اشتبك كثيرون، فور الإعلان عن وقف إطلاق النار وبدء هدنة جديدة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية في قطاع غزة، حول الإجابة على سؤال: من انتصر؟ ومن انهزم؟ وشحذ كل طرف إمكاناته في الوصف والتحليل، مستعيدًا الآثار المباشرة المترتبة على حرب ضروس استمرت أربعمائة وسبعين يومًا، خلفت وراءها دمارًا هائلًا ودمًا غزيرًا، وأعادت هندسة بعض المعادلات التي كانت سائدة على مدار عقدين من الزمن تقريبًا. لكن السجال الأهم يجب أن يكون حول المآلات الأبعد لهذه الحرب.
ابتداء فهناك قاعدة راسخة تقول: "المقاومة طالما لم تستسلم فهي لم تنكسر، والجيش النظامي طالما لم يحقق أهدافه المعلنة فهو لم ينتصر." وهنا تنهمر الأسئلة الفرعية: عن أي نصر تتحدث المقاومة في ظل تدمير شبه كامل لقطاع غزة؟ وفي المقابل: عن أي نصر تتحدث إسرائيل وهي اضطرت في النهاية إلى قبول ما كان يمكن أن تحصل عليه قبل شن حرب برية على القطاع؟ وكيف لها أن تغفل الآثار الجارحة التي خلفتها الحرب على صورة جيشها، وعلاقته بالمجتمع، وتعميق الخلاف السياسي والعقدي في صفوف نخبتها؟
في الأيام الأولى لانطلاق "طوفان الأقصى" تحدث نتنياهو عن "حرب وجود" فيما كانت المقاومة تتبني أيضًا تصورًا حديًا مضادًا حول "حرب التحرير"، لكن الأمور لم تنته إلى أي من هذين الخيارين، فلا إسرائيل أجهزت على المقاومة، وطردت الفلسطينيين، وصفت قضيتهم تمامًا، ولا المقاومة تمكنت من تحرير شيء من الأرض المحتلة.
ربما خُلقت الآن معادلة جديدة لردع متبادل، فالكلفة الكبرى للحرب ستجعل الطرفين في قابل السنوات في تحسب وحذر شديدين حيال استسهال شن حرب، لاسيما بعد أن ثبت تغير المعادلات التقليدية عند المقاومة الفلسطينية حول تحمل إسرائيل لحرب طويلة الأمد، وعند إسرائيل حول استحالة إعادة احتلال غزة والبقاء فيها، وبناء مستوطنات هناك.
لا يجب أن ننسى هنا أن السجال حول النصر والهزيمة لا يخلو من أغراض لا علاقة لها بتوصيف ما جرى، أو الوقوف على نتائجه الحقيقية الآن، وفي المستقبل المنظور، وعلى المدى البعيد، إنما هي محض دعايات تتدثر بها أنظمة حكم عربية لا يروق لها انتصار المقاومة، إما اعتراضًا على هويتها السياسية والفكرية وخوفًا منها، أو لحرج بالغ يطال هذه الأنظمة أمام شعوبها حين تكشف المقاومة عجزها عن مواجهة إسرائيل، ووهن تبرير ذلك بخلل في ميزان القوة في ظل الدعم الغربي اللامحدود الذي تتلقاه إسرائيل من الغرب.
نعم قلمت إسرائيل أظافر المقاومة في لبنان وغزة، وسقط نظام بشار الأسد في الطريق، كنتيجة للحرب، وخرجت إيران من سوريا، بينما كان وجودها هناك تراه إسرائيل خطرًا داهمًا عليها، لكن هذا كله قد لا يخرج عن طريقة "جز العشب" التي تتبعها إسرائيل ضد المقاومة، وشنت لهذا من قبل أربع حروب على غزة.
لا ينكر أحد أن الجز هذه المرة كان أكثر عمقًا وتأثيرًا، لكن كل ما جرى من تدمير وقتل ليس بوسعه إنهاء إمكانية إنبات المقاومة من جديد، لأنها لم تخسر مكانها، ولم تفقد الحاضنة الشعبية لها، ولم تتخل عن أهدافها، وأظهرت قدرة على تولي زمام الأمر في قطاع غزة، فور توقف القتال.
