تحدثني جدتي " أمينة " في طريق عودتنا من مستشفى "رمبام" في حيفا، وأثناء مرورنا في أحد شوارع المدينة: " هاي كانت دكانة أبوي، هون تحت هذا الجامع". تكمل جدتي الحديث ببرود، وكأنها قد اعتادت هي الأخرى على منظومة القهر والظلم " من قد ما رموا قنابل عالحارة حملنا حالنا وهجينا، مشينا، مشينا، مشينا لوصلنا للبنان وكملنا على حمص بسوريا، هناك قعدنا بمخيم لاجئين، كان الواحد يشكر ربه على لقمة الأكل، بعدها الله سترنا وقدرنا نرجع، مشينا بالجبال بالليالي ورجعنا على "عبلين"، هناك سكنا بس ملناش إشي هناك، راحت بيوتنا واراضينا وكلشي معنا ".
قصة عائلة جدتي وما جرى لها في النكبة ليست القصة الوحيدة، فتمكٌن عائلتي من العودة إلى "فلسطين" خلسة بعد التهجير يتشابه مع قصص الآلاف من أهالينا ممن هٌجروا عام النكبة وعادوا ليروا قراهم المدمرة وأملاكهم التي سلبها "القادمون" الجدد على مرمى حجر منهم، بينما كان عليهم وهم أهل البلاد، أن يعيشوا متخفين، حابسين أنفاسهم خوفا من شبح "الترانسفير" مرة أخرى كمئات الآلاف الذين طُردوا دون رجعة حتى الآن.
أما أنا "نداء نصار"، التي تقترب من الأربعين، فقد ولدت وكبرت في قرية "عرابة" في الجليل بفلسطين التاريخية. انا الأكبر بين ثلاثة إخوة ضمن عائلة صغيرة مكونة من خمسة أفراد. وأنا أنتمي إلى الجيل الذي ولد داخل الواقع الإسرائيلي، لم أشهد النكبة، على الأقل كما شهدتها جدتي. لكن لـ “حيفا"، هذه المدينة التي أسكنها منذ عشر سنوات، لضرورات العمل، معنى أخر.
في موطن الأجداد حيفا، مطلوب مني أن أقنع بوظيفة مضمونة، وراتب جيد، بالمقاهي والمجمعات التجارية الفارهة التي يمكنني ارتيادها. فهل يكفي هذا كثمن لنسيان ما ضاع؟ أنا لا أرى في حيفا سوى البيوت المهجرة من سكانها العرب، ومن بينها دكانة أهل جدتي وسأظل شاهدة على تحول الأحياء العربية في حيفا الى أحياء فقر هامشية في "مدينة التعايش “التي كانت تعج قبل النكبة بسكانها وأهلها ومثقفيها من العرب. إن إدراكا كهذا يفرض على جيلي معنى آخر للمدينة، ومعنى آخر للحياة وجودتها، ومعنى آخر لوجودك ودورك كفرد في هذا المجتمع. هل هذا هو تشكل الهوية؟ أي مجموع القصص والتجارب والمعاني والأحزان واللغة والمكان الذي يضم مجموعة من الناس ويحولهم الى شعب له ماض وحاضر ومستقبل، نعم إنها المسميات الكبيرة متجسدة في مشاعرنا وتفاصيلنا اليومية.
لكن هذه الأشياء هي ذاتها التي تريد إسرائيل أن تسلبها منا، وأن تقنعنا بأنها غير موجودة أصلا، وأنها إن وجدت ليست مهمة. في مناهج التعليم الحكومية التي يتعين على الأطفال العرب في الداخل الفلسطيني دراستها، لم نكن نحن وآباؤنا وأجدادنا موجودين كفلسطينيين على طول هذه البلاد وعرضها، ولا حق لنا فيها سوى حق المقيم الغريب، والأسوأ من كل هذا، أن يصبح المطلوب منا مقايضة كل هذه المشاعر والأفكار والأحزان، أي مجموع الهوية، بفتات من الحقوق غير المستوفاة. نعم، أن تكون فلسطينيا في مناطق الـ 48 يعني أن تصارع يوميا على معنى وجودك، على قصتك، على حقك في أن يكون لك رواية لما حدث وتاريخ، على حقك أن تحلم، وعلى رغبتك بألا تكون مجرد آلة، مطلوب منها أن تصارع فقط، لكي تأكل وتشرب وتنام.
