غالبًا ما تُعتبر القومية سمة متأصلة في الحياة السياسية، لكن مفهوم "الدولة القومية" لم يترسخ كفكرة سياسية إلا خلال الثورة الفرنسية. قبل عام 1789، كان الولاء يُمنح دائمًا للملوك والسادة الإقطاعيين والسلطات الدينية. أما فكرة وجود مجموعة متساوية من الأفراد تجمعهم مصالح مشتركة ولغة وثقافة واحدة، فكانت جديدة – وثورية للغاية، أو حسب مقولة ماكسيميليان روبسبير الشهيرة: "يجب أن يموت لويس لكي تعيش الأمة." هذا الشعور عكس مدى إلحاح وحماسة القضية الثورية: خلق الدولة القومية كان يتطلب التضحية بالنظام القديم.
عندما استولى الثوار على السلطة، واجهوا تحديات فورية. كانت فرنسا مضطربة اقتصاديًا، ومتورطة في صراعات خارجية، ومنقسمة بفعل الاختلافات الداخلية. ومن ثم لم يكن تأسيس هوية وطنية متماسكة أمرا سهلا. فقد كان العديد من الفرنسيين يشعرون بولاء أقوى لمناطقهم المحلية أكثر من مفهوم فرنسا الأوسع. كما كان عالم وهوية الفلاحين يُعرَّفان بالقرية، وليس بالأفكار المجردة للدولة القومية.
عقّدت التنوعات اللغوية في فرنسا الأمور أكثر. كان معظم الناس يتحدثون لغة أو لهجة محلية، بينما كان استخدام الفرنسية الموحدة محدودًا على النخبة الحضرية. بدت رؤية فرنسا موحدة شبه مستحيلة. إذ كيف يمكن بناء أمة إذا كان من تحاول توحيدهم لا يرون أنفسهم جزءًا منها؟
كان جان جاك روسو، الذي أثرت أفكاره بشكل كبير على الثوار، مدركًا لهذه المشكلة قبل الثورة بفترة طويلة. ففي أطروحته عن الكومنولث البولندي-الليتواني، لاحظ أن الدولة غير المنظمة والمنقسمة داخليًا محكوم عليها بالضعف وسهولة الغزو. ومن أجل البقاء، رأي “روسو" أن بولندا بحاجة إلى أن تلتئم في روح قومية – هوية جماعية تتجاوز الاختلافات الإقليمية والثقافية. واعتبر أن التعليم هو المفتاح. في رؤية روسو، ستعمل المؤسسات الوطنية على غرس الفخر بتاريخ الأمة وثقافتها وشعبها، لتحويل المواطنين إلى وطنيين حقيقيين.
أخذ الثوار أفكار روسو على محمل الجد، وأدركوا أنهم بحاجة إلى خلق شعور بالهوية الجماعية يرتكز على فكرة الدولة القومية كي تبقى فرنسا. فشرعوا في مشروع للتوطين، بهدف تشكيل هوية مشتركة تتجاوز الولاءات المحلية واللغات الإقليمية. لجأوا إلى التعليم، والأعياد الوطنية، والفنون المدعومة من الدولة لبناء وعي وطني موحد.
كان إنشاء نظام تعليم وطني أحد أهم إنجازات الثوار. أسسوا مدارس لتعليم الأطفال قيم الثورة وأهمية الدولة القومية. كما أُدخلت الفنون والثقافة في خدمة القضية الوطنية. وتم تحويل قصر اللوفر الملكي إلى متحف وطني، رمزًا لفخر الشعب الفرنسي بثقافته وتراثه. أصبحت الفرنسية الرسمية لغة التعليم، وبُذلت جهود لقمع التنوعات الإقليمية. ويعبر النشيد الوطني الفرنسي "لامارسييز"، الذي ألِّف في عام 1792، عن دعوة للشعب الفرنسي للانتفاض والقتال من أجل الأمة، واصفًا الأعداء بـ “الدماء غير النقية" التي يجب أن تُراق من أجل مجد فرنسا.
