شاهدنا ذلك الولد مرتبكيْن لا نلوي في ذلك الحشد الهائل على العنوان الذي نبحث عنه، عن (سي علي) تحديدا.. فهبّ إلى نجدتنا.. تكلم مع السائق بالأمازيغية وهو يضع إحدى ذراعيه على إطار النافذة الأمامية اليسرى.
أشار باليد الأخرى إلى مكان هدفنا، السيارة وراء الأخرى، وراء الشاحنة، وراء سيارات الإسعاف والمطافئ وعربات جيش تسلق الجبال والتبرعات المتراكمة، إلى اليمين وإلى اليسار، في طريق ضيق مبقور والكل متوقف، أصوات اللهجات واللغات المختلفة ترتفع هنا وهناك.
لا آثر على وجه الولد، الأبيض المحايد ذي العينين الصافيتيْن. بقي هكذا إلى أن باغثته أسئلة السائق إنْ كانت الأمور بخير وإن كانت أسرته على ما يرام.. كنت أنظر أليه وهو يجيب هادئا بأمازيغية واضحة، أنه فقد جدّته وجدّه ووالده وأحد إخوانه، وأنه دفن الجميع يوم السبت.
كانت قامته تبلغ سقف السيارة بالكاد، يضع يديه وأصابعه الصغيرة على مخرج زجاجة باب السائق وهو يتكلم ناظرا إلي بين الحين والآخر. لم أستطع مواصلة متابعة عينيه فولّيت وجهي إلى الناحية الأخرى. قلت في نفسي وأنا شبه غائب: كيف سيحيى هذا الولد بعد كل هذه الرجة الوجودية العنيفة التي خبرتُ في ما مضى شيئا منها مع الموت؟
كيف يمكن لكل هذا الدوّار وبقية المداشر والقرى الذين عبرناهم منذ الفجر أن يتحملوا الآتي من الأيام؟ كنت أسمع أغرب الحكايات في كل دوّار، عن الأحياء والأموات وعنهم، من الأسطح والمنازل والنوافذ والإسمنت والأدوات المنزلية الفقيرة والهشة التي نزلت عليها يد الزلزال قبل أن تمرق في ثلاث دقائق كالبرق المدوّي في قلب الأرض..
كنت أنظر إلى الوجوه مُسَخسَخة منهوكة ضائعة تحت ألْف سؤال وسؤال.. النساء والأطفال والشيوخ من الخيام الصفراء والزرقاء وإليها، المنصوبة على التلال بعيدا عن الخراب واحتمال ضربة أخرى أوجع..
االولد الذي سقطت رأسُه في (دوّار إغْلي) الذي لم يتبق فيه سوى مسجد وسط ركام من الهباء بين الجبال، والذي كان فيه أكبر عدد من الشهداء، وأمثاله من (دوّار ثلاث نْيعقوب)، أعطوني دروسا بليغة في الحياة، فقدوا كل شيء ولا يريدون شيئا مما اقترحناه عليهم، هم الذين جرّبوا أقاصي الموت والبرد والعزلة والألم والجوع وفقر الدم، وتحملوا كل شيء دون آنين أو تشكٍّ كأنهم قُدّوا من صخور..
جئت من بين الذين جاءوا من المدن يسبقهم هولُ ما شاهدوا في كل قنوات العالم وهم يتخيلون ويفترضون صور هؤلاء المنبعثين من دمار ومن أسمال وتراب، جئنا نعزي وبلغة المدن أن ندعمهم نفسيا، وكم كانت خيبتنا هائلة عندما سكّنوا هم من روْعنا وطمأنوا أفئدتنا.. لأن الذين عبروا الموتَ مثلهم وعادوا منه، لا يعودون كما كانوا، يعودون برؤى مغايرة للحياة والعالم والأشياء، أكثر صفاء وإنسانية.. يشكرونك على أدب العزاء: الحمد لله.. الله يرحم والديكم.
