باقترابها من استئصال حزب الله من جنوب لبنان تكون إسرائيل قد حققت أهم نصر حربي لها منذ 1967. ومنذ إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. لقد اغتالت قادة حزب الله واحداً واحداً، ومستشاري الأمين العام للحزب بأكملهم وحوالي أربعة آلاف عضو في دقيقة واحدة، وتوجت هذا المحو المحكم بقتل زعيم الحزب وأمينه العام حسن نصر الله ، بعد أن اغتالت في طهران رئيس منظمة حماس، اسماعيل هنية.
يمكن الآن لنتانياهو أن يتباهى بأنه بعد سحق غزة وعزل إيران وإهانتها، قد غسل عار يوم السابع من أكتوبر 2023. إذا كان هناك من لا يزال يشك في تفوق إسرائيل، أو في شراستها وقسوتها أوفي تحكمها في رقاب الأقوياء قبل الضعفاء، فما عليه إلا أن يتخلص من هاتفه الذكي في أقرب وقت،لأننا جميعاً متشككين وغاضبين ومنكسرين، نوجد حتما عـرايا في حواسيب إسرائيل ، ومن الجائز أن تفجرنا واحداً بعد الآخر، ليس لأن لنا قذائف سنهدد بها أمن "المستوطنين الأبرياء " ولكن فقط لأن لنا مشاعر مُعادية للكيان الصهيوني، كأن نكون مـع وجود فلسطين، أو ضد التطبيع، أو ضد الاحتلال، أو مع المقاومة، ولو بقلوبنا فقط. استعراض القوة، والتفوق، والقسوة، هي الممارسة الأكثر بداهة وشيوعاً في الحركات الفاشية، والصهيونية ضمنها، إنها تفتك بك، ليس فقط عندما تكون قوياً وقادراً على رد الصاع صَاعيْن، بل كذلك عندما تكون هشاً، ومنهاراً، ومحاصراً من كل حدب وصوب، وعاجزاً عن الرد، وعاجزاً عن الانتقام، ومخذولاً من أهلك، ومٌتكالباً عليك من الأعداء. في وضع كهذا لا يثلج صدر الفاشيست شيء أكثر من الإجهاز على الضحية والتمثيل بها. "البلاغة " وحدها، وهي المعجزة العربية الوحيدة التي ما تزال على قيد الحياة، هي التي يمكن أن تجعلنا نبتلع "انتصارية " إسرائيل وتفاخر الغرب بإنجازها العظيم ، كما فعلنا بعد هزيمة 1967.
ولا بأس أن نعيش بعد ذلك سبعين سنة أخرى من عسر الهضم، لكن مهما كانت قوة البلاغة التي سنستعملها للتسويغ والتبرير والتهوين، لا مناص من مواجهة الذات بما يلزم من نقد وثبات على المقاومة. كثيرة هي المحاولات التي ستسارع إلى إلباس الضحية لباس الجلاد، وعلى لوم القتيل على استفزازه للقاتل، لكن يجب أن لا ننسى أن ما نعيشه اليوم لم يبدأ يوم السابع من أكتوبر الماضي، إن عصابة الصهاينة التي اضطلعت بالمهمة الإرهابية المؤسسة للكيان الغاصب، قد انطلقت يوم 10 مارس 1948 بمخطط تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وهدم القرى والمدن الفلسطينية وحرق الحقول والبساتين، إن هذا الإرهاب المؤسس للكيان الصهيوني حصد في الستة أشهر الأولى بعد انطلاقه ثمانمائة ألف من المهجرين أي نصف سكان فلسطين آنذاك،وهدم 531 قرية ،لقد كانت تلك الحملة تطهيراً عرقياً واضحاً، أي جريمة ضد الإنسانية. وماذا تفعل إسرائيل اليوم؟ إنها تواصل فقط ارتكاب فصول جديدة من هذه الجريمة، ولن تفعل أي شيء آخر لأنها مؤسسة على هذه الصيغة الإجرامية وبقاؤها مرتبط باستمرار الخاصية الجينية التي ولدت بها. ولذلك ليست هناك صيغة للتعايش أو للتصالح أو للتطبيع إلا أن تراجع إسرائيل طبيعتها الإرهابية، وتبحث عن سبيل آخر غير الإبادة والتهجير لتتعامل به مع أصحاب الأرض الشرعيين. لقد انتقمت إسرائيل من دفاع الضحية عن نفسها بأن سمحت لجيشها بإبادة أزيد من ربع سكان غزة وماذا الآن بعد كل هذا القتل والتدمير ماذا بعد استعراض القوة والجبروت؟ ماذا ستفعل إسرائيل بعد كل هذا؟
