ماذا يحدث عندما يموت او يتنحى بابا الفاتيكان ورأس الكنيسة الكاثوليكية فجأة؟
ينطلق فيلم Conclave، الذي من المتوقع ان يحصد الكثير من جوائز الأوسكار هذا العام، من هذا الموقف الافتراضي ليعرض للتغيرات والتحديات التي تواجه الكنيسة الكاثوليكية وهي الكنيسة الأكبر في العالم بأتباعها الذين يتجاوزون المليار و329 مليون نسمة.
عندما يموت البابا يتوافد الكرادلة الكاثوليك من شتى أنحاء العالم ليجتمعوا في الفاتيكان خلف أبواب مغلقة وسرية ليختاروا بابا جديدا للجلوس على الكرسي الرسولي في الفاتيكان. يظهر الفيلم وصول الكرادلة بأزيائهم الدينية الحمراء وتدفقهم على مقار إقامتهم والاستعدادات التي تجري على قدم وساق لتحضير الإقامة ومتطلبات المعيشة اللازمة لهذا العدد من الضيوف فائقي الأهمية.
في الخارج، تتعلق أنظار العالم والإعلام بمدخنة كنيسة "السيستين" مقر الاجتماعات في انتظار بشرى اختيار البابا الجديد، وبعد كل جولة تصويت يتم إحراق الأوراق، ليدل الدخان الصاعد من المدخنة على نتيجة القرار، فإذا كان الدخان أسودا فيعني ذلك أن جولة التصويت لم تكن حاسمة، ويتأكد اختيار البابا الجديد فقط عندما يتصاعد دخان أبيض اللون من المدخنة.
برصد للتفاصيل الدقيقة يقدم الفيلم محاكاة شبه مكتملة لهذا الطقس الذي لا يعرفه إلا من يشارك فيه، فتشعر طوال مدة الفيلم التي تزيد عن الساعتين بأنك داخل أروقة الفاتيكان وأن ما تراه أقرب إلى التوثيق وليس دراما إثارة لحدث يجتذب أنظار العالم.
الفيلم هو معالجة سينمائية لرواية تنتمي إلى أدب التشويق والإثارة صدرت في 2016 للكاتب البريطاني روبرت هاريس وتحمل نفس الاسمconclave، أما الرؤية السينمائية فيقدمها المخرج النمساوي السويسري المتميز إدوارد بيرغر، الذي حصل فيلمه الشهير (كل شيء هادئ على الجبهة الغربية) على أوسكار أفضل فيلم أجنبي 2022.
لكن الفيلم يغوص من البداية في التفاصيل المعاصرة والأزمات التي تمر بها الكنيسة الكاثوليكية، ليظهر أن طموحات وسلوك الآباء الكرادلة لا تقتصر على السماوي فقط، لكنها ترتبط بالأرضي أيضا، من سلطة ومال وشهوات وسياسة تحرك قادة الكنيسة حتى وهم في مهمة لانتخاب رمز الكاثوليكية في العالم.
مشاهد الكرادلة في الفيلم، وهم يتحدثون في هواتفهم المحمولة، وهم يدخنون بشراهة في أروقة الكنيسة، وهم يعتنون بأناقتهم أو يلتفون في تكتلات سياسية الطابع بين إصلاحيين ومتشددين، تسعى لنزع القداسة المفرطة عن رجال الدين وتقديمهم في صورة بشر عاديين لهم مصالح ومواقف ورغبات مثلنا جميعا، وهو هدف لم يخفه مخرج الفيلم في مقابلة سابقة مع بي بي سي البريطانية.
لا تتأخر المفاجآت
وسط معسكرات متنافسة تبدأ انتخابات البابا الجديد، وهي مهمة يتولى الإشراف عليها عميد كلية الكرادلة في الفاتيكان، الكاردينال الإنجليزي "لورانس" الذي يقوم بدوره الممثل البريطاني الشهير، رالف فينيس، وهو – حسب الفيلم - كاردينال مقرب من البابا المتوفي ومحل ثقته وليس له حق الترشح. تظهر منافسة قوية بين كرادلة تقدميين، وكرادلة محافظين، من يريدون للكنيسة أن تشمل الجميع وتنفتح على العالم ومن يريدونها ان تقتصر على أوروبا وتجري قداديسها باللاتينية وتحفظ أصولها القديمة. من يتمسك بالمبدأ ومن يقدم الأموال رشوة لزملائه الكرادلة.
يدعم "لورانس" في هذا السباق، اختيار كاردينال الولايات المتحدة، الكاردينال "بيلليني" الذي يقوم بدوره الممثل الأمريكي ستانلي توسي، لكنه يفشل في كل جولة في الحصول على الأصوات الكافية. وتتصاعد الدراما عندما يتبين أن كاردينال كندا "تامبرلي" ، الذي يقوم بدوره الممثل الأمريكي جون ليثغو، ويحصد عددا متزايدا من الأصوات، كان قد عٌزل من قبل البابا المتوفي ليلة موته دون أن يعلم أحد سوى سكرتير البابا وهو أسقف يعاني من مشاكل الكحول. وعندما تنحصر المنافسة بين كاردينال كندا وكاردينال نيجيريا، جوشوا، تتفجر فضيحة جنسية ضد الأخير عندما يتبين أن امرأة كانت على علاقة غير شرعيه به في شبابه وأثمرت طفلا، قد أُحضرت من نيجيريا لتكون ضمن خادمات الكنيسة خلال اجتماعات انتخاب البابا.
