منذ السابع من أكتوبر، يخيل إليَّ أنني أعيش بين الأنقاض، أتنفس الغبار، وعطن الجثث التي لم تُستخرَج بعد، ولن تُستخرَج أبدا. ويصم أذني صراخ النساء، وهن يرفعن بين أياديهن تلك الجثامين الصغيرة، كأنهن سيعثرن لا محالة في تلك الخرقة البيضاء على ابتسامة رضيع. كابوسٌ متصل، ليلًا ونهارًا، حتى بلا صور، ولا أرقام ضحايا، ولا بلاغات. في كل شيء حي تخرج غزة الشهيدة، أشلاء تبحث عن مكان آمن بيننا. ولا أمان، لا بيننا، ولا بينهم. شعب صغير من الأطفال يمشي تحت القصف من الشمال إلى الجنوب، ومن الجنوب إلى الشمال؛ أطفال جائعون ينقذون بعضهم البعض، أو يدفنون، أو يرتجلون عمليات جراحية فوق الأنقاض، ويذهبون بين دوي وآخر لرؤية البحر، المكان الوحيد بلا أنقاض. كل بلاغة الدنيا لن تجد العبارات الدقيقة لتصف لنا ما هي مجزرة الأطفال في غزة. كيف أصبحت المقبرة وطنًا يكرر كثافة القطاع؟ وتلك الأكفان التي تنزل بنفسها من أحضان الأمهات لتوقف ذلك الفزع الجاحظ من صرخة ثكل جماعية، هل يمكن أن ننسى؟ هل يحق لنا أن ننسى؟ هل يمكن أن نتكلم مع رضيع فلسطيني عن السلام؟ عن سلام الشجعان؟ عن تعايش الأضداد؟ عن الغفران؟ هو الذي رأى وجه أمه يفقد كل ملامحه عندما وصلت القذيفة. أما الأمهات فسيقلن مع الرضيع القتيل لن نسامح أبدًا، دونكم والقتلة، كلوا معهم في نفس المائدة، واقتسموا معهم أسِرَّة النسيان؛ أما نحن فلن نسامح.
مرت سنوات طويلة اشتغلت فيها صناعة الترويض حتى انتبهنا لأنفسنا، وقد أصبحنا جهابذة الترويض الذاتي. نحن الذين ابتلعنا عبر كل غصصنا فكرة «الوطن اليهودي»، و«الأرض مقابل السلام»، والدولتين جنبًا إلى جنب، واحدة على جل التراب الفلسطيني وأخرى فيما تبقى. نحن الذين ابتلعنا فكرة غصن الزيتون، بدون بندقية. نحن الذين روضنا أنفسنا على اعتبار السلاح إرهابًا، والمقاومة حماقة، وصرنا نغضب إذا هدد أحدٌ ما أمن إسرائيل. عار أن نقتل من يقتلنا. عار أن نقاوم. عار أن نرعب الاستيطان العنصري. عار أن نشوش على الرقص في الملاهي التي تطل على الجحيم. عار أن نكفر بالسلام، حتى إذا كان سرابًا.
كل ما أرادوا أن نخجل منه، صرنا نخجل منه من تلقاء أنفسنا. نخجل أن نقول ولو بيننا وبين أنفسنا إن إسرائيل لا محل لها بيننا. لقد اغتصبت أرضًا ليست لها، وطهرتها عرقيًّا من أصحابها. منطق «العقل» و «التسامح»، ومنطق التاريخ الذي يمضي قدمًا ولا يقبل أن يرجع إلى الوراء، يفرضان علينا أن نناضل نحن أيضًا -عربُ وفلسطينيون- من أجل وجود إسرائيل، ومن أجل أمنها. وماذا في الأمر؟ هذه «واحة الديمقراطية» والتقدم في «صحراء التتار». إنها عضو طبيعي في جسد غير طبيعي، وإذا قلت عكس ذلك فأنت -شرعًا- تكره اليهود، كأن الهولوكوست، وأَوشْفِتس، وأفران الغاز، ليست صناعة أوروبية خالصة. تقول إسرائيل إن حماس قتلت يوم 7 أكتوبر يهودًا لأنهم يهود. ليست هناك أرض مغتصَبة، ولا شعب مقتلَع. لا يكفي أن تكون ضد قتل الأبرياء من أبناء المحتلين، بل يجب أن تكون ضد المقاومة التي قد تفضي إلى ذلك. وإذا لم تفعل، فإنك تكره اليهود.
«الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت»
وبالمقابل فإن الفلسطينيين في غزة سواء كانوا في حماس، «المنظمة الإرهابية» التي يريد الغرب والصهاينة أن ينقذونا من براثنها، أم لم يكونوا في حماس، لا حق لهم أن يقاتلوا مستعمر أرضهم ومغتصب حقهم الوطني. يجب ألا يموت يهودي واحد مقابل تحرير فلسطين؛ بينما بإمكان الإسرائيلي -سواء كان جندياً أو مستوطِنًا أو رجل دين متطرف- أن يقتل الفلسطيني لأنه فلسطيني. كل الفلسطينيين في غزة يجب أن يوضعوا في علبة «الأضرار الجانبية»؛ فكما يردد الصهاينة القتلة، وكما ردد حزب الكتائب اللبنانية طوال عقدٍ قبل مذبحة صبرا وشاتيلا وفي أعقابها، أن «الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت». والأطفال تحديداً لابد أن يكونوا وقود هذه «الأضرار الجانبية» حتى تجف السلالة الفلسطينية في المهد، قبل أن تجف فكرة الوطن الفلسطيني.
لذلك تمنح غزة مشهدًا لم تعرفه أية تراجيدية إنسانية على مر العصور، مشهد الخراب الممتد من الغلاف إلى البحر، وفيه يبحث جندي صهيوني عن رضيع يقتله، ويتأسف أنه لم يجد سوى طفلة في الثانية عشرة من عمرها، فقتلها دون أن يشفي غليله؛ أمعقول انقرض الرضع في غزة؟ يتساءل الجندي، ولو تمعن النظر جيدًا، لرأى بين الحجارة والأتربة دمية مبتورة هي كل ما تبقى من الحياة بعد المجزرة. هي ليست دمية جان جينيه التي رآها حية في خراب صبرا وشاتيلا، ولكنها دمية تحرس أرواح الأطفال، ومن الممكن أن تكسر هي الأخرى شهوة القتل التي يدافع بها الكيان الصهيوني عن مشاريع السلام.
قديمًا كان يردد المحتل بعد كل تهجير وكل مجزرة «الكبار سيموتون والصغار سينسون»، ولكن اليوم لا أحد يكبر في غزة، ولا أحد يحيا، ولا أحد يموت، ولا أحد ينسى. هذه الآلام الرهيبة، وهذه الجروح المفتوحة، لن تمر من الواقع إلى اللغة، ولن تجد لها مكانًا في أية هدنة، ولا في أية اتفاقية سلام، ولا في أي مستقبل. ستظل هنا جاثمة على صدر الإنسانية التي انقسمت بشكلٍ لا مثيل له إلى نظامٍ دولي ضالع في الجريمة، وإلى رأي شعبي على امتداد كوكب الأرض يهتف باسم فلسطين.
كم مرة وقفنا عند خطاب العقل البارد الذي ينحو باللائمة على حماس، لأنها بتلك الضربة الصاعقة يوم 7 أكتوبر فتحت على الشعب الأعزل في غزة أبواب الجحيم، وألقت كل شيء في غيب بلا أفق، أو ينحو باللائمة علينا جميعًا، لأننا وضعنا كل تحفظاتنا السياسية والفكرية على حماس جانبًا، وانتصرنا لفعل المقاومة؟ بل وكيف يكون العقل باردًا لحد اغتيال الحق في الحياة؟ وماذا يفعل الفلسطيني أمام الجدار العنصري الذي يراهن على الزمن الذي يقتل الكبار، ويسرق ذاكرة الصغار؟
إسرائيل لا تريد أوسلو، ولا تريد قرارات الأمم المتحدة، ولا تريد حل الدولتين. لا تريد السلطة في الضفة الغربية، ولا تريد حماس في غزة. لا تحب السنوار، ولا تحب أبو مازن. لا تقبل الفلسطيني مواطنًا فلسطينيًا، ولا تقبله مواطنًا إسرائيليًا. إسرائيل تحتجز البرغوثي بأربع مؤبدات، وتلاحق الضيف بسبع محاولات اغتيال. تختطف كل يوم من الضفة الغربية شبابًا لاحتجازهم بدون محاكمة في سجون الرعب والإهانة، وتغتال في أي مكان واحدًا من لائحة الإعدام التي وضعتها بدون محاكم ولا قضاة. وماذا يفعل الفلسطيني أمام هذا الجدار العنصري الذي يؤمن عسكريًا وأيديولوجيًا بأن أمن إسرائيل لن يتحقق إلا بزوال فلسطين وطنًا وفكرة، وحلًا، وشعبًا، لأن الشعب الإسرائيلي يوجد في الأرض الفلسطينية. والشعب الفلسطيني مجرد «شعب زائد» بتعبير إلياس صنبر، والشعب الزائد تتكفل الآلة العسكرية الاستعمارية اليوم بإنقاصه من الحساب.
