يؤسس الإعلام العربي بشقيه المرئي والرقمي- بعد خروج الصحافة الورقية من السباق- لحالة غير مسبوقة من الانقسام في الوعي الجماهيري من خلال تغطيته للحرب الإسرائيلية على غزة التي امتدت لتشمل الضفة الغربية ومن ثم لبنان. فالحاصل أن الفاعلين/ القادة وراء هذا الإعلام، أو المحرضين بتعبير عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون صاحب "سيكولوجية الجماهير"، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات، يقدمون رسائل متناقضة تتجاذب جماهير نصف واعية، فتتقبلها طائعة منقادة، وتتحمس لها بما يفوق ما ابتغاه المحرض أحيانا. ولأن الرسالة ليست واحدة ولا تقتصر كما هو مفروض إعلاميا على الخبر والحقائق، أصبح الموقف من قضية مركزية في التاريخ العربي الحديث، وهي القضية الفلسطينية، مجرد وجهة نظر. وانقسم الإعلام الإخباري العربي بين فريقين: الشامتين والمبشرٌين، وكلاهما يسعى لترسيخ رسالته لدى الجماهير بحماسة تفتقد كثيرا من المهنية.
وأنت تشاهد القنوات العربية، بوسعك بكبسة زر واحدة أن تنتقل من معسكر لنقيضه، وبوسعك أيضا وأنت تعبث بهاتفك الذكي على مواقع التواصل الاجتماعي أن تقرأ وتشاهد رسائل محمومة في إلحاحها على مصداقية التحليل والرؤية التي تسوّق لها (من بينها حسابات ناطقة بالعربية تقف وراءها مؤسسات إسرائيلية). والحاصل أن الروايتين تتناقضان إلى حد بعيد حين تسوغان أمورا بعيدة عن الحدث وإنما لتسويق رؤية لا تخلو من أهداف غير معلنة للجمهور المتحمس. بوسعك أن تتابع إعلاما شامتا في المقاومة، كل المقاومة، يراها مجرد أذرع غريبة، تنفذ أجندة لا تخدم العرب ولا القضية الفلسطينية، وكأن المقاومة والقضية برمتها ولدت في السابع من أكتوبر. وبوسعك أيضا أن تتابع إعلام المبشرين الذين يبالغون في قدرات المقاومة ويشحنون الشارع العربي بآمال غير واقعية وغير مطلوبة من قبيل أن المقاومة ستهزم إسرائيل حتما، في معركة يعرفون قبل الجماهير أنها لم ولن تكون متكافئة لأسباب كثيرة.
صحيح، يٌحسب للقنوات الفضائية العربية أنها هي الوحيدة بين نظيراتها العالمية التي لها مراسلون على الأرض من أهل غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان بعد أن منعت إسرائيل كل الإعلام الدولي من تغطية الحرب إذا لم يرافق جيشها. وقد كان حريا بهذه المنافذ العربية والحال هكذا، أن تتوحد رواياتها ومواقفها، فلا تأويل مطلوبا عند رؤية أحياء ومستشفيات ومدارس تُقصف ومدنيون أطفال، ونساء، وشيوخ يُقتلون كل دقيقة بآلة حرب لا ترحم. ربما فعلت القنوات ذلك بالفعل وهي تروي تطورات الخبر، وبعضها دفع ثمنا فادحا من أرواح صحافييه، ويا ليتها توقفت عند ذلك، لكنها استتبعت ما هو خبري بما هو تحليلي وبلغة منحازة لا تنتمي لعالم الخبر بصلة، فطغى الأيديولوجي على الإبيستمولوجي كما يقول العلماء، وهنا مكمن الاستقطاب بين منابر الشامتين ومنابر المبشرين.
ولأن حرب غزة حدث تاريخي بمقاييس هجوم حماس وبشاعة الانتقام الإسرائيلي وتداعياته على شعب يقبع تحت حصار بحري وجوي وبري لسنوات طويلة، فقد استدعت مع استمراريتها ظاهرة إعلامية جديدة- في التليفزيونات والسوشيال ميديا- هي مهنة "المحلل العسكري" وأحيانا السياسي، وهي وظيفة من مسماها يجب أن تكون قراءة لما يحدث بناء على الحقائق مع قليل من الاستشراف يعززه نوع من التخصص. لكن ذلك لم يحدث، فالمحللون في معسكر الشامتين يرسمون صورة سوداوية وانهزامية بدعوى الواقعية، أما المبشرون فستكون الصورة لديهم انتصارية بدعوى شحذ الهمم. من يشمتون في المقاومة يكرسون لخطاب طائفي هو أقرب للأدبيات الصهيونية، لا لشيء سوى لتصفية حسابات قديمة مع هذا الفريق المقاوم أو ذاك، لأنه شق الصف وخرج عن الطوع، وكأن الصف العربي قبل أحداث غزة كان بنيانا مرصوصا، ومن يمجدون المقاومة يؤكدون ان الفئة القليلة المحاصرة المجّوعة سوف تنتصر عسكريا على قوة إسرائيل الشرسة التي لا يمر شهر دون حصولها على دعم عسكري أمريكي ومن معظم العواصم الغربية.