يقتحم الكاردينال لورانس غرفة البابا المتوفي المغلقة بأختام الشمع ليبحث وسط أوراقه، وهو أمر مناف للقواعد التي يشرف على تطبيقها. فيعثر على أوراق تحويلات بنكية ورشاوي كان يقدمها كاردينال كندا لزملائه ليضمن تصويتهم له، وأن ذلك كان سبب عزله ليلة وفاة البابا، وليتبين أنه دبر الفضيحة الجنسية لمنافسه كاردينال نيجيريا ليطيح به من السباق. وعندما يقدم تلك الأوراق لمرشحه المفضل "بيلليني" لتعزيز موقفه يرفض بيلليني العرض قائلا " لو استخدمت أوراقا مسروقة ضد خصمي سأكون مثل ريتشارد نيكسون في تاريخ البابوات".
يلح الفيلم على رسالة سياسية مباشرة بين ثنايا الدراما، وهي أن الكنيسة الكاثوليكية التي تعرضت في السنوات الأخيرة للكثير من الفضائح، عليها أن تتغير لتلائم العصر الجديد. فالتجمع السري لاختيار البابا الجديد هو لرجال كلهم في أعمار متأخرة، بعضهم مثل لورانس يقول إنه لا يصلح لمنصب البابا" لأنه يعيش أزمة إيمان وتساؤلات". أما كاردينال إيطاليا في الفيلم، الكاردينال تيديسكو الذي يقوم بدوره الممثل الإيطالي سيرجيو كاستديللو، فلا يخفي موقفه العنصري من كاردينال نيجيريا ومن "الإسلام والمسلمين الذين يضطهدون المسيحيين في الشرق" ويدعو لأن يكون قادة الكاثوليكية من مهدها في روما، ويعارض وسائل منع الحمل.
يتجسد التغيير، الذي يروج له الفيلم، في شخصية كاردينال مجهول، لم يعرف به مجمع الكرادلة من قبل لأن تعيينه تم سرا من قبل البابا المتوفي ولم يظهر اسمه للعيان، إنه كاردينال كابول!! (وهو منصب غير موجود في الحقيقة) الذي يشكك كثيرون في وجوده لكن الكاردينال لورانس المشرف على الانتخابات لا يجدا بدا من قبوله، بعدما يجد ما يثبت تعيينه فعلا. وحسب سيرته فإن الكاردينيال "بينيتس"، الذي يقوم بدوره الممثل المكسيكي كارلوس دياز، قد قاد رعية كاثوليكية بشكل سري في العراق وأفغانستان بمباركة من البابا المتوفي ولم يسع للحصول على شهرة أو منصب.
بين الدين والسياسة
يتزايد إلحاح الفيلم على "الصوابية السياسية" عندما تقع تفجيرات "إرهابية" في الفاتيكان أمام مقر انعقاد مجمع انتخاب البابا، ليتساقط الغبار والحطام على المجتمعين، الذين يجب أن يظلوا معزولين عن تأثيرات العالم الخارجي حتى لا يتأثر قرارهم بالأخبار. لكن التفجيرات تكشف عن مواقف سياسية، سيكون من شانها حسم المنافسة في الساعات الاخيرة. فكاردينال إيطاليا المتشدد يتهم "المسلمين" بتدبير التفجيرات ويطالب بمعاقبتهم، بينما يظهر "بينيتس" الشاب، صوتا معتدلا يشرح ما يعانيه الناس العاديون في المجتمعات التي قاد فيها رعيته وكيف عرفهم عن قرب. وهنا يحدث التحول الأكثر درامية عندما تصوت أغلبية المجتمعين لكاردينال كابول الشاب الذي لم يعرفه أحد من قبل.
لكن الرسالة لا تتوقف عند ذلك. فبعد انتخابه وإعلان ذلك، يعرف الكاردينال لورانس، المشرف على الانتخابات أن بينيتس وُلد بعيب خلقي يجعله مزدوج الجنس وأنه لم يعرف بحالته تلك، إلا عندما خضع لجراحة الزائدة الدودية. وعندما حاول الاستقالة من الكنيسة، وإجراء عملية تعديل الجنس، رفض البابا المتوفي ذلك، وأقره على موقعه الكنسي.
وبالرغم من الجودة الفنية الفائقة للفيلم بكل جوانبه من تمثيل وتصوير وحوار وإخراج، فإن إلحاحه على الجانب الإصلاحي في الكنيسة ومن خلال شخصية كاردينال كابول، تظهر مستوى من الافتعال الدرامي كان يمكن تجنبه.
ومن الصعب أيضا تخيل ان رسائله السياسية قد تلقى إجماعا بين أتباع الكنيسة الكاثوليكية أو أي مؤسسة دينية في الوقت الراهن. فالحاصل وحسب كثير من الكتابات، هو أن الترويج الفج للصوابية السياسية، ظل عملا نخبويا في العقود الأخيرة، وبديلا عن تطبيقها العملي في القواعد الأوسع فمنع حدوث التغيير من القاعدة. و حسب هذه الرؤية، مثل الترويج المكثف للصوابية السياسية موجة دعائية أكثر من تربية مجتمعية، وأدى إلى ردة الفعل المتمثلة في صعود اليمين والزعامات الشعبوية في العالم الغربي من أميركا إلى فرنسا التي ترى في المؤسسات الدينية رمزية ما، حتى في مجتمعات لا تمارس الطقس الديني. ورغم ما تتعرض له من فضائح او محاسبة مع الماضي، تظل الكنيسة والمؤسسات الدينية بشكل عام مرجعية لدى كثيرين يخشون من الإفراط في قيم ما بعد الحداثة ويحملون أصحاب ذلك التيار مسؤولية -غير حقيقية - عن تردي أحوال مجتمعاتهم.