القومية خارج فرنسا
وعلى الرغم من فشل الأفكار الثورية الفرنسية إلى حد كبير في تحقيق دولة قومية موحدة ومستقرة، إلا أنها تركت أثرًا عميقًا على مستوى العالم. فقد ألهم مفهوم الدولة القومية حركات الاستقلال في المستعمرات وجهود التوحيد القومي في أوروبا. وتم صك كلمة "القومية" نفسها في تسعينيات القرن الثامن عشر لوصف الحركة السياسية الناشئة.
انتشرت هذه الفكرة عبر أمريكا اللاتينية، بدءًا من هايتي ومرورًا بمستعمرة البرازيل وحروب التحرير التي قادها سيمون بوليفار. وقد حشد بوليفار جيوشًا من السكان الأصليين وأصحاب الأصول المختلطة لتأسيس أمم جديدة من بقايا المقاطعات الإسبانية: فنزويلا، كولومبيا، بوليفيا، الإكوادور، وبيرو. وشهدت هذه التحولات ولادة تشيلي والأرجنتين والأوروغواي وباراغواي. لم تكن هذه الثورات قومية بحتة، بل استندت إلى مبدأ السيادة الشعبية—وهي رؤية تمزج بين المبادئ الليبرالية والطموحات القومية، وتحمل بصمة لا تخطئها العين للثورة الفرنسية.
في أوروبا، رسخت القومية أقدامها في اليونان وإيطاليا، حيث أبرزت حركات التوحيد قوة هذه الفكرة. وجد القوميون الإيطاليون، الذين دفعهم شغفهم لتوحيد الولايات الإيطالية المتفرقة، صوتهم الأكثر صخبًا في جوزيبي ماتزيني. كان ماتزيني يرى الأمم ليس فقط ككيانات متميزة، بل كجهات فاعلة عقلانية قادرة على تشكيل تحالفات - مثل "الولايات المتحدة الأوروبية"- التي تخيلها تعزيزا للسلام الدولي.
تطلبت هذه الرؤية تغييرًا جذريًا في الولاءات. قال ماتزيني للإيطاليين: "واجبكم الأول هو للبشرية. أنتم بشر قبل أن تكونوا مواطنين." لكنه جادل أيضًا بأن تحقيق الوحدة العالمية يتطلب بناء أمم قوية ومتماسكة. انعكست هذه الفلسفات السياسية في أفكار وودرو ويلسون وظهور مؤسسات مثل الناتو والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لكن التفاؤل حيال السلام الدولي اصطدم بواقع النزعات الانقسامية للقومية. فغالبًا ما أثارت النزاعات الإقليمية والتنوع الثقافي داخل الحدود صراعات مريرة. لقد سلطت وصفات روسو السابقة لبولندا الضوء على هذه التحديات: ماذا عن أولئك الذين يعيشون داخل حدود بولندا ولكنهم لا يعتبرون أنفسهم بولنديين، ويتحدثون لغات أخرى، أو يعيشون في مناطق ثقافية متميزة؟ هل يجب أن يقبلوا اللغة والثقافة البولندية، أم يناضلوا من أجل الاستقلال؟ وبالمثل، هل ينبغي للبولنديين الذين يعيشون خارج حدود الأمة—مثل أولئك في بروسيا—الدعوة إلى الضم لتوحيد شعبهم؟
هذه المعضلات تكررت في جميع أنحاء أوروبا وخارجها مع انتشار القومية، حيث حولت التطلعات المثالية للوحدة إلى نزاعات حول الأرض والهوية والسيادة. كشفت مثل هذه النزاعات عن الطبيعة المتناقضة للقومية: ففي حين أنها قد تلهم التضامن الداخلي، فإنها غالبًا ما تولد العداء الخارجي. بدا الأمل في أن تحقق القومية السلام الدولي أمرًا ساذجًا على نحو متزايد.
