زُرعت إسرائيل استعمارًا استيطانيًا في فلسطين، وتم بالإرهاب تهجير مئات الآلاف من سكانها، وتقتيل عدد كبير منهم في مجازر حفرت اسمها في تاريخ المنطقة (بحسب مركز الزيتونة للدراسات، فإن عدد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في الفترة بين 1937 و1948، زادت عن 75 مجزرة أبرزها مجزرة دير ياسين).
عندما استقر الكيان الصهيوني "دولة يهودية" على أرض مغتصبة، دأب الغرب على تسويق فكرة مفادها أن إسرائيل التي لم تفعل شيئًا سوى تجميع اليهود المضطهدين وغير المضطهدين في أرض الميعاد، توجد للأسف في محيط عدائي يتطلع إلى إلقاء إسرائيل في البحر، وأن الحفاظ على وجود هذا الكيان تقتضي حشد الدعم العسكري والاقتصادي والإعلامي لحكوماته المختلفة، واعتبار الأساطير اليهودية مرجعية إلهية لشرعنة هذا الوجود. وأمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما الغربيون، الذين لم يهمهم أبدًا أن تعيش الشعوب العربية تحت حكم ديكتاتوريات عسكرية أو أنظمة تقليدية جامدة،لم يدخروا جهداً في نصرتها على شعوبها، سرعان ما أضافوا لأسطورة المحيط العدائي، أسطورة النظام الديمقراطي الوحيد في الشرق الاستبدادي، ليصبح الدعم الغربي دعمًا للسردية التوراتية من جهة، ودعمًا للديمقراطية اليتيمة في المنطقة من جهة أخرى.وكل هذا طبعاً في محاولة لترويض عقدة الذنب تجاه يهود اوروبا جراء ما لحقهم من تنكيل على يد الغرب.
ستأتي الحروب العربية الإسرائيلية فيما بعد لترسخ إعلاميًا مقولة المحيط العدائي، ثم ستأتي العمليات الفدائية الفلسطينية، وإنشاء منظمة التحرير، لترسخ صورة الضحية الصهيونية الدائمة، والترويع الإرهابي "لدولة" تسعى إلى ضمان أمن اليهود وسلامتهم.
إن هذه الصورة المقلوبة للواقع (المغتصب ضحية، والمقاوم إرهابي، والاستعمار ديمقراطية، والتطهير العرقي دفاع عن النفس... إلخ) ستأخذ أشكالاً هستيرية من التزييف والمغالطة بعد زلزال السابع من أكتوبر، ولكنها بشكل مفارق ستبرز حقيقة جديدة، هي أن المحيط الذي كان منذ النكبة حاضنًا لفلسطين ومعاديًا لإسرائيل، صار لافظا لفلسطين، ومحتضنًا لإسرائيل، فالإبادة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة لم تحرك في الأنظمة العربية شيئًا، ولم توقف أو تجمد مسار التطبيع، وأصبح الفلسطينيون هم الكيان الوحيد في المنطقة الذي يعيش في محيط عدائي مائة بالمائة!
في ظل هذه الظروف يبدو من العبث مطالبة مؤسسات النظام الإقليمي العربي بلعب دور ما في الأزمة الحالية طالما أنها مرتبطة عضوياً بالأنظمة، وممثلة لها، وقد رأينا مقدار العجز الذي ميزها في أمرين على الأقل يُفترض أن تكون فيهما مؤسسة نظام إقليمي مثل الجامعة العربية مثلاً، قوة تفاوضية مؤثرة، وهما، المساعدات الإنسانية للشعب المحاصر في غزة، خصوصًا عند استفحال المجاعة، و قصف المستشفيات، والتفاوض على وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن
في الأمرين معاً رأينا كيف انتُدبت أنظمة عربية معينة للعب أدوار تكاد تكون مسرحية في هذا الإطار،حيث ظلت تروح وتجيء فوق أشلاء غزة دون فائدة
إن السمة البارزة لأوضاع مؤسسات النظام الإقليمي في هذه المرحلة، سواء تعلق الأمر بالجامعة العربية، أو مجلس دول الخليج، أو اتحاد المغرب العربي، هي الصورية، والغياب، والأزمة المؤسسية.
الصورية، لأن هذه المؤسسات ترسل عن نفسها صورة الإطار الوحدوي الذي يحافظ على الحد الأدنى من التجانس في المواقف والمبادرات، بينما هي في الواقع تجمع "لأجندات" فردية، متضاربة، لا يجمع بينها شيء ،فلا شيء يجمع بين الإمارات والسودان، ولا بين المغرب والجزائر، ولا بين السعودية واليمن، وأمثلة هذه الثنائيات الدرامية تغطي خريطة الوطن العربي بأكملها.
والغياب، لأنها لا تملك أية مبادرة تصاحبها سياسيًا وإعلاميًا على المستويين الإقليمي والدولي، وتدعمها باستمرار بغض النظر عن الأزمات الطارئة أو الظرفية.
والأزمة المؤسسية، لأن جل هذه المؤسسات تعيش من جهة عطبًا في أجهزتها وفي منهج عملها، وتعيش من جهة أخرى أزمة هوية. فالجامعة العربية تفتقر إلى إعادة تحديد أكثر دقة لمفهوم عربيتها، أو عروبيتها. ومجلس التعاون الخليجي، الذي يعد الأقل تشرذمًا، عرضة دائماً لتقلبات الوضع في الخليج في علاقة بالتطبيع، وبالعلاقة مع التيارات الإسلامية ومع الدولة الإيرانية. واتحاد المغرب العربي، الذي لم يستقر بعد على أية صيغة جغرافية أو سياسية، يكاد يكون بلا روح، وبلا معنى، بينما تستمر الأزمة الليبية، وتقف الجزائر والمغرب على حافة حرب أخوية.