هؤلاء البسطاء، المعوِزون، هم في الأصل حرّاس القيم الإنسانية النبيلة، الأصل الذي لا يحيل لونُه مع الأيام، كما تحدث عن ذلك المختار السوسي في مؤلّفه المعسول.. جئنا لنعزيهم فوجدْنا أن صبرهم فاق صبرنا، الصبر الذي يُنْحَت على مدار الساعة والسنين، يتخثَّر في العمق من قشٍّ وعيدانٍ وحصى فيصير حمأ يحمون به أنفسهم من المرض وصروف الزمان..
ولأنهم كالصخور والأشجار الضاربة في الأرض، لم يعد شيء يخيفهم، لأنهم لا يملكون شيئا يخشون فقدانه والبكاء عليه.. ينتصرون على مصائب الدهر بالسخرية والكرم والدعوة الى اقتسام كأسة شاي وخبز وزيت زيتون كما فعلوا معنا، وهم "يكركرون" بين ما تبقى من الجدران والخيام، دون طمع آو حسابات لأنهم يشعرون بأنهم في قلب الله.
خرجنا في الساعات الأولى من نهار الأربعاء من (دوار آيت بونّيت)، ٢٥ كلم جنوب مراكش، حيث يوجد مرسمي، الذي لم ينج من ضربة الزلزال والليلة البيضاء التي تلتها.. كان يلزم أن أذهب إلى البؤرة التي انطلق منها الزلزال وبقية الأمكنة التي مرّ منها..
لا يمكن لهاته الغمة أن تنفرج وأن يختفي دوار تلك الرجة وأنا تحت أنقاض صور الفيسبوك الحقيقية والكاذبة.. من قرية( العقرب) إلى (تحناوت) المترقبة فـ(مولاي إبراهيم)، (وادي إراضن)، (إمكدال)، (عودال)، (دوار إنادن)، (دوار تاركا)، (الحناين)، (إغري)، (إجوكاك)، (تِنْمَل)، (جماعة إغيل).. البداية والنهاية: الساعة الرابعة ظهرا: اللقاء بالولد: الدخول إلى المدرسة التي لم تعد مدرسة: نهاية الطريق الذي لم يعد طريقا.
كل هذا الطريق، أو ما تبقى منه، نصفه المحاذي للجبل صار أكواما من حجر وتراب وعَفَرٍ ابيضَ جيري متطايرٍ في كل مكان -كأنني في رواية "نجمة أغسطس"-، الجرافات والآلات والشاحنات الضخمة التي توسع الطريق وتلقي بكل هذا إلى الفجاج العميقة، أصوات المحركات والأحجار المتهاوية ومحركات السيارات المغبرّة وصفارات رجال الدرك والشرطة العسكرية والقوات المساعدة والمياه والتجهيز ـ كلهم شباب.
وإنذارات سيارات الإسعاف والأشجار المُجْتثّة من السماء والأطفال الذين انشقّت بهم الأرضُ كالفراش، والأمهات الحارسات. كلّ شيء وكل الأشياء تحت أنقاض القش والحجر والحديد والزليج والبلاستيك وأعواد الكالبْتوس والأبواب المقصوفة الحالمة، والنوافذ المغلقة المفتوحة الآن على المدى: لوحة: معرض: كتابُ رملٍ مفتوحُ.. كل هذا مات شهيدا وهو يبشِر بديانة كونية جديدة..
في كل بيت استوى سقفُه هنا بالأرض، يترجِم أمامك مآلَه إلى عدمٍ، كأن النجومَ صارت بلا قيمةٍ، والسهول تحولتْ إلى ماءٍ مالحٍ.. والوارثُ يحصُل على شيء آخر غير ما ترك له الذين فقدهم.
طالما حييت لن أنسَ صورة ذلك الرجل الخمسيني الجالس وسط بقايا ما لم يكن أصلا، كان شيئا هائما، وجها مُسْودا، صامتا، لحية أسبوع تقريبا، وقميصا أبيض مخطّطا، الياقة وما حولها بُنِّيان بالعرق والتراب والزمان.. الْتقت العين بالعين، خمّن سؤالي فجاء جوابُه في كلمتين: الحمد لله. لو أنني كنت مكانه لاشتهيتُ أن يأكلني النمل لا الدّودُ.