وقد أدت هذه الديناميكية بدورها إلى ظهور ما يمكن تسميته "قومية الشعوب المضطهدة"، وكانت الصهيونية المثال الأبرز على ذلك. فقد ربط تيودور هرتزل محنة الشعب اليهودي بغياب دولة لهم. وعلى الرغم من أن اضطهاد من يُعتبرون أجانب هو ظاهرة قديمة قدم التاريخ، فقد جادل هرتزل بأن هذا التمييز اتخذ طابعًا قوميًا. كتب: "كل أمة يعيش فيها اليهود معادية للسامية إما سرًا أو علنًا." وتمثل الحل الذي طرحه في إنشاء دولة يهودية، مما أدى في نهاية المطاف إلى تأسيس إسرائيل.
مع ترسخ القومية بشكل أكبر خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سعت العديد من الدول إلى تعزيز هويتها من خلال برامج "روسويّة". هدفت هذه المبادرات إلى غرس شعور بالانتماء والفخر والتضامن بين المواطنين. بحلول أواخر القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة قد أدرجت قسم الولاء الوطني في المدارس لتعزيز الولاء للأمة. وتم تبني تدابير مماثلة في جميع أنحاء العالم لتوحيد السكان المتنوعين تحت راية الدولة القومية، مما عزز قوتها وتحدياتها في عالم يتجه بسرعة نحو الحداثة.
مع انتشار القومية في أوروبا، أصبحت مرتبطة بشكل متزايد بالرومانسية، وهي حركة أكدت على العاطفة بدلاً من العقل، والحدس بدلاً من المنطق. لم تتجذر القومية الرومانسية بقوة أكبر مما حدث في ألمانيا، حيث تحولت إلى شيء شبه صوفي، يربطها بمفاهيم القدر الثقافي والشعب .(Volk) تطورت هذه الحماسة لتصبح الأساس الأيديولوجي للفاشية—وهي شكل متطرف ومدمر من القومية، حيث تم إخضاع كل شيء لأسطورة العظمة الوطنية الموحدة.
التكنولوجيا وبناء "الأمة"
لم يكن بإمكان ظهور الدولة القومية الحديثة أن يتحقق دون الثورات التكنولوجية الهائلة. في القرن الخامس عشر، أحدثت مطبعة يوهانس غوتنبرغ ثورة غير مسبوقة في نشر المعرفة، حيث أتاحت للأفكار أن تنتشر على نطاق واسع وبسرعة كبيرة. لولا قوة المطبعة، لبقيت أفكار التنوير، التي شكلت الأساس الفكري لمفهوم الأمة، محصورة داخل دوائر صغيرة من العلماء والنخب. ساعدت الدعاية القومية، المنتشرة من خلال الكتيبات والصحف والكتب، في تعزيز الشعور بالهوية المشتركة. علاوة على ذلك، أصبح توحيد اللغة – وهو عامل حاسم في خلق ثقافات وطنية متماسكة – ممكنًا بفضل انتشار المواد المطبوعة إلى جمهور أوسع.
جلبت الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر أشكالًا جديدة من الاتصال والتحكم للدول. فقد مكّنت السكك الحديدية والسفن البخارية واختراع التلغراف الحكومات من فرض سلطتها على مساحات شاسعة. وظهرت إدارات مركزية، عززتها قدرتها المكتسبة حديثًا على الحكم بفعالية في مجالات واسعة. وأصبح مفهوم السيادة، الذي كان يومًا ما فكرة مجردة، واقعًا عمليًا مع امتلاك القادة الوطنيين أدوات لحماية الحدود والحفاظ على النظام.
التحول من عالم القرية إلى الحضر كان أيضا عاملًا مهما في بناء الأمم. هاجرت التجمعات السكانية الريفية إلى المدن، حيث تواصلوا مع أشخاص من مناطق مختلفة ضمن الدولة نفسها. عزز هذا الالتقاء الشعور بالانتماء إلى كيان أكبر—أمة ذات أهداف وطموحات مشتركة. وقد أشار المؤرخ بنديكت أندرسون إلى الأمم باعتبارها "مجتمعات متخيلة"، حيث تُمكن الرموز والروايات المشتركة، التي جعلتها التكنولوجيا ممكنة، الملايين من الشعور بالارتباط ببعضهم البعض دون أن يلتقوا وجهًا لوجه.
