من المعلوم أن الثقافة والأدب الـفلســطـيـنـيـيْـن قد أســهـما، منذ مطلع القرن العشرين، في إحياء وتجديد أشكال ومضامين الإبداع المكتوب باللغة العربية، وتحضـير الشروط الضرورية لارتـياد رحلة الحداثة التي بدأتـها الأقطار العربية بعد استقلالها عن قيود الاستعمار. وعلى رغـم نكبة 1948، ظلت فلسطين متمسكة بالإبداع للتـعـبـيـر عن مأساتها ونضالاتها. وفي خضم مقاومة الاحتلال الصهيوني، برزتْ أسماء مُـبدعين فلسطينـيين في مجالات شـتـــى أثــروا الإبداع العربي المعاصـر الذي يضـطـلع بالتـعبير عن مطامح الشعـوب في بــناء مجتمعات تـصـون حـرية المواطنين وتـشـيّـد أنظمة ديمقراطية... لأجـل ذلك، لا يُستغـرَب أن يفـوز روائـي فلسطيني سجين، بجائزة "بـوكــر" العربية لسنـة 2024، وهو بـَـاسـِـــم خــنـدقــجي الذي استطاع أن يُـهـرّب من السجن روايته "قــنـاعٌ بـلـوْنِ السماء" الـمـتـمـيزة بشـكلهــا ومـضـمونها.
لُــعـبة الـسرد ورهاناتها:
تتـكون الرواية من ثلاثة أقسام، وسبعة فصول. وخلال الفصـلـيْـن الأوليْـن يَـعمد الكاتبُ إلى إشـراك القارئ في التـعـرف على الشكل الذي ينوي أن يـخصـصه للرواية وطريقة سردها. يـتعـلق الأمر إذن بـ: نور الفلسطيني الذي يـريد أن يكتـب رواية تستـوعبُ مأساة الاحتلال الإسرائيلي التي يعيش فيها هو وأبوه المناضل الخارج من السجن والذي قـرر التوقف عــن النضال بعد خلافه مع أصدقائه في التــنظيم الثوري الذي كان منـتميا إليه...وهو، نور، قرر أن يـناضل مثل صديقه مُراد المعتقل الذي يـمثل بالنسبة له نموذج الشاب الفلسطيني المثقف المُلـتـزم، والذي يتـراسل معه ليخبره عن روايتـه ومـغامرتـه التي أوحتْ إليه بكتابتها. ومن ثـم، يـبدأ نـور في اسـتـحضار نمـاذج روائية قـرأها، ويريد محاكاتها أو معارضتها؛ فـيُبدي إعجابه بـرواية إلياس خـوري:" أولاد الـغـيـتو: اسمي آدم" لأنها كشفت جوانب من أسْـطرة الصهاينة لـمأساتهم وتـغاضيهم عـمـّـا يـرتكبونه في حق الفلـسطيـنـيـين. ويتـوصل نـور إلى ضـرورة تسجيل "بـطاقة صوتية" على هاتفه، خلال كتابته لـروايته، يتحدث فيها عن بعض التفاصيل المتصلة بأسـرته وبـمُراسلاته مع صديقه مـراد السجين. وبعـد سيرورة الـبـحث عن موضوع لـروايته، يـقـرر أن يكـتـبها عن مـريم المـجـدلية ليـكشف جوانبَ تـستّـر عنها الـيهـودُ خلال كتاباتهم عن حياة المجـدلية. والذي شجع "نور" على التمسّـك بهذا الموضوع هو أنـه عندما اشتـرى معطـفاً مُستـعملا من سوق الخـردوات، عثـر في جـيْـبه الداخلي على بطاقة هُــويّة صهـيونية غَـفـل صاحبُ المعطف عنها حـين باعـه. عـندئـذٍ قـرر أن يـنـتـحـل شخصية الشاب الصهيوني صاحب البطاقة الذي يـقــربُ من سـنّه ويسكن في تـلّ أبيب: (الاسم: أور؛ اسم العائلة: شـابيـرا؛ اسم الأب: نيتسان؛ تاريخ الميلاد: 15/8/1985).
هكذا استطاع نور أن يتـقمص شخصية الشاب الصهيوني "أور"، خاصة وأنه يتقن اللغة العبرية ويتـكلمها بـلهجة أشكنازية تُـبـعد عنه كل الشـبهات. في الآن نفسه، قـرَأ نور خبرا عن تـنـظيم معهد أولبرايت للأبحاث الأثــرية، لـموسم التـنقيب الثاني تحت عنوان:” الفـيْـلق الـروماني السـادس بيـن الواقع والأسـطورة" . وَجَــدَ نور أن المشاركة في هذا الموسم لمدة شـهر سـتـفيده في ضبط معلوماتٍ تتـصل بموضوع الرواية التي يـنوي كتابتها. بـادَرَ إلــى تسجيل نفسه مسـتعملا اسم أور، بعد أن زيّــف بـطاقــة هـويـته واتـخذ منها قـنـاعا يخـترق من خلاله جُـدرانَ الحواجـز الصهيونية. على هذا النحو، يكون الفـصل الأول قــد أشــرك القارئ في التـعـرّف على مشروع الـرواية التي ينـوي الشابّ الفلسطيني "نـور" كـتابـتـهـا، من حيـث الشكـل وتـعـدّد طـرائق الـسرد، والـدلالة التاريـخية التي يُـراهِـن على تصحيـحها في حياة مـريم الـمـجــدلية، وصـياغـة أسئلة الحـاضـر الفلسطيني من أجـل تصحيـح أخطاء المـاضي...