إن أكثر ما يثير غضبي في قصة جدتي وأنا أطالع تفاصيلها الواقعية الآن، هو كيف تحولت هذه البيوت القديمة في الشوارع المركزية في حيفا الى مقاهٍ يملكها إسرائيليون أوروبيون، يدعون انتماءهم لليسار وحبهم للعرب، لنا أقصد، بعدما أخذوا بيوتنا. وحولوا بعضها إلى محلات باذخة جدا لا يرتادها سوى القادرين. وكلما شاهدت هذه المتاجر ومن ضمنها دكان أهل جدتي، فاض بي الخيال الساذج: انا الفتاة المستقلة في حيفا التي عليها أن تكدح كثيرا لتعيش بمستوى متوسط وتدفع إيجار بيت في هذه البلاد ذات الأسعار الباهظة، ماذا لو كان هذا البيت لي، أي لو كان ملكا لعائلتي ولي حتى هذه اللحظة؟ كيف كانت ستسير حياتي في هذا الشارع المركزيّ الفاره في حيفا؟
إلحاح الرواية الرسمية الإسرائيلية عنّا، لا يتوقف عند السعي لإقناعنا بالرضى عن حصولنا على وظيفة ودخل وطعام فحسب، لكنه يتصاعد لإقناعنا بأننا موضع حسد من فلسطينيين آخرين، وأن ظروف معيشتنا أفضل من إخواننا الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس وغزة، وأنه يتوجب علينا ان نكون شاكرين لإسرائيل على هذه الظروف والنعم والخيرات. وقتها تنتابني فرضية أخرى، فأتساءل، لو أحضرنا ميزانا ووضعنا ما سٌلب منا في كفة و"النعم" التي يجب أن نشكر إسرائيل عليها في الكفة الاخرى، أي كفة سترجح؟ عندها أتذكر أن هذه اللعبة غير مسموح بها أيضا، فالألعاب المسموح بها في هذا العالم يحددها القوي، كما يحدد أيضا أحجار النرد التي يتعين استخدامها ومن أين تبدأ. يحدد القوي نقطة الصفر في اللعبة، ويرفض العودة بالتاريخ إلى نقطة ما قبل الصفر الذي اختاره، الى بيت جدتي مثلا وإيجار السكن الباهظ في حيفا.
إسرائيل الوجه الأصلي
إن تداعيات ما تتعرض له غزة والضفة الغربية في أعقاب السابع من أكتوبر/ تشرين الثاني تمتد آثاره إلى المجتمع الفلسطيني في أراضي الـ 48 متمثلة في حملات ترهيب وتخويف. أعاد الرد الإسرائيلي على تلك الهجمات الوجه الأصلي للدولة وآلتها القمعية التي يعرفها الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم، لكن إسرائيل لم تكن قد تغيرت قبلها، كانت هناك فقط ثمة هوامش ومجالات مناورة لكنها ضاقت أو محيت خلال الحرب. يعرف الفلسطينيون هذا "الوجه الأصلي" من سردية النكبة ومن تكرار مشاهد الإبادة في غزة. قبل الحرب، ربما كانت تسمح إسرائيل بمظاهرات ووقفات هنا أو هناك، وربما اعتقلت بعض المشاركين أو كلهم. لكن بعد الحرب صار المنع حتمياً، اذ أصبحت المظاهرات تجرم قبل أن تحصل في دولة تدعي الديمقراطية. إن ما أعلنه المدير العام للشرطة الإسرائيلية كوبي شفتاي في أول أسبوع من الحرب، ردا على محاولات التحرك الشعبي في الداخل الفلسطيني بالتظاهر ضد حرب الإبادة على غزة، يعبر عن تلك الذهنية التي ترى بها إسرائيل الفلسطينيين الذين بقوا على أرضهم. قال شفتاي موجها كلامه إلى المجتمع العربي " إذا كان العرب في الداخل يريدون التضامن مع سكان غزة، سنمكنهم من ذلك ونوفر لهم باصات تنقلهم إلى هناك ليتضامنوا مع غزة للأبد". لقد أصبح ممكنا الآن بفضل حملة القمع أن يُدان مواطن عربي في إسرائيل بـ “قراءة" دورية أو الإعجاب بمنشور على السوشيال ميديا لأن المؤسسة الأمنية تعتبر ذلك المنشور مؤيدا للعنف ضمن قوانين مكافحة الإرهاب قيد التعديل في اسرائيل.
لم تقتصر تداعيات الحرب على المؤسسة الإسرائيلية الرسمية فحسب، بل امتدت لتطال المجتمع الإسرائيلي بمختلف أطيافه، انفجرت فقاعة ما يسمي باليسار الليبرالي الصهيوني، الذي طالما بِيًض صهيونيته بادعاء مناهضة الاحتلال، وهو في الأغلب مناهض لما يراه غير مفيد بنظره للمشروع الصهيوني لا أكثر. تماهى هذا اليسار مع أهداف ومجريات حرب الإبادة على غزة، روج للقتل والتهجير ولتكميم افواه كل من يعبر عن مواقفه وينادي بغير ذلك، وأصبحوا كما غيرهم جزءا من الممارسة العسكرية الأمنية، أما من بقي على موقفه فهم مجموعة محدودة من اليهود "اللاصهيونيين" الذين يمارسون الفعل الاحتجاجي الصريح بصفتهم الشخصية. هذا الاصطدام المباشر معنا كفلسطينيين، لم يكن ما عهدناه سابقا، إذ اقتصر في السابق، في "هبة الكرامة" في مايو/أيار 2021 مثلاً، على مجموعات صهيونية استيطانية متطرفة تتركز فيما يسمى المدن "المختلطة" كاللد وعكا وحيفا ويافا، إذ هاجمت مجموعات "النواة التوراتية" التي تسعى لتكثيف حركة الاستيطان في المدن المختلطة للقضاء على الوجود العربي، الأحياء العربية في هذه المدن واعتدت على أهلها.