العالم العربي والقومية
في العالم العربي، مثل مفهوم الأمة - المجتمع العالمي للمسلمين باعتباره الهوية الجماعية الشرعية الوحيدة - عائقًا كبيرًا أمام ظهور الدولة القومية. لقرون عديدة، كان المسلمون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ينتمون إلى كيان روحي واجتماعي موحد يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية. ظهور الدول القومية، بحدودها المصطنعة وولاءاتها المجزأة، اصطدم بشكل عميق بهذا الإحساس الراسخ بالوحدة والمصير المشترك.
تزامن ظهور الدول القومية العربية مع موجة حركات الاستقلال التي اجتاحت الجنوب العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين. لم تكن فكرة الدولة القومية الحديثة ذات الحدود المحددة والمؤسسات الدائمة موجودة تقريبًا قبل ذلك. كانت مصر والمغرب فقط هما المنطقتين اللتين أظهرتا بعض مظاهر الاستمرارية السياسية، لكنهما كانتا بعيدتين عن النموذج الحديث للدول. كلاهما كان يحكمه حكام من عائلات مالكة تمارس السلطة على أراضٍ ذات حدود غير واضحة. وكانت شرعية حكمهم تعتمد على شخصياتهم الحاكمة بدلاً من تماسك الأرض أو شعوبها. عندما ضعفت أو سقطت هذه السلالات، انهارت معها الهياكل السياسية أيضًا.
جلب الاستقلال عن الحكم الاستعماري الحكم الذاتي ولكنه كشف أيضًا المنطقة لتحديات عديدة. فقد تجاهلت الحدود الجديدة التي رسمتها القوى الاستعمارية شبكات معقدة من الولاءات العرقية والقبلية والطائفية التي لطالما شكلت المنطقة. وضعت اتفاقيات مثل اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة لعام 1916 حدودًا مصطنعة دون مراعاة للواقع التاريخي. فُرضت هويات وطنية جديدة على مجموعات بشرية لم يكن لديها الكثير من القواسم المشتركة، مما أدى إلى مزيج متفجر من السخط والانقسام.
وضعت الدولة العراقية بعد الاستقلال العرب السنة والشيعة، والأكراد وغيرهم من الأقليات تحت راية وطنية واحدة. وكانت انقسامات مماثلة واضحة في سوريا ولبنان والأردن، حيث جُمعت مجموعات عرقية ودينية متنوعة في كيانات سياسية واحدة. وفي شمال إفريقيا، شطرت الحدود التي رسمها الإداريون الاستعماريون أراضي القبائل، وقطعت التحالفات التاريخية، مما مهد الطريق لنزاعات مستقبلية.
ولا تزال تداعيات هذه الحدود محسوسة حتى اليوم. تكافح بعض الدول العربية لتكوين هوية موحدة، بينما انهارت دول أخرى أو اقتربت من حافة الانهيار. ففي العراق، أدى العنف الطائفي إلى تهديد طموحات الأكراد بالحكم الذاتي لوحدة البلاد. أما ليبيا، فقد انزلقت إلى حالة من الانقسام بعد سقوط معمر القذافي عام 2011، حيث أصبحت دولة مجزأة تحكمها فصائل متنافسة. وتواجه سوريا قوى تفكك مماثلة عقب سقوط نظام الأسد. بينما يُظهر الصراع في اليمن كيف يمكن أن تقوض الانقسامات القبلية والدينية والإقليمية الجهود المبذولة لبناء دولة متماسكة.
تشكل تحديات توحيد السكان المتنوعين داخل حدود فرضتها القوى الأجنبية معضلة كبيرة. وكما لاحظ المؤرخ رشيد الخالدي: "كان نظام الدول في الشرق الأوسط، الذي فُرض بقرار استعماري، يكافح دائمًا للتوفيق بين تطلعات وهويات شعوبه." ولا تزال الوراثة الاستعمارية للحدود الاعتباطية، إلى جانب غياب المؤسسات الوطنية القوية، تطارد العالم العربي، تاركة وراءها فسيفساء من الدول التي تواجه عدم الاستقرار، والهويات المجزأة، وفي كثير من الحالات، صراعات مفتوحة.
.