ومن المواقف الساخرة في هذه التراجيديا، أن إسرائيل بعد حوالي خمسة وعشرين ألفًا من القتلى المدنيين، وبعد قتل شعب من الأطفال، وبعد تدمير المساكن والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وبعد قتل كل أمل في الما بعد، بدأت تقذف غزة بأفكارها عما بعد الحرب؛ بينما لا شيء يمكن أن يكون غدًا لهذا الذي حدث. هل يتصور أحد مؤتمرًا دوليًا عن فلسطين؟ هل يمكن أن نعود بقلوب خفيفة إلى حل الدولتين كما تزعم الولايات المتحدة التي تطلب من الحمل أن ينام في أحضان الذئب؟ هل يمكن أن تحل إسرائيل نظامها العنصري وتسمح بوجود فلسطين والفلسطينيين؟ هل ستخرج من أحشاء الشعب الإسرائيلي معجزة تسمح بانبثاق دولة واحدة بشعبين؟ هل سيدرك المستوطنون اليهود أن أمانهم الوحيد لا يوجد إلا في بلدانهم الأصلية؟ كل سؤال من هذه الأسئلة يمكن أن نجيب عليه بكلمة واحدة ووحيدة: مستحيل!
لكن إسرائيل التي لا تعرف المستحيل، ترى أن الغد، هو إفراغ غزة من قادة حماس، وتهجير شعبها إلى دولة شقيقة، ريثما ترتب اغتيالهم واحدًا بعد الآخر. وإذا أمكن إخلاء غزة من الشعب بتواطؤ دولة شقيقة، فلا بأس. هناك مشروع جاهز لاستيطان غزة. والضفة الغربية؟ إنها أيديولوجيًا وأمنيًا جوهر الدولة اليهودية، إذن لنجعل التفسخ السياسي مقدمة لابتلاع الضفة.
الغد بعد الإبادة، في عقلية إسرائيل هو اجتثاث الحق الفلسطيني. من الممكن لما يسمى بالمنتظم الدولي، ولما يسمى بالعالم العربي، أن يتفرج على هذا المصير التراجيدي آسفًا «أسف العقلاء». ولكن الشعب الفلسطيني لا يمكنه أن يتفرج؛ لا يمكنه إلا أن يقبض على هذه الجمرة حتى يطفئها أو تحرقه، أن يقاتل من أجل استعادة وطنه دون حساب لما يقدر عليه أو لا يقدر عليه. كل الذين انتزعوا حريتهم عبر التاريخ كانوا ضعافًا مقهورين أمام وحش الاضطهاد والاستعمار، ولكنهم انتزعوها وأرغموا الجبابرة على التسليم وأنوفهم في الأرض.
سيبدو غريبًا أن يدعو المؤمنون بالقيم الكونية، والمؤمنون بالسلام إلى القتال وإلى المقاومة الشاملة. ولكن بعد كل هذا الذي حدث، لا يمكن أن نرمي بالمقاومة وراء ظهورنا كأنها مجرد فكرة عفا عليها الزمن. لا يمكن أن تصبح غزة غدًا ترابًا إسرائيليًا، ولا يمكن أن تعود غدًا إلى نفسها بعد كل الذي فقدته. ليس لها خيار سوى أن تخاطب العالم بدمارها، أن تخاطب العقلاء الحقيقيين، والمؤمنين الحقيقيين بالسلام، سواءً داخل إسرائيل أو في المجتمع الدولي بلغة الحقيقة، وأن تريهم في المرآة وفي كل لحظة وجوههم مختلطة بأشلاء فلسطين.
بعد كل هذا، لا يمكن أن نقول للفلسطينيين: «تعقلوا إنهم أقوى منكم»