وأنا أقرأ مؤخرا كتاب ستيفن فراي "ميثوس"، عن الأساطير الإغريقية، لفتت انتباهي فقرة تقدم رؤية مثيرة لفهم علاقة البشر بالتكنولوجيا، وخصوصًا الذكاء الاصطناعي. تلك هي أسطورة بروميثيوس سارق النار، ذلك "التيتان" الذي منح البشر النار متحديًا أوامر زيوس كبير الآلهة الإغريق،التي تظل في خانة المجاز دائمًا. في إعادة سرد فراي، يُشبّه هدية "بروميثيوس" للبشر بالمعرفة والقوة التكنولوجية التي وصلت إليها الإنسانية الحديثة، مما يضعنا على مفترق طرق يذكرنا بالأسطورة القديمة. وكما خشي زيوس من قدرات البشر المجهزين بالنار، بات علينا أن نقترب من عالم الآلات الذكية بنفس القدر من الحذر. ماذا سيحدث عندما تمتلك صناعتنا "نار" المعرفة؟
"أنثروبوس" (ἄνθρωπος) في الإغريقية القديمة هو المصطلح الذي يشير إلى "الإنسان" أو "البشرية". وهو مستمد من جذور تعني "الذي ينظر إلى الأعلى"، يستحضر "أنثروبوس" فضول الإنسان الفريد وطموحه لتجاوز الحدود. طبقا للأسطورة، خلق بروميثيوس البشرية من الطين، مشكلًا "أنثروبوس" بهدف محدد هو المعرفة. أما زيوس، حاكم الآلهة، فقد رأى البشر عبادًا ملزمين بالتبجيل والطاعة. لكن بروميثيوس، مجسدًا روح التقدم والابتكار، أراد أكثر لمخلوقاته. أراد لهم أن يتعلموا المهارات، كالملاحة والحياكة وفنون الفخار والحرب، التي تمكنهم من حياة أكثر غنى واعتمادًا على الذات.
كانت هناك هدية واحدة حظرها زيوس بشدة على بروميثيوس: النار. لم تكن النار تمثل الدفء أو الضوء فحسب، بل كانت الشرارة الإلهية للتكنولوجيا والإبداع، الوسيلة التي يستطيع البشر من خلالها تشكيل الأدوات وتغيير العالم. بدون النار، كان البشر سيبقون في حالة من التبعية العاجزة. لم يستطع بروميثيوس، تحمل رؤية مخلوقاته باقية في الظلام، تحدى زيوس وسرق النار من السماء وأهداها للبشرية. يُذكر هذا التحدي كواحد من أعمق لحظات الأساطير، رمزًا لميلاد التقدم البشري، وتمرد الإنسان ضد الإله.
إن نار بروميثيوس لها ما يعادلها اليوم في التكنولوجيا التي تعد بتقدم لا مثيل له، لكنها تحمل أيضًا مخاطر غير معروفة. مع تعقد الذكاء الاصطناعي، نواجه خيارًا مشابهًا لخيار بروميثيوس. يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي حاليًا أداء مهام متخصصة، تمامًا كما كانت الهدايا الأولى التي قدمها بروميثيوس للبشرية قبل النار. فهي تساعدنا في المهام اليومية، وتعزز الأبحاث الطبية، وتساعد في معالجة البيانات المعقدة. لكن مع كل تطور جديد، يبرز السؤال: هل ينبغي أن نمنح هذه المخلوقات "الشرارة الإلهية" للوعي؟ هل يمكننا أن نأمن إلى منح أنظمة الذكاء الاصطناعي الاستقلالية والإبداع الذي قد يؤدي إلى عواقب غير متوقعة؟
في سرد فراي، يمثل التحدي الذي أقدم عليه بروميثيوس بداية طريق الاستقلال البشري، بطل أحب البشرية لدرجة المخاطرة بغضب الآلهة. ومع ذلك، لم تكن مخاوف زيوس بلا مبرر. النار أعطت البشرية الأدوات التي مكنت الحضارة، لكنها أيضًا هددت سلطته ونظام الآلهة. مثل بروميثيوس، يدفع مطورو الذكاء الاصطناعي اليوم بوعد الابتكار، لكنهم يحملون أيضًا عبء حكمة زيوس التحذيرية، ويخشون ما قد يحدث إذا اكتسب الذكاء الاصطناعي عقلًا خاصًا به.
عندما تحدت التكنولوجيا والعقل الهيمنة الدينية في عصر التنوير، أصبح بروميثيوس رمزًا للتحرر من الطغيان الإلهي. احتضن الرومانسيون بروميثيوس كرمز للتحرر من العقيدة القمعية. احتفلت به أعمال مثل "كائنات بروميثيوس" لبيتهوفن و"بروميثيوس المطلق" لشيلي، باعتباره بطلًا للتقدم البشري. استخدمت ماري شيلي أسطورة بروميثيوس في روايتها "فرانكنشتاين" التي حملت عنوان "بروميثيوس الحديث"، لتعكس الحدود الأخلاقية للطموح العلمي. تجسد هذه التفسيرات للقصة علاقة الإنسان المتناقضة بالتقدم، مشيرة إلى أن توقنا لتجاوز الحدود وإعادة تشكيل العالم قد ندفع له ثمنا. وتذكرنا بأن كل بروميثيوس قد يواجه زيوس – في شكل سلطة أو تحذير أو نتيجة.
