يواصل الباحث والمؤرخ عبد الأحد السبتي مراكمة الأبحاث، حتى إن أسدل الستار على مسيرته، مدرسا ومحاضرا، بجامعة محمد الخامس في الرباط، إذ أصدر في الآونة الأخيرة كتابا آخر، لا تقل أهميته وفائدته العلمية عن كتبه السابقة منها، على الخصوص، علامتاه البارزتان: "من الشاي إلى الأتاي" و"بين الزطاط وقاطع الطريق".
والمقصود هنا عمله الضخم الصادر مؤخرا ضمن منشورات المتوسط، بعنوان لافت للنظر هو: "من عام الفيل إلى عام الماريكان: الذاكرة الشفوية والتدوين التاريخي." ويلتقي القارئ، في هذا الكتاب، مع جملة من المقاربات المنهجية التي تقرأ وتعرض تمثلات الذاكرة الفردية والجماعية العربية عموما، والمغربية، حول الأحداث والوقائع والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
أضف إلى ذلك أن الكتاب تحليل متأن لأبعادها وتأثيراتها في التدوين والكتابة التاريخية، يسنده الكاتب بتقديم نصوص مختلفة، بل وشهادات وتسجيلات لهذه الذاكرة.
يطرح السبتي، في كتابه هذا الذي يقع في 548 صفحة من الحجم المتوسط، إشكالية واضحة تروم دراسة الحدث التاريخي، انطلاقا من العلاقة القائمة بين الذاكرة الشفوية والثقافة المكتوبة. ولعل الدافع إلى هذا الاقتراح الإشكالي تخطي ما انتبه إليه الباحثون في المدرسة الهندية التي تعرف باسم 'دراسات التابع'.
لقد انتبه رموز هذه المدرسة، من أمثال 'راناجيت غوها' و'ديبيش شاكرابارتي' و'غياتري سبيفاك'، إلى أن معضلة التاريخ الهندي تكمن في أنه يمثل مدونة كولونيالية محضة؛ أي أن التاريخ والثقافة اللذين يدرسان بالمدرسة الهندية هما نتاج رؤية خارجية لا تعكس الذات الهندية إلا في الحدود التي تخدم المشروع الكولونيالي.
من هنا جاء المشروع الفكري والعلمي لرموز هذه المدرسة الرامي إلى إعادة كتابة هذا التاريخ انطلاقا مما سجلته ذاكرة الإنسان الهندي ومروياتها المختلفة.
ومما لا شك فيه أن هذا الاختيار يمثل المنحى الطاغي فيما يسميه عبد الأحد السبتي بـ'التاريخ الاجتماعي'، ذاك الذي ينطلق من قاعدة الهرم الاجتماعي. غايته من وارء هذا الاختيار، كما يبدو، تجاوز عوائق المقاربات والتحليلات التي تنطلق من الوثيقة التاريخية الرسمية، والتي لا تهتم سوى بالرجال العظام والأبطال الكبار والأحداث البارزة، إلخ.
كما يروم هذا الاختيار الدفع بالبحث التاريخي، بعيدا عن المقاربات البنيوية المتأثرة بالمدرسة الفرنسية أساسا، إلى أفق أرحب يستجلي الحدث والواقعة التاريخيين من مصادر متعددة، بغية الكشف عن بنياتهما وتجلياتهما ودلالاتهما وامتدادات تأثيراتهما التاريخية عبر الزمن. ولعل هذا ما جعل الكاتب يهتم بالذاكرة الشفوية، بمختلف أوجهها وتمظهراتها، ويعتمد على نصوص أخرى، كالنص الأدبي مثلا، بل يعيد الاعتبار لبعض تعبيرات الثقافة الشعبية، كالشائعة والنكتة مثلا.
كما يروم هذا الاختيار الدفع بالبحث التاريخي، بعيدا عن المقاربات البنيوية المتأثرة بالمدرسة الفرنسية أساسا، إلى أفق أرحب يستجلي الحدث والواقعة التاريخيين من مصادر متعددة، بغية الكشف عن بنياتهما وتجلياتهما ودلالاتهما وامتدادات تأثيراتهما التاريخية عبر الزمن. ولعل هذا ما جعل الكاتب يهتم بالذاكرة الشفوية، بمختلف أوجهها وتمظهراتها، ويعتمد على نصوص أخرى، كالنص الأدبي مثلا، بل يعيد الاعتبار لبعض تعبيرات الثقافة الشعبية، كالشائعة والنكتة مثلا.