قبل شهور طًرح تصور عن هدنة لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين نتنياهو رفضه تمامًا، وها هو قد عاد الآن وقبله، إما بضغط شديد من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد تيقنه من عجز الجيش الإسرائيلي عن تحقيق نصر ساحق، أو لأنه استيأس من إجبار المقاومة الفلسطينية على الاستسلام، لكنه لا يستطيع أن يتجاوز إخفاقه في تحقيق الأهداف الفرعية أو الصغرى، ومنها تخليص الأسرى الإسرائيليين عنوة من يد المقاومة، أو هدفه الكبير وهو "استئصال حماس"، ثم إجبار أهل القطاع على الهجرة القسرية إلى مصر، توطئة لتصفية القضية الفلسطينية برمتها، بعد إخراج أهل الضفة الغربية أيضًا إلى الأردن.
كما ستعاني غزة لسنوات من آثار الحرب المدمرة، ستعاني إسرائيل أيضًا من فقدان "الصورة الناصعة" التي سوقتها للعالم عن نفسها بوصفها دولة ديمقراطية وسط دول تديرها نظم مستبدة، بعد اتهام جيشها بارتكاب "إبادة جماعية" في قطاع غزة. وستعاني إسرائيل كذلك من ارتداد الحرب على داخلها الواقف على حافة الاضطراب الاجتماعي، والذي يصل إلى حد ترديد البعض مصطلح "حرب أهلية" من جديد على ما يتوقعون حدوثه في إسرائيل مستقبلًا.
في المقابل ربح الفلسطينيون معركة الصورة، وهي رغم الدمار والدماء والألم المفرط تعطيها قوة لصالحهم، كما ربحوا إجابة على سؤال تاريخي كان محض افتراء، لكنه ظل يحمل حجية عند من لا يبذل جهدًا في التدقيق والتمحيص ولدى من يتعمد ممارسة دعاية مضادة للحق الفلسطيني، ويدور أساسًا حول اتهام الفلسطينيين بأنهم باعوا أرضهم قبل قيام إسرائيل عام 1948. فقد أثبت شعب غزة أنه مستعد لتقديم تضحية، غير مسبوقة في التاريخ، في سبيل البقاء في المكان.
هل أعاد نتنياهو تشكيل الشرق الأوسط؟
يمكن لنتنياهو، أو حتى من يأتي بعده، ألا يلتفت لمعادلة الخسائر والمكاسب الجزئية والصغرى، ويذهب مباشرة إلى التصور الأكبر، حول إقامة "شرق أوسط جديد" تكون إسرائيل مركزه وقائده، وهو ما تحدث عنه نتنياهو بالفعل عند إعلان وقف إطلاق النار مع المقاومة اللبنانية، وقبيل تمكن الجيش الإسرائيلي من تدمير مقدرات الجيش السوري فور سقوط نظام بشار الأسد، ثم تقدمه لاحتلال أجزاء من سوريا.
اليوم، يمكن أن تدخل دول عربية جديدة في حيز التطبيع مع إسرائيل، بعد توقف الحرب، وتجر دولًا أخرى كانت تصنف ضمن محور الممانعة مثل سوريا ولبنان إلى تفاوض في سبيل خروج الجيش الإسرائيلي من أرضها، ما يفتح الباب أمام توقيع اتفاقيات سلام جديدة، لكن هل هذا يجعل تل أبيب بالضرورة على أبواب حلمها التاريخي بقيادة "شرق أوسط جديد"، أو حتى الوقوف مع دول عربية في مواجهة إيران؟
الإجابة التي تأتي للوهلة الأولى، هي أن بوسع نتنياهو أن يسوق هذا إلى الداخل الإسرائيلي ليخفف من وطأة ما تراه المعارضة هناك إخفاقات شديدة لحكومته في حرب غزة، إلا أنه لا يضمن تحقيق هذا في المستقبل، ليس لأن مستقبله هو كرئيس للوزراء غير مضمون، وأنه سيرحل عاجلًا أم آجلًا، إنما لأن العملية برمتها لا يوجد ما يجعل تحققها حتميًا.
فهذا التصور سبق أن طرحه شيمون بيريز في لحظة انتشاء، وقت أن كان يظن أن الأمور قد دانت لإٍسرائيل. ورغم أنه جعل السبيل إليه ناعمًا، أي عبر العلاقات الاقتصادية والثقافية، فإن هذا لم يتحقق، بل استمرت إسرائيل تشكو من سلام بارد مع الشعب المصري، وفاتر مع أغلب الشعب الأردني، ولم تكف المقاومة الفلسطينية واللبنانية عن المناكفة والمنازعة بما تيسر لها من قوة، ولم تكف إسرائيل عن الاعتداء على الشعب الفلسطيني بما تملكه من قوة مفرطة، بما جعل شبح الحرب يظل قائمًا، حتى في غمرة الحديث عن سلام وتطبيع بين تل أبيب وبعض عواصم الدول العربية.