في هذه الحرب تقلصت الفروق حتى كادت تتلاشى، فأصبحت المحاكم والجامعات مجندة في الدور العدائيّ نفسه. إذ تم تجميد وطرد مئات الشباب والشابات الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية من دراستهم وتقديمهم للجان استماع، فقط لأن زملاءهم اليهود وشوا بهم أو أرسلوا صورا إلى إدارة الجامعات والأجهزة الأمنية من منشوراتهم على مواقع التواصل المناهضة للحرب ولقتل الأطفال في غزة. هكذا سقطت الأقنعة، ليتحول كل المجتمع المدني اليهودي إلى جندي في الجيش الإسرائيلي، فجامعة حيفا مثلا، التي تباهي بكونها صرحا ًللتعددية، قامت بتسليم ملفات طالبات عربيات للشرطة الإسرائيلية التي اعتقلتهن بدورها في ساعات الليل المتأخرة.
لم تسلم أماكن العمل من هذه الهجمة، فإذا كان من الممكن تجنب الخوض في حوارات سياسية فائضة وغير مجدية مع المشغلين والزملاء الإسرائيليين في العمل، لم يعد ذلك ممكنا بعد الحرب، فالنأي بالنفس والصمت لم يعودا مقبولين في العرف الإسرائيلي العنصريّ. الجديد هنا، هو أنك أصبحت مُحاسبا على صمتك لا على ما تقوله فحسب، ومٌطالب بترديد الرواية الإسرائيلية لما حدث وسيحدث، والتسليم بعقلية الإبادة. هكذا قد يطلب من الفلسطيني في مكان عمله أن يشارك في دعم توزيع قروض غذاء لجنود جيش الاحتلال أو أن يشارك في صور التضامن مع الرهائن وقد لا يعفيك التغيب عن العمل من مثل هذه المراسيم.
علاقات القوة الشرسة
يخضع المجتمع الفلسطيني في الداخل ومنذ قيام إسرائيل إلى علاقات قوة وهيمنة تهدف إلى سحقه وتفكيكه ذاتيا مع مرور الوقت. فنحو 50% من العائلات العربية في الداخل الفلسطيني تقبع تحت خط الفقر، ناهيك عن تفشي العنف والجريمة المتصاعدة وسط تجاهل مقصود من أجهزة الدولة الإسرائيلية، حتى خلصنا الى واقع لا حصانة فيه لأحد من الطلقات النارية العبثية المترامية في كل شارع. ولو نظرنا الى شريحة الشباب العرب في اسرائيل على سبيل المثال، لا ينتمي 40% من الشباب بين الأجيال 18-24 لأية إطار تعليمي أو إطار عمل، وهم بالغالب جزء من ضحايا العنف والجريمة التي تستهدف المجتمع العربي بمعدل 30 مرة نظير ما يتعرض له المجتمع اليهودي ما بين مصاب بالطلقات النارية وقتيل. وإذا نظرنا الى قطاع التعليم مثلا، تبلغ الميزانية المخصصة للطالب اليهودي في المدارس الاسرائيلية ثلاثة أضعاف تلك المخصصة للطالب العربي، وهي كلها أمثلة تجسد واقع التمييز الحاد في كافة مجالات الحياة اليومية تجاهنا كفلسطينيين عرب حاملين للمواطنة الاسرائيلية.
إلا أن الأمر لا يقتصر على ذلك، فقضيتنا ليست متعلقة بالميزانيات والفرص والبنى التحتية التي قد تحسّنها حكومة أو وزارة دون أخرى بناء على معادلة الربح والخسارة في المرحلة المحددة، ولا يدور الحديث عن تمييز وعنصرية بالشكل المألوف تجاه الأقليات (لأننا لسنا أقلية تقليدية في سياق دولة، بل مركب من شعب أكبر يسعى لتحقيق مصيره) في أي مكان بالعالم، بل عن علاقات قوة غير متوازنة، أعمق وأشرس، عن عدم توازن لا يمكن تسويته او تصفيره طالما صممت هذه الدولة أن تعرف نفسها على أنها يهودية، فهي بالوقت ذاته تقول لي ولنا جميعنا، لا مكان لكم هنا، فمقدرات ومستقبل وحرص هذه الدولة مخصص لمجموعة حصرية ومغلقة، لستم جزء منها. وبهذا ندرك، أن لا إمكانية لتحقيق أية مساواة جوهرية، دون ان تكون تلك الأخيرة مرتبطة بحق تقرير المصير وتحرر الشعب الفلسطيني بالكامل، ومن ضمنه- نحن كفلسطينيون في مناطق ال 48.