من الصعب إذن تصور منهجية عمل ناجعة لهذه المؤسسات يكون لها أثر محمود حيال أية أزمة مهما صغرت، وبالأحرى أن تكون أزمة تحرير أرض عربية مغتصبة. وإيقاف إبادة جماعية في غزة، خصوصاً وأن الظاهر من جبل الجليد في القضية الفلسطينية لم يعد يعكس بوضوح ما تخفيه العلاقة المبسطة بين الاستعمار وتصفيته. هناك طبقات متراكبة تدفع بتوتراتها إلى السطح، ليس أقلها هيمنة الحركة الإسلامية على المقاومة الفلسطينية، واحتداد الصراع السني الشيعي، والمخاض الذي يجري الآن للسماح بانبثاق قوة إقليمية تعوض خواء المؤسسات الإقليمية، وتعوض بالخصوص انهيار القوى التقليدية في المنطقة وعلى رأسها طبعاً القوة المصرية.
ما يبدو جليًا بخصوص هذا الموضوع هو استعداد المملكة العربية السعودية لاستلام هذا الدور.
لا شك أن طموح المملكة في هذا المجال ليس جديدًا، فمنذ فترة ليست بالقصيرة شرعت في تحضير الظروف التي تساعدها على تحقيق هذا التحول النوعي، سواء تعلق الأمر بالشروع في ما تسميه بالإصلاحات الداخلية، أو في إعادة ترتيب علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع إيران. ولا شك أن وجهتها كانت قبل السابع من أكتوبر هي التطبيع مع إسرائيل، وترك القضية الفلسطينية للزمن، يجد لها مخرجاً أو يذوبها في الأمر الواقع، ولو أنها لم تفتأ تلوح برغبتها في التفاوض على هذا التطبيع، ومقايضته بتطبيق خطة السلام العربية التي تنص ضمن ما تنص عليه على إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية. بمعنى ما، فإن وجهة التطبيع نفسها كانت بالنسبة للمملكة لبنة في بناء حلم القوة الإقليمية.
الجديد ربما في الأمر، هو أن السابع من أكتوبر فرض على المملكة العربية السعودية أن تجعل من تحقيق مطلب الدولة الفلسطينية ورقتها الأساسية للتفاوض على موقعها كقوة إقليمية لا يمكن تجاهلها حالاً ومستقبلاً.
منذ وقف المرحوم ياسر عرفات في منصة الأمم المتحدة ليقول للعالم: جئتكم بغصن الزيتون في يد، والبندقية في يد، لم تتوقف القضية الفلسطينية عن لعب دور الوقود الضروري لكل قوة صاعدة. حصل ذلك مع مصر والعراق وسوريا، ويحصل الآن مع المملكة العربية السعودية. ليس من باب "الخيال السياسي" أن يسلم الفلسطينيون (أو بعضهم على الأقل) بأن قارب النجاة الوحيد الذي تبقى لهم من غرق المركب الكبير هو قارب السعودية، ولا أن تعتبر السعودية وقد لعبت حتى الآن دور المتفرج الذكي على تفسخ كل المشاريع، بما في ذلك "مشروع التطبيع الشامل مع إسرائيل"، أن فرصتها قد سنحت، وأنها من الممكن وفق ظروف اليوم أن تقف في وجه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، دون أن تتطاول على إيران أو أن توقع بها، وتعمل على تحقيق حلم الدولة الفلسطينية، ولو لم يكن ذلك أبداً ضمن أولوياتها المعلنة أو المضمرة. ومتى ما استطاعت ذلك فستصبح بقوة الأشياء القوة الإقليمية التي ستعيد تشكيل المنطقة على مقاسها.
هكذا هي الحرب، قد لا ينتصر فيها بالضرورة من يخوضها !
على أن التنبؤ بانبثاق قوة إقليمية أو بأفولها هو نوع من التقاط صورة "للآن" كما هو، حسب ما آلت إليه الأمور، بعد الشرارة التي اندلع بها الحريق، وبعد انهيار ما انهار، وبعد ميلاد "اللحظات الجديدة"، في الأرض، وفي التاريخ الذي نعيشه بشكل مباشر. وهذه أشياء لا تحسم كل شيء، هناك نصيب اللامتوقع، وتأثير التفاعلات المفاجئة، أو حدوث شيء صاعق لم يكن في الحسبان.
هناك حقيقة ثابتة لا تتغير بالنبوءات، ولا بمنطق القوة، هي أنه لا يوجد "تحرير حاسم" في تاريخ البشرية حصل بدون مقاومة عظيمة.
هناك اليوم من يرى في نكسة حماس وحزب الله نقطة نهاية للمقاومة. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالمقاومة بذرة تنتقل منذ 1948 من تربة إلى أخرى، ومن انبعاث إلى آخر. تذكروا ما كان عليه الوضع قبل 7 أكتوبر، وما حدث بعد ذلك. قد يقال إن هذا من قبيل انتظار المعجزات، نعم، ولكن من الخصائص الخلاقة للمعجزة أنها لا تحدث مرة واحدة!
والقصد أن القوة السعودية التي يبدو انبثاقها بديهياً في سياق ما نعيشه،يتوقف مصيرها على القدرة على إرضاخ إسرائيل لمطلب الدولة الفلسطينية،وإلا فأمامنا النموذج المصري الذي اختار "الصبر الاستراتيجي"،وعدم الضغط على إسرائيل لإنقاذ الشعب الفلسطيني في غزة فصار إلى ما صار إليه.