وحتى الدول العربية المرشح تطبيعها مع إسرئيل في قابل الأيام قد لا تنطوي بالضرورة ضمن تصور نتيناهو عن الشرق الأوسط، فهذه الدول لها مشروعاتها التي تتناقض في بعض الجوانب مع المشروع الإسرائيلي، ولديها طموح يبدو في إدراك قادتها أكبر من أن يجعلوا دولهم مجرد مدماك جديد في البناء الإسرائيلي الافتراضي أو المتوهم عن قيادة الشرق الأوسط.
والآن، هل يمكن أن يحقق نتنياهو عنوة ما أخفق بيريز عن تحقيقه بالتحايل؟
والإجابة التي تأتي للوهلة الأولى أيضًا هي: لا. فالمقاومة الفلسطينية تعمدت بالدم، وتجذرت أكثر وسط الركام، وأتوقع أن تقوى شوكتها في الضفة الغربية. والمقاومة اللبنانية، وإن أصيبت بجرح غائر، فإنها، إن لم تطعن من داخل لبنان، بوسعها أن تتعافى، وهي حتى إن لم تتمكن من استعادة كامل قوتها قريبًا، فهي لا تزال تمتلك من القوة ما يجعل إسرائيل عاجزة عن فعل ما تريد في الساحة اللبنانية، ولو أرادت إسرائيل إبقاء جيشها في شريط حدودي داخل أرض لبنان، فإن هذا سيعطي المقاومة حجية للتصدي من جديد، وقد يجعل اللبنانيين، أو أغلبيتهم الكاسحة، تلتف حولها، لاسيما إن تم تنسيق هذا مع الجيش اللبناني، وبموافقة المؤسسات اللبنانية الرسمية.
على الجانب الآخر فإن إسرائيل لا تنكر مخاوفها ممن تولوا الحكم في دمشق، لاسيما أنها تتوقع أن يبدأ هؤلاء بمطالبة الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من الأرض التي توغل فيها عقب سقوط نظام الأسد، وهنا سيكون أمامها طريقان: إما أن تأخذ أحمد الشرع ومن معه إلي تفاهم قد يكون بداية دخول في تفاوض تأمل إسرائيل أن ينتهي بتوقيع اتفاق سلام، دون تنازلها عن الجولان التي أعلنت ضمها، وإما أن تكون في مواجهة فصائل مسلحة. فحتى لو أعاد حكام سوريا الجدد بناء الجيش فإن خبرتهم ترجح أن يزاوجوا بين حرب نظامية وحرب عصابات ضد إسرائيل إن شرعوا في تحرير أرضهم، لاسيما إن قام ضغط داخلي على الشرع بألا يصمت حيال احتلال جزء جديد من سوريا.
وحتى لو كانت إسرائيل تراهن في بناء تحالف مع دول عربية ضد إيران، فليس هناك ما يمنع طهران من اتخاذ خطوات أوسع في اتجاه تفاهمات واتفاقات من دول عربية خليجية، لاسيما أن دول الخليج تدرك تمامًا، حسبما ظهر من تصرفها وقت تبادل القصف بين إيران وإسرائيل، أن انخراطها مع تل أبيب في مواجهة إيران سيلحق بهم ضررًا هم في غنى عنه، ولا يجدون أي داع له.
من المستجدات أيضًا، أنه لا يمكن لإسرائيل إنكار أن هناك لاعبًا قويًا أظهر رغبته في ممارسة دور إقليمي قوي وهو تركيا، بما قد يدخل أنقرة مباشرة في منافسة إسرائيل على النفوذ، أكثر من أي وقت مضى، ما يعني أن تصور تل أبيب عن قيادة الشرق الأوسط لن يكون عملية منفردة ويسيرة.
يبقى العامل الأهم وهو أن الحرب الأخيرة عمقت الثأر لدى الفلسطينيين، وجعلت فريقًا معتبرًا منهم يؤمن بالكفاح المسلح، وقد تجد تل أبيب نفسها في قابل السنوات لا تواجه "حماس" في غزة وحدها، إنما في الضفة الغربية أيضًا. ومع القدرة الظاهرة للفلسطينيين على الصمود، يبقى "مشروع المقاومة" يشكل تحديًا لتصور إسرائيل عن "شرق أوسطية" ترغب في فرضها عنوة، لكن تظل دومًا مساحات غير مأهولة، بل وعرة، بين الرغبة والقدرة.