يعرف العسكريون أن النصر في أية حرب لا يحسب بعدد القتلى والمساحات المُدمّرة، بل بالمواقع الترابية التي ربحها المنتصرون، وبالأفق السياسي الذي سيمسحون به ويلات الحرب. وإسرائيل حتى الآن لا تقبل حتى بمجرد التفكير في أفق سياسي، ولم تربح تراباً جديداً. لذلك لا تملك إلا وصفتها الأصلية، مزيداً من القتل والتهجير، ومزيداً من التوسع الاستيطاني، وليس مستبعدا أن تكون الحرب قد رسخت قناعتها بأن السلام الوحيد الممكن هو أن تضيف إلى جغرافيتها المغتصبة مساحات جديدة باسم الأمن الاستراتيجي لإسرائيل، أو باسم وعود نصوصها المقدس لا شيء يمنعها من العودة إلى فكرة التوسع التي أنبنى عليها الكيان الصهيوني، فتمد أقدامها الثقيلة إلى لبنان، أو إلى الضفة الغربية، أو إلى سيناء، أو إلى سوريا، أو إلى الأردن. ألا تعشش فكرة المقاومة في هذه الجيوب التي تمردت على خريطة إسرائيل الكبرى، ألا يأتي تهديد إسرائيل دائماً التراب الذي سمحت ببقائه خارج قبضتها؟؟
قديماً كنا نرد في المغرب على الذين يتهموننا بـ"التعصب القومي" لأننا نعتبر قضية فلسطين قضية مركزية في مشروع تحررنا الوطني، بأن الأمر لا يتعلق بمساندة عرقية، بل باختيار فكري ووطني. فأغلب الذين ذهبوا منّا الى المخيمات الفلسطينية و انخرطوا في الكفاح الفلسطيني المسلح أمازيغيون ليست لهم أية أواصر عرقية مع كثير من العرب الأقحاح، ولكن فلسطين كانت في تضحيات أبنائها ، وفي عزة قادتها، وفي أصوات شعرائها، وفي إبداع مقاومتها ، أجنحة من لا أجنحة له .. ونحن كنا تحت تأثير خيبات استقلالاتنا، وتسلط حكامنا، شعوباً مقصوصة الأجنحة .وكنا نحدس بالفطرة، أن ما تريده اسرائيل والغرب الذي صنعها ليس "وطناً يهودياً "، بل مجالا استراتيجياً أوسع بكثير من الأسطورة، يصبح في إطار بناء القوة القاهرة ، مختبراً لخلق هيمنة عسكرية وتكنولوجية قاهرة تحلق مِن الخليج الى المحيط، ولا تسمح بانبثاق أية قوة أخرى غير اسرائيل، على ضفاف البحر الأبيض المتوسط.إنه شعور بأن المشروع الصهيوني أضخم بكثير من الاستعمار المباشر لفلسطين، إنه مشروع بناء قوة كبرى من الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا، قوة ترضخ هذا المجال بكل مكوناته للآلة الشرسة التي سماها بايدن "الذراع العسكرية لأمريكا في البحر الأبيض المتوسط".
وبهذا المعني أيضا فإن وزير الدفاع الإسرائيلي على حق عندما يقول وهو يقصف اليمن إنه لا يوجد مكان بعيد عن إسرائيل يكفي أن يكون في تلك الخريطة الكبرى التي يحلم بها. هكذا أصبحت لنا جميعاً حدود مباشرة مع فلسطين ، وجدانياً،لأننا لا نستطيع أن نتوجه إلى صؤب دون أن نجد فلسطين بيننا وبينه،وسياسياً لأن الحدود الآمنة لإسرائيل لا تقف عند حد. منذ 1948 اندمجت فلسطين في حياتنا الوطنية، اندمجت في نسيجنا السياسي والثقافي والإعلامي، ساهمت في تشكيل فكرتنا عن أنفسنا وعن الآخرين، شاركت في انبثاق حداثتنا الفكرية والإبداعية وشحذت إدراكنا بارتباط استقلالنا الوطني بتحقيق العدالة في هذه القضية بالذات، لأن استمرار استعمار فلسطين يعني إصرار الغرب على مصادرة حريتنا واستقلالنا جميعاً، ومصادرة حقنا في سلام يؤهلنا لمواجهة أعطابنا القديمة و الحديثة.