في القسم الثاني من الرواية وعنوانه "أور"، أي اسم الإسـرائيلي الذي انتــحـلَ نور بطاقـة هـويتـه لـيتـمكّـن من المشاركة في موسم الـتنـقيـب في معالم الآثار القديمة بـفلسطين، يحكي لنا عن مواجـهة "أيـالا" الصـهيونيـة مع "سـماء" الفلسطينية التي لم يُـغادر أهـلها فلسطــين خلال نــكبة 1948، فظلتْ تُـعـتـبَـر "مواطنة" إسـرائـيلـية. في هذا القسم، يـتـمـيّـز الــسـردُ بـأنه على رغـم استعراض أحـداث تاريخية قـديمة، ظلّ مـرتبطا بـأحداث تجري في حاضر فلــسـطين الـمـأساوي. وفي الآن نفـسه، وجَـدَ "نور/أور" في شخصية "سماء" مـا يُـجـسّـــد نـموذج الـفلسطينـية المـتـعــلقة بـوطنها الـمُــصادَر، والقادرة على مُـجابَهة الاحتلال. لكــن سماء اعـتبرتْ "أور/نور" إسرائيليا مُعاديا لـقضيتها...وفي هذا الفصل أيضا يتوقف الكاتب عـند تفاصيل تاريخية تـتـعلق بـمريم الـمجدلـية، وبالسـرديات الـمُـتـباينة حـول عـلاقــتها المُـلتـبسة بالسـيد المسيح. وفي إحـدى الـبطاقات الصوتية التي يكـتبها "نـور" إلى صديـقـه السجـيـن مُــراد، يحاول أن يُـقنعه بـأهمية كتابة رواية تـستوحي التاريخ القديم وتــدحـضُ الالـتبـاس الموجود في ســرديات بعض الأنـاجيـل الـمُـلـفـقة. ذلك أن "مـراد" يُــفـضـل أن يكتب صديقُه نـور عـن مـا يـعيشه الـفلسـطيـنـيون في حاضرهم المــوشوم بالقـمع والإبــادة. وهذا ما جعل نور يكتب في بطاقته الصوتية مدافعا عن مشروع روايته: " ...أشـعـر الآن أنك سـتـنـتـفــض في وجهي لـتقول لي: ألا يـوجد لـديكَ خـيارات أخـرى يا نور؟ هل ستـقـلدُ الآخر الصهيوني من أجل عـملٍ روائي؟ ما الذي دهـاك؟ كـلاّ يـا مُـراد. اطـمئـن فـأنـا مـا أزال أنا نور، بـيـد أني نـور الـجـوّاني؛ وأمّـا "أور" فهو أور البـّراني. أنا الـباطــن وهـــــو الـظاهـر، الباطن يتجلى والظاهــر يُــحـجَـب" ص 87 ,
في القـسم الثالث: سـماء، تـلـتـقي خــيوط الرواية عـند شـخصية "سماء إسـماعـيـــل" الفلسطينية الإسـرائـيلية التي لـم يُـغادر أهلها بلادهم بـعد نكبة 1948 وظلتْ تـدافــع عـــن وطــنها، كـمــا تجلى من خلال خصوماتها مع "أيالا " الصهيونية، الحاقدة. وهذا ما جعل "نور" يحــسُّ أن مـواقف سـماء وحُججها في الـردّ على "أيالا" جدّ مُـقـنعة، خاصة في موضوع الهولوكوست الذي كثيـرا ما تلجأ إليه دولــة الصهاينة لـتـبـرير اضـــــــطـهاد الـفلسطيـنـيـيـن. لذلك بـادر نور إلى مـكاتبة صديقه مُـراد موضحاً: " لا أعلــم؛ جـل ما أعـلمه الآن هـو أنـني أستـمدّ منها (سماء) الحضـور والجرأة والأمل والـثبات؛ خاصـــة ثـباتـها في مُـقـارعة "أيالا " حول أقدس الـمُـســلمات الـصهيونية الهـولـوكوسـت, يا مُــراد، لقد امتلكتْ سماءُ الجــرأة بالـقـول إنــهـا متــضامنة مع ضحـايـا الـمـحـرقة، لكـن ضـمـــن رؤيـة إنســانية لا صـهيونية؛ إذ هي ضــــد صَـهْــيَـنـة الـهولــوكوست وإحــالــــتـها إلى منظومة أخلاقية تحـمي وتُـشــرّع التطهير العِـرْقي الذي مُـورِسَ بِـحقــنـا في نكبة 1948 ,,," ص 225.
وعـنـد انتـهاء موسم الـتـنـقــيب وانصراف المـشاركيـن، اقتـنعتْ "سماء" بأن "أور" هـــو مجرد قــنـاع يــتـخفّــى تـحته نور الــشــهـدي الفــلسـطيني، وقبـلتْ أن تأخــــذه مــعها في سيارتها، بينما هو يمــزق هــوية أور الإسـرائـيلية ويُــردد "أنــتِ هُــويـتي ومــآلي".
إن ما يُمــيـز رواية "قــناع بِـلـوْن السـماء"، هـو الشـكل الـسردي الـمــتـعدد الخـيـــوط والمصادر، وتـجاوُر الأصوات واللــغات، وربـط أسـئـلة الماضي بالـحاضــر الفـــلسطيـني وتـطــلـعاته إلى اســتعادة الأرض والــهُـوية. ولا شك أن هـــــــذا الـتــعدد في الأصــوات ووجهات التنظـر قـد أتــاح الإلــمام بالمأساة الـفلـسـطينيـة من منــظـور يُــلامس الجوانب الـمـُــتشــابكة، ويُـتـيح لكاتب فـلسطيني شاب أن يُـعبـر عـن وعي مُـتــعدد الـزوايا والأسئلة من خلال "لـعبـة الأقــنعة".