بعيد اندلاع الاحتجاجات الشعبية السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد في أواسط آذار من عام ٢٠١١، طرح السوريون على أنفسهم، كما طرح العالم عليهم، أسئلة متشابكة حول مستقبل البلاد وشكل الحكم والدستور والعلاقات الأهلية فيها وثقافتها وعلاقاتها بدول الجوار والعالم وغيرها.
بقيت تلك الأسئلة حاضرة بشكل أو بآخر على مدى السنوات الثلاث عشرة السابقة، وإن تغيرت طبيعتها حيناً، وتراجع الاهتمام بها حيناً آخر، مع تعقد الأزمة السورية ووصول عنف النظام إلى مستويات غير مسبوقة وانسداد أفق التغيير وصعود الحركات الجهادية وتعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين في الملف السوري.
وفي السنوات القليلة الماضية، بدا أن هذه الأسئلة لم تعد مطروحة على نطاق واسع، خاصة مع استعادة النظام السوري، بدعم إيراني وروسي، السيطرة على مساحات واسعة كانت في قبضة المعارضة، ثم مع بدء مسيرة متعرجة لإعادة تعويم بشار الأسد والتطبيع معه إقليمياً ودولياً، وبدا أن تغيير النظام السوري ليس على أجندة أحد، باستثناء مجموعات من المعارضة السياسية والعسكرية المتفرقة وغير القادرة أساساً على فعل ذلك.
لكن هذا المشهد تغير بشكل كامل، فالنظام انهار بصورة مفاجئة إثر تطورات عسكرية متسارعة بدأت في السابع والعشرين من نوفمبر- تشرين الثاني الماضي وبلغت ذروتها بهروب بشار الأسد وسقوط العاصمة دمشق فجر الثامن من الشهر الحالي، فعادت تلك الأسئلة المطروحة على السوريين لتفرض نفسها وبصورة أكثر إلحاحاً.
انفراد أم مشاركة؟
ويحتل مركزَ الصدارة بين هذه الأسئلة والقضايا شكلُ وطبيعةُ النظام الذي سيحكم سوريا مستقبلاً، وفيما إذا كانت هيئة تحرير الشام التي تصدرت المعركة الأخيرة الحاسمة ضد قوات الأسد هي من ستقطف ثمار نضالات ومعارك وتبدلات خاضها ملايين السوريين طيلة سنوات الثورة، أم أنها ستقود عملية تحول تتضمن تمثيلاً وإشراكاً لجهات أخرى، سياسية واجتماعية. وأتى القرار بتكليف حكومة الإنقاذ التي كانت تدير محافظة إدلب وبعض مناطق ريف حلب الخاضعة لسيطرة الهيئة بتسيير أمور الحكومة الانتقالية لمدة ثلاثة أشهر كمؤشر على توجه الهيئة نحو التفرد والسيطرة، بينما يزيد غياب أي تصريح قطعي وواضح عن ماهية الدور الذي سيلعبه مستقبلاً قائد الهيئة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) من الشكوك على هذا الصعيد، بينما لم يُسمع أي كلام جدي حول الدعوة لمؤتمر وطني عام مثلاً أو حوار سوري يضم مختلف القوى السياسية والأهلية. وما يزيد طين أي تفرد للهيئة بالحكم بلة أنها مدرجة على قوائم الإرهاب وفق قرار لمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وهي كذلك على لائحة واشنطن للمنظمات الإرهابية.
إلا أن جهات أخرى متعددة، سياسية ومدنية، بدأت ترفع صوتها مطالبة بمسار مغاير، يقوم أساساً على قرار الأمم المتحدة ٢٢٥٤ الصادر عام ٢٠١٥ وينص على انتقال سياسي شامل في سوريا. بيد أن تنفيذ هذا القرار قد يحتاج توافقاً دولياً مرفقاً بضغوط صارمة على قوى الأمر الواقع من جهة، وواقعاً ميدانياً مختلفاً من جهة ثانية، وهو ما لا يبدو متوفراً اليوم.