يقوم هذا الاختيار على وعي بما يسميه السبتي بـ'الظاهرة الاجتماعية الشاملة'؛ أي بانشغال المجتمع بإنتاج رؤى وتصورات وتمثلات عن الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية، بمستوياتها المختلفة، لا من حيث قيام الدول وحركات السلطان فحسب، بل أيضا من حيث الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية وغير ذلك، مع إبراز مساهمة قاعدة الهرم الاجتماعي في هذه الأحداث والوقائع.
والمقصود من هذا أن السبتي لا يهمل الحدث التاريخي في بعده الرسمي- النخبوي إذا صح هذا التعبير-، إذ يسعى تحليله، على الأصح، إلى معالجة مساهمة الفرد والقبيلة- أو المجتمع- والدولة في حصول الحدث وتطوره.
لا يحيل 'عام البون' أو 'عام يرني' أو 'عام البقولة' أو 'عام البون'، على سبيل المثال، فحسب إلى المجاعات التي عاناها المجتمع المغربي (1945- 1946)، بل أيضا إلى تدبير الدولة لظرفيات اجتماعية واقتصادية طارئة وصعبة، وإلى عواقب الحماية وتحديات الاستعمار والمقاومة، وإلى التحولات الاجتماعية والثقافية العامة في ذلك الوقت، وإلى آثار الحرب العالمية الثانية، إلخ.
كما لا يحيل 'عام الرفسة' فحسب إلى الصراع بين القايْد عيسى بن عمر وأولاد زيد على المجال الترابي، بل كذلك إلى طبيعة الحكم المخزني، التي تكشفها بوضوح نصوص الذاكرة الشفوية، من قبيل أغاني خربوشة. ذلك أن سرديات 'عام الرفسة' توضح الرغبة في بسط النفوذ من جهة أولى، ومقاومة النفوذ المخزني من جهة ثانية.
من ناحية أخرى، إذا كان تحليل تشابكات الحدث التاريخي خلال فترة الحماية والزمن الراهن يستند إلى تنوع المصادر التي يسمح بها، منذ قرن على الأقل، اتساع دوائر التدوين والكتابة، كالكتابة الأدبية والصحافية، وإمكانيات البحث الميداني، فإن احتمالات إنجازه تتضاءل، كلما ركز الباحث على مرحلة تاريخية موغلة في القدم (وإن كان القارئ سيلاحظ أن السبتي يشتكي، في الصفحة 420، من ندرة الشهادات المكتوبة حول 'عام الجوع').
وبالموازاة مع ذلك، تتناقص إمكانية الاعتماد على الذاكرة الشفوية، إن لم نقل إنها تصير نادرة أو شبه غائبة، بالنظر إلى قلة المصادر التي تسجل نظرة الفرد والمجتمع وتمثلاتهما للظواهر الاجتماعية والأحداث التاريخية.
غير أن السبتي استطاع أن يتجاوز هذا العائق، من خلال استنطاقه نصوصا مغايرة، مثل السيرة والقصيدة والزجل (العيطة والملحون) والحكاية والخرافة والأهزوجة والأنشودة والنكتة والأغنية والأمثولة والفتوى وغير ذلك.
وهنا، يرى مؤلف الكتاب أن الثقافة الشفوية- التي انتقلت بالطبع إلى المكتوب- تكشف، من جهة ثانية، الكثير من العلاقات المتشابكة والمعقدة بين الفرد والمجتمع والدولة، ومن جهة ثانية تسلط الضوء، بطرق خاصة، على السياقات العامة والخاصة التي تحكمت في إنتاج حدث تاريخي ما، وفي تطوراته وتأثيراته.
غير أن اللافت للنظر، في هذا السياق، هو أن السبتي يرى أن الثقافة المغربية الشفوية التقليدية تتسم بخصائص الثقافة المكتوبة، كونها تعبر عن المعيش اليومي، وتتسم في الآن ذاته بالطابع المعياري الذي تتميز به الثقافة المكتوبة. بل إن الثقافتين متداخلتان إلى حد كبير، حسب المؤلف.
قد يبدو هذا الموقف غير منطقي، لأنه يعكس تناقضا صارخا، بما أن الثقافة الشفوية تقوم على الاسترسال، بينما تنبني الثقافة المكتوبة على التدقيق والصرامة والتكثيف، فضلا عن مقومات أخرى تغيب كلية في الثقافة الشفوية. لكن لصاحب "التاريخ والذاكرة" ما يبرر هذا المنظور المتسم بالمفارقة.
