ معادية، بما في ذلك المجال الجوي الإسرائيلي شديد التحصين والمراقبة.
يكاد يكون من المستحيل أن تخترق قاذفة مقاتلة إيرانية هذا المجال الجوي دون أن يتم اكتشافها واعتراضها. والنتيجة؟ حتى لو بُنيت القنبلة المدفعيّة، فإنها ستكون بمثابة بيان سياسي أكثر منها رادعًا استراتيجيًا. يمكن لإيران اختبارها لإثبات وجهة نظرها - "وتأكيد قدراتها النووية"، إن جاز التعبير - ولكنها لن تكون مجدية لاستخدامها في صراع حقيقي.
انظر فقط إلى الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة. لم يكتفوا بصنع القنابل - بل اختبروها وطوروها وفشلوا مرارًا وتكرارًا قبل أن يمتلكوا أسلحة قابلة للنشر. كل هذا حدث سرًا، بميزانيات طائلة ودون رقابة من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إيران تعمل تحت مراقبة وضغط مستمرين. إنها ببساطة ليست من نفس الفئة.
2- قنبلة الانفجار الداخلي
هذا هو تصميم القنبلة التي استخدمت في ضرب ناغازاكي عام ١٩٤٥. فبدلاً من مجرد تحطيم المواد الانشطارية، تستخدم قنبلة الانفجار الداخلي مواد شديدة الانفجار موقوتة بدقة لضغط نواة البلوتونيوم أو اليورانيوم إلى حالة فوق حرجة.
هذه الطريقة أكثر إحكامًا وفعالية، والأهم من ذلك، أنه يمكن تصغيرها لتناسب رأس الصاروخ.
لكنها أيضًا أكثر تعقيدًا بكثير. فهي تتطلب:
• هندسة متقدمة للعدسات المتفجرة
• اختبارات تشخيصية عالية السرعة
• آليات توقيت دقيقة
• تحكم آمن ومستقر في التفجير تحت الضغط
لا يمكن تطوير هذا النوع من القنابل في مرآب، أو حتى في مختبر عسكري بسيط. بل يتطلب سنوات من التجارب والاختبارات والمحاكاة - غالبًا في ظروف شديدة المراقبة والسرية.
إيران بعيدة كل البعد عن هذه القدرة. على الأقل ليس وفقًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو الاستخبارات الأمريكية، أو حتى التقييمات العسكرية الإسرائيلية (على الرغم من الخطاب العام).
خرافة القنبلة الإيرانية الوشيكة
لماذا نسمع إذن باستمرار أن إيران على بُعد أسابيع من امتلاك سلاح نووي؟
لهذه العبارة قيمة سياسية، فهي تحشد الحلفاء، وتبرر الإنفاق الدفاعي، وتعزز النفوذ الدبلوماسي. لكن الواقع أكثر تعقيدًا.
حتى أجهزة الاستخبارات الأمريكية قدرت قبل الحرب بأن إيران لم تتخذ قرارًا سياسيًا بالسعي لامتلاك أسلحة نووية. وتواصل الوكالة الدولية للطاقة الذرية تفتيش المنشآت الإيرانية - وإن كان ذلك مصحوبًا بتوتر متزايد - ولم تعثر على أي دليل على وجود برنامج أسلحة نووية حالي.
وقد أشارت تولسي غابارد، رئيسة الاستخبارات الوطنية الأمريكية (التي تضم تحتها كل أجهزة الاستخبارات) في جلسة استماع لتأكيد تعيينها أمام الكونغرس إلى أن إيران لا تشكل تهديدًا نوويًا وشيكًا. وقد أكد تقدير الاستخبارات الوطنية لعام 2007 - وتحديثاته اللاحقة - هذا الأمر باستمرار.
ومع ذلك، نتلقى نفس العنوان مرارًا وتكرارًا: "إيران على بُعد أسابيع". إنه مجرد أسطوانة مشروخة.
ساعة نتنياهو المعطلة
ربما لم يجسّد أحد هذه الرواية أكثر من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
في عام ٢٠١٢، وقف في الأمم المتحدة برسم كاريكاتوري لقنبلة، محذرًا العالم من أن إيران على وشك امتلاك سلاح نووي. بعد أكثر من عقد من الزمان، لم تظهر تلك القنبلة نفسها.
هذا لا يعني تجاهل طموحات إيران النووية أو الاستخفاف بها. فالنظام الإيراني استبدادي، ولديه طموحات إقليمية، ويمول جماعات بالوكالة ويلعب لعبة خطيرة، وأي دولة لديها البنية التحتية اللازمة لتخصيب اليورانيوم تستحق التدقيق والرقابة. لكن هذا يعني أن الخوف دون سياق يمكن أن يؤدي إلى سياسة خاطئة - أو في واقعنا، إلى حرب قائمة على افتراضات خاطئة.
منظور أكثر استنارة
لو قررت إيران صنع قنبلة اليوم، فستواجه ما يلي:
• عقبات تقنية في التخصيب، وعلم المعادن، وتصميم القنبلة
• اختبارها - وهو أمر لا يمكن إخفاؤه
• قيود كبيرة في أنظمة الإطلاق
• إن الطريق من المواد الانشطارية إلى امتلاك صاروخ نووي فعال طريق طويل وصعب ومليء بالمخاطر، وإيران تدرك ذلك جيدًا.
لذا، في المرة القادمة التي تسمع فيها أن إيران على بُعد "أسابيع" من صنع قنبلة، اسأل نفسك: ما نوع القنبلة؟ كيف سيتم إطلاقها؟ من يدّعي ذلك - ولماذا؟
لأن فهم الفرق بين بقايا مدفع من طراز هيروشيما ورأس حربي حديث جاهز للإطلاق ليس مجرد مسألة فيزياء، بل هو مسألة سلام، وسياسة، ومعرفة متى يتحول الخوف إلى دعاية.