وإلى جانب الأصوات السياسية والمدنية، تبرز قوى أمر واقع مسلحة، تتوجس بدورها من هذا النفوذ الكاسح لهيئة تحرير الشام وبالأخص من صعود نجم قائدها الشرع. في مقدمة هذه القوى، تأتي فصائل "الجيش الوطني" المدعومة من أنقرة والفاعلة في مناطق بالشمال السوري، وقد يكون ابتلاع الهيئة لهذه الفصائل مهمة ليست بالعسيرة. أما في أقصى الجنوب السوري، وتحديداً في محافظة درعا تنشط مجموعات عسكرية متفرقة أبرزها ما يعرف بالفيلق الخامس الذي حافظ بموافقة روسية، على جزء من قوة المعارضة السورية للأسد جنوباً، ومجدداً، قد تجد الهيئة طريقها للسيطرة على هذه المنطقة رغم بعض المطبات وضم هذه المجموعات تحت جناحها، وخاصة في ظل التناغم الطائفي بين الهيئة ومجموعات الجنوب إلا في حال تلقت فصائل ومجموعات الجنوب دعماً وازناً من جهات خارجية.
وإلى الجوار من درعا تماماً، في السويداء، يبرز اختبار من نوع مغاير، فالمحافظة تقطنها أغلبية درزية، وتنشط فيها مجموعات عسكرية تقوم أساساً على نفوذ معنوي هائل لرجال الدين الدروز، وكما يلف الغموض الصورة السورية العامة، فإنه يلف كذلك ما يتعلق بالأقليات الدينية والمذهبية تحت أي سلطة مفترضة لهيئة ذات توجه إسلامي صارم وماض سلفي جهادي لم ينته بالمطلق.
أما الاختبار الأصعب الذي قد تواجهه الهيئة على صعيد قوى الأمر الواقع فهو قوات سوريا الديمقراطية التي تقودها وحدات حماية الشعب الكردية، فهنا تتكئ هذه القوات على تطلعات قومية لقيادتها وعلى مركزية معقولة في تنظيمها، وكذا على سيطرتها على مساحات واسعة من مناطق شمال شرقي البلاد بما يشمل بعض أهم حقول النفط، بالإضافة إلى دعمها أمريكياً بعد مشاركتها في معركة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مناطق من الرقة ودير الزور والحسكة وحلب.
وفوق هذا وذاك، ليس مستبعداً ظهور قوى مسلحة جديدة على الساحة، فالغالبية العظمى من ضباط وعناصر الأجهزة الأمنية والجيش تلاشت من المشهد واختفت مع هروب الأسد إلى موسكو صبيحة الثامن من ديسمبر كانون الأول، بينما يخبرنا الدرس العراقي عقب سقوط نظام صدام حسين عام ٢٠٠٣ أن اختفاء بعض هؤلاء كان مؤقتاً، وأتى ظهورهم اللاحق بأثواب مختلفة تراوحت بين فصائل محلية لقتال القوات الأميركية وتنظيمات جهادية عدمية قاتلت الجميع. وإن كان شعور العرب السنة في العراق بالإقصاء والتهميش بعد عقود من إمساكهم بالسلطة ساهم بانضواء منتسبي الجيش والأمن ببعض الفصائل المسلحة، فإن إقصاء مماثلاً للعلويين أو ممارسة العقاب الجماعي بحقهم قد تقود إلى مسارات مماثلة، خاصة وأن أعداداً هائلة من شبانهم انتمت إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية.
أما السؤال الأكثر إلحاحاً بالنسبة للغالبية الغالبة من السوريين فهو سؤال الاقتصاد والأوضاع المعيشية، فالبلد المنهك خلال سنوات الحرب عرف معدلات فساد مذهلة وسياسات اقتصادية متخبطة وعقوبات غربية أضرت بقطاعاته الرئيسية، وفاقم الأوضاع سوءاً خراب البنى التحتية والتهجير القسري لمئات الآلاف من سكانه بما يتضمن بالطبع الخبراء والفنيين وأصحاب المهن المختلفة والأيدي العاملة من كل نوع. وقد تبرز مفارقة هنا، فالتطلعات الديمقراطية والتحول السياسي بعد سنوات طويلة من الاستبداد عادة ما ترفع من سقف التوقعات وتستعجل التغيرات الإيجابية التي تمس حياة الناس اليومية، بيد أن مستوى التردي المعيشي والاهتراء الاقتصادي الذي وصلته الأوضاع السورية في السنوات الأخيرة من حكم الأسد قد تخفف نسبياً من الضغوط الشعبية على الحكم الجديد أيّاً كان شكله، إذ يرجح أن تتحسن الأوضاع الاقتصادية نسبياً في حال نجحت السلطات بتحقيق درجات معقولة من الاستقرار وتدفقت على البلاد أموال دعم إقليمية ودولية، أو ربما استثمارات أجنبية.