هكذا صارت إطلالة رجال دين معممين على محطات فضائية مطالبين بالاستسلام لإسرائيل دون قيد أو شرط أمرا مستساغا، وصارت دعوة شيخ مجهول يطالب بطاعة "ولي الأمر" نتنياهو بعدما غلب، منشورا على صفحات السوشيال ميديا يتداوله عشرات الآلاف، صار عاديا أيضا أن يشمت عديدون في مقتل زعيم حماس لأنه تحالف مع الايرانيين، " الذين غدروا به" كما تروج بعض المنابر. لكن ظلم المقاومة والمقاومين في الميديا لم يتوقف عند منتقديهم، الذين فعلوا بسوء نية، لكنه امتد الى أنصار المقاومة وبحسن نية هذه المرة. فهؤلاء لا يقصرون قيمة ما فعلته المقاومة على "رمزيته" لشعب محاصر، لكنهم يدشنون التعليقات والتأكيدات بأن المقاومة ستنتصر، والجماهير المتعطشة لبصيص أمل تشتهي ذلك.و فات الخبراء المحللون في ذلك الفريق التأكيد على أمر واحد، أن انتصار أي مقاومة يتمثل في بقائها وليس تحطيم عدو أكبر منها بمئات المرات. وهنا كان ملحوظا منذ بداية الحرب اعتماد الإعلام العربي على "إعادة تدوير" ما تطلقه الميديا الغربية والإسرائيلية من تقديرات مبالغ فيها لحجم المقاومة لتبرير الوحشية في ضربها. فعندما ضخمت إسرائيل والإعلام الغربي من أنفاق حماس وتسليحها، تكررت العبارة آلاف المرات على ألسنة "المحللين" العرب والأمر ذاته يحدث مع عبارة أن حزب الله يمتلك مئتي ألف صاروخ التي تتكرر وتتكرر ليلا ونهارا دون أن يسأل محلل أو إعلامي نفسه ما مدى مصداقيتها، وكيف لحركات محاصرة ومستهدفة على سنين طويلة أن تمتلك سلاحا يناهز الجيش رقم 18 عالميا.
ماذا تغير؟
يتساءل كثيرون عن أسباب الاستقطاب في الميديا العربية والذي تجذر بدوره في عقول جماهير لا تجد من يرشدها سوى "المحللين" و "المؤثرين"، فيقدمون الخلاف الطائفي متمثلا في دعم إيران "الشيعية" للمقاومة السنية وفرض أجندتها عليها. لكن تفنيد هذ الادعاء أمر سهل، فالحقيقة أن هذه ليست المواجهة الأولى بين إسرائيل وفصائل المقاومة المدعومة من إيران، والحقيقة أيضا أن "شيعية" إيران وحزب الله ليست مفاجأة ولا وليدة اليوم. ربما تكون العودة إلى الوراء قليلا كاشفة لأسباب الاستقطاب الذي أراه مفتعلا ومقصودا. فمنذ عام 2006 شنت إسرائيل حملات يمكن أن توصف بالحروب على قطاع غزة سبع مرات على الأقل، في كل تلك الحروب كان ثمة إجماع في الإعلام العربي ولدى الجماهير المتلقية لرسالته بأحقية المقاومة ومظلومية غزة بسبب مماطلة أو رفض إسرائيل في السعي لحل الدولتين. وفي كل هذه الحروب لم تأخذ حماس رأي العواصم العربية فيما فعلت أو ستفعل، لكن حتى تلك العواصم التي لم يرقها ما تفعل حماس وجماهيرها لم تتنصل من القضية الفلسطينية. فماذا تغير؟
ضمن أمور سلبية كثيرة في نقد الميديا العربية هو "استلابها" للدور الذي كان يتعين على الشارع وطليعته الواعية أن يقوم به أو الإلحاح على توجيه الشارع في مسار سياسي لا يرتبط بالإعلام. والملاحظ في كل تلك الكوارث التي تحدث في المنطقة العربية منذ عام، سواء كانت بسبب حماس أم إسرائيل، أن الشارع العربي لم يتحرك سلبا أو إيجابا بينما اهتزت العواصم في الغرب المؤيد لإسرائيل تحت وقع مظاهرات الشوارع والجامعات. كانت التقسيمة واضحة، الإعلام الرسمي يتبوأ موقع الدفاع عن الفلسطينيين ومهاجمة إسرائيل، ليؤكد أننا "ما قصرنا" ويستوعب غضب الجمهور الجالس في بيته وهو يرى أنه مهما قال فلن يقول أكثر من ذلك. أما الإعلام العربي الشامل Pan- Arab Media فقد انقسم كما أسلفت- حسب الرؤية السياسية للعواصم أو بإيحاء منها- وانعكس انقسامه على الشارع الذي يبحث عن زعيم أو مثال يقدم له خطابا مقنعا، بدلا من أن يدركه بذاته.