بعد اتفاقية أوسلو حصل شيء رهيب لعلاقتنا مع فلسطين، فقد انسحبت من حياتنا تدريجياً ، بالقدر الذّي تحول به السلام إلى مسخرة ، والدولة الفلسطينية الى أكذوبة ،.ظل بعض الصامدين يقفون من حين لآخر في شوارع المدن المغربية لاستنكار الجرائم الصهيونية ، او لنصرة المقاومة. ولكن تناقص الصبيب الرمزي للقضية لم يفتأ يتفاقم، والاشتغال الذاتي والأجنبي على تجفيف النبع لم يفتأ يتعاظم ، حتى بدأنا نسمع من لا يتورع على الزعم بأن الحدود التي كانت مع فلسطين قد أصبحت حدوداً مباشرة مع اسرائيل.
لقد تساءل البعض منا مراراً، لماذا نكلف أنفسنا عناء " قضية بعيدة "،لماذا نثقل كاهلنا " بالتزام قومي" في منطقة لم يكتف " الأشقاء " فيها بخذلان الفلسطينيين ، بل ولغوا في دمائهم بالطول والعرض ؟ ولكن هذ التساؤل لم يبعد فلسطين من جغرافيتنا شبراً وحداً ، وظل المغاربة يخرجون بمآت الآلاف للتعبير عن كون الجغرافية ليست تراباً ومقصاً ، بل تاريخاً ومالاً و أحلاماً . لذلك كان "طوفان الأقصى" صدمة كبيرة في حياتنا السياسية وفي مشاعرنا الوطنية، ليس لأنه حطم أسطورة التفوق الإسرائيلي ، أو كال للكيان الغاصب هزيمة مذلة ، فتلك اندفاعات بلاغية لم تصمد طويلا أمام قسوة الواقع، ولكن فقط لأن الإنسان هنا ، وفي كل مكان من العالم قد أحس فجأة بأن المقاومة ممكنة ، وليست في عداد القيم المنقرضة، وأحس على الخصوص بإعادة ربط شرايين العالم ، بقضية تنبض لها ضمائر الناس ، في شوارع المدن المغربية كما في شوارع مدن كل القارات ، وكل جامعات العالم ، وكل المحافل والتظاهرات، عنواناً جديداً لمقاومة القهر بكل أشكاله، استعمارًا غاصباً ، واقتصادا عالمياً متوحشاً ،وعلاقات دولية فاسدة. نعم لقد أعاد 7 أكتوبر فلسطين للضمير العالمي ، ليس فقط كقضية تحرر وطني ، ولكن بالأساس كانتفاضة ضد صمم العالم. وهذا البعد الكوني للقضية،سيكون حاسماً في مصير المقاومة لأنه سيوفر للفلسطينيين رصيداً عظيماً من دعم الديمقراطيات الكبرى في كل أنحاء العالم، ولأنه سيحررهم عميقاً من محيطهم البائس.
من الصعب أن لا نرى في ما حصل في غزة، وفي جنوب لبنان، وما سيحصل قريباً في غيرهما ملامح نكبة عظيمة تحل بنا مرة أخرى، من الصعب أن نديروجوهنا حتى لا نرى الدمار الظاهر والباطن، وألا نرى الجثث التي تتفسخ في الأموات والأحياء، من الصعب أن لا نغضب ولا نخجل ولا نتألم، لكن لا بد أن تكون لنا الشجاعة لنتألم بكرامة ، ونيأس بكرامة. فالأفق المظلم ليس أفقنا ، إنه أفق الوحش الذي خلقه الغرب فأصبح أكبر منه، إنه أفق المنتظم الدولي الذي لم يعد ملاذاً لأحد ولم يعد طريقاً نحو المستقبل وبالرغم من قسوة مـا جرى ، فإن خزّان الآلام البشرية الذي اسمه فلسطين ، هو الذي سيعيد تركيب الأشلاء وليس أية قوة عسكرية مهما بلغت شراستها. من السهل على إسرائيل أن تتصور خريطة واحدة لهذه الأرض بعد توقف المجزرة، هي خريطة البلاد التي غسلتها القذائف من الشوائب الخطيرة، غير أن الشائبة الخطيرة لا توجد في غزة ولا في جنوب لبنان ، ولا حتى في ايران التي تخاف على نظامها أكثر مما تخاف على فلسطين، إنها توجد فقط في قلب إسرائيل خطراً سيهدد إسرائيل نفسها ، في وجودها وفي جوهرها عندما لن يعود هناك أحد تهدده القوة القاهرة.