ما الحكمةُ التي يمكن آن يعلمني إياها هذا الرجل البسيط؟ وتلك الجلسة النابعة من الصبر ومن أرواح الأموات التي يحملها ويقتسمها مع الآخرين الذين بقوا على "قيد" حياةٍ وهم يموتون على الهُويْنا، على مِجمر الذاكرة؟
هل سيفهم هذا الرجلُ الحُطامُ ما معنى الحكومةَ، ما معنى الأحزاب، البرلمان، النقابات والأموال التي تُصرف دون جدوى لهؤلاء في شيء غير مفهوم اسمه الانتخابات والتنفيذ والتشريع؟ ما يعرفه الآن هو وأمثاله أنهم يستحقون حياة غير هاته، غير زمن الغياب والعزلة العاصفة، الذي يشبه كابوسا يفضلون عدم الخوض فيه..
أول مرة أسير في هاته الطرق التي سحرتني بأسلوبها الفني الساذج، بلوحاتها وأسئلتها وموادّها! بقيتُ مشدوهًا، صامتًا ومستغرقًا أبحث في ألْواح الوصايا ومجرّاتِ ما خفي عني من معاجز تتعلق بالحياة التي نريدها قاسيةَ الروعةِ ومخيفةَ الجمالِ في لحظتها..
هناك، تنقص سياحةٌ أخرى، أيامٌ أخرى نترك فيها مدنَنا كما تركناها الآن، كي نفجِّر لحظات المحبة، لا الأرض، لا المدارس ولا حيوات الأطفال الناعمة البريئة..
عندما ننبعث كقرية (جِيكورِ) الشاعر العراقي (بدر شاكر السياب)، سنفجر الظلام والكوابيس، وتنبعث العيونُ والعيونُ والعيونُ كما فعلتْ بُعيْد الزلزال وهي ترسم صورتها الشخصية المشرقة بأسلوب فني لم أشهدْه من قبل..
ستعود الطيور، سيكسو الثلج البراري وقممَ الجبال دون بردٍ أو حاجةٍ إلى نار! ستصير لوحةً، لوحاتٍ ومعارضَ وحكاياتٍ إذا استوعبنا حاجيات الناس واحترمنا تقاليدهم وآراءهم وفكرنا في مستقبلهم ومستقبل أبنائهم..
أفياء (جيكور)، أفياء (إغلي)، (قصر ثلاثْ نْيعقوب)، (شيشاوة)، (وِرْغان)، (آسْني)، (تارودانْتْ)، (تِنْمل) ومدرستها العريقة التي بُنيتْ في القرن ١٢ م،( أمزميز) حيث كان يوجد متحف الفنان المغربي (ميلود لبيض - ١٩٣٩ـ ٢٠٠٨)..
"حين عرّيْتُ جُرحي وغطيتُ جرحا سواه/ انتفى السور بيني وبين الإله".. صورةُ انبعاث المغربي من هنا، من الموت والحجر والماء.. سيدفن موتاه وينهض، لم يبق للموت ما يأخذ وسيبقى أجمل ما في الحنين: الكلمات التي تعيِّنُه..
كل الذين تشتتوا في طرق العزاء والإغاثة وذرفوا الدموع، تركوا بلا شك أشياء من أرواحهم وقلوبهم هناك، في تلك الأمكنة الساحرة التي ما كان أن يتعرفوا عليها دون هذه التراجيديا، لأن الآلام كانت تعنيهم وتقول لهم الكثير..
منتصف الليل في مراكش.. كانت ـ مهما افتعلْتَ الفرح ـ ساكنة وحزينة.. نال منك العياء والجوع، تفكر أن هؤلاء الموتى قد انتصروا على الموت لأنهم غيّروا حياتنا وخرائط أرواحنا.. بإمكانك الليلة أن تنام بعد أن رأيت ما كان يجب أن ترى حتى تسكنَ ويسكن فؤادُك وضيقُك، ولو لليلة واحدة..