أسئلة صعبة
ومن الأسئلة المركبة التي تحتاج إلى إجابة عاجلة ملف العدالة والمحاسبة في سوريا الجديدة، وهو سؤال يتضمن أسئلة فرعية معقدة كذلك: فمن سيحاسب من؟ ووفق أي قانون؟ وهل ستشمل العدالة مرتكبي الانتهاكات من كل الأطراف بما يشمل أولئك في صفوف المعارضة المنتصرة؟ وهل تعود بالزمن إلى ما قبل ٢٠١١ وصولاً على سبيل المثال إلى مجزرة حماة عام ١٩٨٢ التي شهدت مقتل عشرات الآلاف؟ هل من الأجدى تطبيق العدالة الانتقالية هنا؟ أو تشكيل محكمة دولية تدير هذا الملف؟ وماذا عن الفساد ونهب الموارد الوطنية؟
غير أن السؤال الأكثر راهنية يتعلق بعشرات الآلاف من المختفين قسراً في سجون النظام السابق وأعداد قليلة متفرقة أخفتها قوى الأمر الواقع الأخرى على امتداد الجغرافيا السورية، فلهذا الملف أبعاد إنسانية وسياسية ومجتمعية لا تخفى على أحد. وهو ملف يشتبك مع ملفات العدالة والانتقال السياسي والسلم الأهلي وكفاءة الحكومة، وسيحتاج المجتمع السوري إلى وقت طويل كي يتعافى من آثار هذا الملف الذي اشتمل على أساليب مروعة في الاحتجاز والتعذيب والإخفاء وابتزاز أهالي المعتقلين، وليس أدل على المأساة المستمرة لهذه القضية من مشهد آلاف الأسر السورية التي تجمهرت عند سجن صيدنايا سيء الصيت والمقرات الأمنية على أمل معرفة مصير أبنائها وبناتها.
وعلى علاقة مباشرة مع ذلك، يحتاج السوريون إلى عمل هائل للكشف عن أماكن القبور الجماعية، وتنظيم عمليات الطب الشرعي وتحديد هويات الجثث وعزل الرفات، وهي عمليات معقدة تحتاج إلى خبرات وتقنيات دولية ليست في حوزة السوريين حالياً، هذا بينما تتعرض القبور المكتشفة إلى تهديد العبث بها بسبب سوء التنظيم وهرع الأهالي الباحثين عن أحبتهم المفقودين.
وترتبط الأسئلة السابقة جميعها بلا استثناء بسؤال أساسي عن علاقة سوريا بدول جوارها والعالم الأبعد، فالثورة السورية خاضت معركتها في وجه النظام السوري المدعوم بقوى متعددة في مقدمتها الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وميليشيات عراقية متفرقة، ولاحقاً أتى الدعم الروسي لينقذ النظام من هزيمة وشيكة أواخر ٢٠١٥. وبالإضافة إلى العلاقة الشائكة بهذه الجهات المؤثرة، ثمة سؤال عمّا تريده إسرائيل حالياً، فالأخيرة سارعت إلى التوسع ببعض الأراضي المجاورة لمرتفعات الجولان وشنت مئات الغارات لتدمير أي قدرات عسكرية استراتيجية خشية وقوعها بأيدي النظام الجديد. أما تركيا فقد تكون صاحبة اليد الطولى على المدى القصير والمتوسط، فهي كانت من آخر القوى الإقليمية التي حافظت على علاقة وطيدة ببعض جهات المعارضة السورية، هذا بينما تنظر بعين قلقة مرتابة نحو قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية.
وللقوى الإقليمية والدولية الأخرى اهتمامات ومصالح ومخاوف متناقضة في سوريا، ففي هذا البلد ما زالت تنشط حركات جهادية قد تسبب صداعاً أمنياً لدول عدة، ومنه تدفق ملايين اللاجئين والمهاجرين الذين يعيشون اليوم في الخليج ومصر والأردن ولبنان والعراق وتركيا والاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة، ولبعض هذه الدول علاقات متعددة المستويات مع جهات فاعلة في الداخل السوري، بينما يحتاج السوريون بدورهم لعلاقة مستقرة ووثيقة بكل هذه القوى لغايات تمتد من الاستقرار وحفظ الأمن إلى جذب الاستثمارات والدعم الاقتصادي مروراً بالمساعدة في تنظيم الكشف عن القبور الجماعية وغيرها.