ينسحب التقييم نفسه على السوشيال ميديا، أو وسائل التواصل الاجتماعي، التي استبشرت دوائر فكرية كثيرة بدورها في تحرير المجتمعات وتقديم خطاب مغاير لخطاب المؤسسات الإعلامية الكبرى التي تحتكر التمويل، والأنظمة القمعية المسيطرة على إعلامها، وهو تفاؤل شاع كثيرا بسبب دور هذه الوسائط في انتفاضات الربيع العربي والثورة البرتقالية في أوكرانيا. لكن السنوات الأخيرة شهدت تحول تلك الوسائط نفسها إلى ساحة مفتوحة للتضليل الإعلامي وإعادة إنتاج نموذج المؤثر/الإعلامي المسيطر. لا مساواة في السوشيال ميديا كما يعتقد البعض، فنجوم الإعلام التقليدي هم نجوم بالضرورة على السوشيال ميديا وما يقولونه هناك سيقولونه هنا، وسيروجون لنفس وجهات النظر التي يتلقون رواتبهم بفضلها أو التي تتناسب مع الدعم الإعلاني. أما الحجب والمنع في حالة الحرب الراهنة فكان امرا شائعا طال مستخدمين كثيرين ضمن سياسات تضييق فرضتها مواقع السوشيال ميديا الكبرى. بالنسبة للجماهير العربية، أصبحت السوشيال ميديا "فشة خلق" لأن الفرد حسب علماء النفس ومن بينهم "لوبون" أكثر شجاعة عندما يتوحد مع مشابهيه، ولأن الفرد أيضا في عصر الإنترنت، أكثر شجاعة خلف الشاشات. هكذا ستجد أفواها مفتوحة على هذه الوسائط العربية وهي تجاهر بالطائفية والنعرات الوطنية، وكراهية الآخر الذي، حتى لو لم يقاسمه المذهب فهو يقاسمه الدين أو القومية أو الانتماء إلى بلد واحد. وهكذا أصبح كل "مؤثر" على تلك الوسائط زعيما يقود أتباعا يقتفون آراءه بعدما أصبح مصدرهم الموثوق للمعلومة والتحليل.
تحولات المشهد الإعلامي
يقترب عمر القنوات الإخبارية العربية من ثلاثة عقود وهي بذلك متأخرة نسبيا عن نظيرتها عالميا، لكنها تمكنت من إحداث تغييرات في المشهد الإعلامي العالمي، في مقدمته تقديمها خطاب يعبر عن واقع المنطقة وجمهورها الذي ظل لعقود طويلة فاقدا الثقة في إعلامه الرسمي، وأهمها كسر الاحتكار الغربي للميديا في مناطق كثيرة منها الشرق الأوسط والجنوب العالمي. تجلى ذلك بوضوح في تغطية تلك القنوات للغزو الأمريكي لأفغانستان 2001والعراق 2003 وحرب يوليو تموز بين إسرائيل وحزب الله في 2006. قبل وفود القنوات الإخبارية العربية، كانت محطات التلفزة العربية- إلا قليلا- مملوكة للدولة والأخبار فيها لم تكن على مدار الساعة، ولا يوجد شيء اسمه الشريط الإخباري، وإنما في مواقيت مضبوطة، وجهاز الدولة الإعلامي هو الذي يسمح ويمنع. هكذا انتقل الفضاء الإخباري العربي من المراقبة التامة والعطش إلى الأخبار إلى "التحرر" والغرق في الأخبار.
لكن هذا التحرر لم يعن "الحيادية" وكأن هذه القنوات كانت في انتظار اختبار جدي لمصداقيتها، وتجلى الاختبار في أحداث كبيرة مثل انتفاضات الربيع العربي، والحرب في اليمن وأخيرا الحرب الإسرائيلية الراهنة على غزة. لكن طوال السنوات التي سبقت "طوفان الأقصى" لم يكن الموقف من القضية الفلسطينية موضع تأويل أو اختبار في الإعلام العربي كما كان بين الأنظمة السياسية. وهو ما يطرح سؤالا دون إجابة حاسمة، من الذي تغير هل هو الإعلام بتوجهاته وتوجيهاته؟ ام الجمهور الذي هو مجرد متلقي لما يأتيه عبر الشاشات والهواتف؟ لقد سمح الإعلام الفضائي غير الرسمي للعواصم العربية أن تضع مسافة بين محتواه وسياساتها المعلنة، فلن تجد عاصمة تقر بأن ما تقوله قناة إخبارية يعبر عن موقفها الرسمي كما لن تجد مؤثرا على السوشيال ميديا يعلن ارتباطه بأجهزة رسمية، والنتيجة حالة من التخبط والانقسام في وقت كان يتعين فيه على الإعلام الإخباري أن يقدم الوقائع دون تهوين أو تهويل، حتى لا تتحول فلسطين من قضية شعب تحت الاحتلال إلى ساحة تجاذبات إعلامية وجماهيرية.
ٍ