يقول السبتي في الصفحة 23: "نحن، إذن، أمام اشتغال شفوي للمكتوب، وهي ظاهرة استمرت في المغرب خلال قرون عديدة، حتى بدايات القرن العشرين، من خلال تعليم يرتكز على السماع والذاكرة والرواية والإجازة، وصمدت هذه الأساليب بسبب تغييب الطباعة وندرة الكتاب المخطوط، وتوقف نسبة كبيرة من المتعلمين عند مستوى الكتاب القرآني."
غير أن الجانب الضمني في اختيار المزاوجة بين الثقافتين يكمن في توسيع دائرة المصادر والمراجع؛ ومن ثمة، إمكانية فتح التحليل على أفق أرحب، عملا بالاقتراحات النظرية للمفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي، الذي أعاد الاعتبار للثقافة الشعبية، بوصفها مدخلا مهما من مداخل تفكيك بنيات التمثل والتفكير والعقلنة.
من هنا، يمكن القول إن كتاب "من عام الفيل إلى عام الماريكان" ليس مجرد "تدوين تاريخي مفصلي يرتكز على الذاكرة الشفوية،" كما جاء في كلمة الناشر، ويتخذ من ظاهرة التدوين بـ'الأعوام' مدخلا للتنقيب في أحداث ومجالات متعددة، تهم الأوبئة والأمراض والمجاعات والكوارث الطبيعية والحروب والمعارك العسكرية ومقاومات القوى الاستعمارية.
يمثل الكتاب، إلى جانب ذلك، مقاربة نظرية مركبة تعيد الاعتبار للذاكرة الشفوية الغنية بمحكيات وسرديات وتمثلات ومعتقدات عن بعض الأحداث التاريخية البارزة، وتنظر بعين ناقدة إلى المصادر الرسمية المحلية، وتتأمل بعقل متبصر في الكتابات الاستشراقية، الغربية عموما، والفرنسية خصوصا.
وهي مقاربة لا تنبني فحسب على النظريات والمناهج التاريخية المعروفة، بل تعتمد أيضا عُدَّة علمية متنوعة، تتقاطع فيها، إلى جانب البحث التاريخي، علوم إنسانية واجتماعية أخرى، مثل السيوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية والنقد الأدبي وغيرها.
وما يستدعي اللجوء إلى هذه المقاربة المركبة هو طابع الموضوع المتعدد والمتشعب في تعبيراته وبنياته وسياقاته وأبعاده، ناهيك عن أن ظاهرة التأريخ بـ'الأعوام' تشي بتحقيب فضفاض في كثير من الحالات، مثل 'عام السيبة'، كما يقول السبتي.
ولعل الصعوبة تكمن، ختاما، في تقديم دراسة موضوعية في مجال البحث التاريخي المغربي المعاصر، من خلال معالجة قضية التدوين بـ'الأعوام'، اعتمادا على الذاكرة الشفوية، وإن كان هذا الاختيار لا يستكين إليها وحدها، بل يعتمد كذلك على الوثيقة الرسمية، وعلى البحوث التاريخية الحديثة والمعاصرة، وعلى الدراسات الميدانية المختلفة- أو ما يسميه السبتي اختصارا بـ'تقاطعات الذاكرة الشفوية والثقافة المكتوبة'.
يمكن التمثيل على هذه التقاطعات ببعض الإفادات والشهادات الشفوية، كتلك التي استقاها الباحثان محمد زرنين وحسن رشيق، أو ببعض النصوص الزجلية، مثل قصائد الملحون، أو حتى ببعض النصوص الأدبية المكتوبة التي تتكئ على توظيف الذاكرة بقوة، مثل روايات محمد شكري ومحمد الأشعري، الخ.
لا بد من القول إذاً إن طبيعة الموضوع تقتضي هذا التنوع في المصادر والمناهج، حتى تتحقق عملية تفكيك بنيته الداخلية، وربطها بالسياقات والامتدادات والتأثيرات التاريخية المتعددة، والوصول أخيرا إلى فهم التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المغرب في كل حقبة، أو في كل دولة.
هكذا، يمكن القول إن مساهمة السبتي هذه هي مساهمة في هدم الطريقة التقليدية للبحث والكتابة التاريخيين، وفي بناء أفق جديد لتلقي الفكر التاريخي.