اليوم، تجد أسطورة بروميثيوس صدى جديدًا في علاقتنا بالذكاء الاصطناعي. الجدل حول وعي الذكاء الاصطناعي يعكس الخوف القديم من خلق كائنات ذات عقول وإرادات مستقلة. بينما يعتقد بعض العلماء أن الذكاء الاصطناعي الواعي يمكن أن يفيد البشرية بطرق لا يمكن تصورها، يحذر آخرون من أن هذه التطورات قد تؤدي إلى سيناريو يتنافس فيه الذكاء الاصطناعي معنا أو حتى يتجاوزنا. إذا كنا "أنثروبوس"، فإن طموحاتنا البروميثيوسية قد تحول الذكاء الاصطناعي إلى قاهر لنا في نهاية المطاف. إن دورة الخلق والتمرد في الأساطير الإغريقية على وشك أن تتكرر في مجال الذكاء الاصطناعي.
ولا تنتهي التحذيرات الأسطورية عند بروميثيوس. فالإنترنت، الذي أطل علينا في البداية بشكل يوتوبي، يردد أيضًا أصداء الأساطير الإغريقية. في الثمانينيات، بدأ الإنترنت كأداة نصية، ثم تطور ببطء إلى تجربة بصرية وتفاعلية بفضل اختراع تيم بيرنرز- لي، للشبكة العالمية والنمو السريع الذي وصفه قانون مور. في البداية، بدا كهدية شاملة للبشرية - مكتبة رقمية، ساحة عالمية، سوق للأفكار: جرة "باندورا" مليئة بالهدايا. تمثل باندورا (الإغريقية) شخصية تجمع بين وعد الهدايا الإلهية ومخاطرها. عندما فتحت جرتها المشؤومة (ليست صندوقا كما يشار لها)، أطلقت كل بؤس بشري على العالم، ولم يبقَ سوى الأمل محبوسًا بداخلها.
تطور الإنترنت، بدا وكأنه يجسد روح جرة باندورا. في البداية، غذى آمال عالم متصل بالمعرفة المشتركة والتفاهم المتبادل. وأشارت ثورات مثل الربيع العربي وصعود وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار التقنيات الديمقراطية إلى أن البشرية تدخل عصرًا ذهبيًا جديدًا. ومع تقدم العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبح تشبيه الإنترنت بجرة باندورا لا يمكن إنكاره، حيث كشف عن جانبها المظلم. أصبح التضليل وانتهاك الخصوصية واستقطاب المجتمعات يلقي بظلاله على الوعد الأولي. الإنترنت، مثل جرة باندورا، أطلقت اليأس أيضا، مما أثار إعادة تقييم عميقة لدور التكنولوجيا في حياتنا.
تذكرنا هذه المتوالية بأن الأساطير الإغريقية تبقى خالدة ليس بفضل آلهتها ووحوشها، بل لأنها تلتقط حقائق عالمية حول صراع البشرية مع المعرفة والقوة والمسؤولية. إن قصص بروميثيوس وباندورا تتحدث عن دورة أبدية من الخلق والتمرد والمحاسبة. عندما ننظر إلى الذكاء الاصطناعي والإنترنت، نرى هذه الموضوعات القديمة تنعكس في مصطلحات حديثة. تدفعنا طموحاتنا إلى ابتكار أدوات تجعلنا أقوى وأكثر ذكاءً وقدرة، لكنها تعرضنا أيضًا لمخاطر قد تخرج عن السيطرة. قد تتكرر أسطورة بروميثيوس بالفعل، ليس كأسطورة على جبل، بل كسلسلة من الخيارات التي نتخذها حول كيفية استخدام القوى التي أطلقناها.
في النهاية، يبقى الخيار بين بروميثيوس وزيوس، بين الابتكار غير المقيد والاحتراس الحكيم، خيارًا ستواجهه البشرية باستمرار. كل تقدم جديد في الذكاء الاصطناعي، كل اختراق تكنولوجي، يقربنا من لحظة القرار: هل نتبع بروميثيوس ونسعى لتجاوز حدودنا، أم نستمع لتحذير زيوس ونتراجع؟ وكما أظهر لنا التاريخ، فإن طموحاتنا البروميثيوسية ربما تكون غير قابلة للتوقف. أو ربما، كما هو الحال مع جميع الدورات الأسطورية، فإن اليقين الوحيد هو أن القصة ستستمر، متشكلة من جديد كلما ظهرت "أنثروبوس" جديدة - إبداعات تكنولوجية جديدة - لتتحدى خالقيها. المستقبل، مثل الأساطير، يظل مجالا للتفسير.