تعيش المملكة العربية السّعودية حالةً من التحوّل الشامل في مجال الاستثمار الرياضيّ، إذ تعكُف على تنفيذ استراتيجية جديدة، يمكن وصفها بالجريئة و"الصّادمة"، جعلتها محَطّ أنظار العالم في الآونة الأخيرة.
فقد أضحت الدولة الخليجية حديث وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية في الفترة القليلة الماضية بالأخبار "المدوّية" عن انتقال عددٍ من أبرز لاعبي كرة القدم العالميين إلى أندية سعودية كوجهةٍ جديدة لنجوم الكرة الأوروبية.
وكان النجم البرتغالي في طليعة القائمة بانضمامه إلى نادي الاتحاد السّعودي في ديسمبر/كانون الأول 2022 قبل أن تلتحق به مجموعة مهمّة من الأسماء أبرزها الفرنسيان كريم بنزيمة ونغولو كونتي، وأخيراً النجم البرازيلي نيمار دا سيلفا المنضمّ حديثاً إلى نادي الهلال.
غير أنّ التوجّه الاستثماري الجديد في السّعودية لم يبدأ بانضمام رونالدو إلى النصر، ولا يقتصر على كرة القدم فقط، بل يعود إلى بضْع سنواتٍ، ويمتد ليشمل مجالاتٍ رياضية أخرى متنوعة. وفي كرة القدم نفسها يتجاوز الأمر استقدام اللاعبين العالميين إلى استضافة بطولات وفعاليات كروية عالمية كبرى على نحوٍ جذب اهتمام العالم إلى البلاد.
وقد كانت البداية في عام 2019 عندما استضافت المملكة كأس العالم للأندية FIFA 2019، قبل أن تستضيف أحداثاً أخرى مهمّة مثل كأس السوبر الإسباني 2023وكأس السوبر الإيطالي 2023. كما كانت السّعودية مسرحاً لعددٍ من الفعاليات المهمّة في الرياضات الأخرى، فاستضافت رالي داكار 2021، وستستضيف سباق جائزة السّعودية الكبرى للفورمولا 1 لعام 2024 للمرّة الثالثة على التوالي، فضلاً عن استضافتها بطولة العالم للسباحة FINA 2022، وعدداً من عروض المصارعةالحرّة WWE، ضمن مجموعةٍ من الأحداث الرياضية العالمية الكبرى.
تحوّل جذريّ
جذبت هذه الأحداث العالمية الانتباه إلى التحوّل الجاري في السّعودية، ولفتت أنظار العالم إلى أنّ المملكة - التي ظلّت منغلقة وتتّصف بالطابع المحافِظ والمتشدّد لعقودٍ من الزمن - تشهد تغيّراً جذرياً بقيادة وليّ العهد محمد بن سلمان، الذي يمارس سلطاتٍ واسعة النطاق في البلاد، ويُنظر إليه بصفِتِه "عرّاب" استراتيجية التحوّل الوطني "رؤية السّعودية 2030".
وفي إطار هذه الاستراتيجية، بدا واضحاً أنّ الإصلاحات الاجتماعية في الداخل تعمل على تغيير صورة المملكة على الصعيد الدولي، وهو ما صرّح به وليّ العهد في مقابلةٍ على هامش منتدى مبادرة مستقبل الاستثمار في عام 2017.
إذ حرص محمد بن سلمان، منذ بداية عهده، على تهميش الشرطة الدينية، وسمح للنّساء بقيادة السيارات لأول مرّة في تاريخ البلاد، وأعادَ افتتاح دُور السينما، وبدأت البلاد في منح تأشيرات سياحية في ضوء تنامِي اهتمام الدولة بالمنشآت والمرافق السياحية الوطنية، مثل مدينة نيوم ومشروع البحر الأحمر، والوجهة السياحية، القِدّيَّة، التي توصَف في رؤية 2030 بأنّها"العاصمة المستقبلية للترفيه والرياضة والفنون".
وفي سياق رؤية السّعودية 2030 أيضاً، توسّعَ نطاق الاستثمارات الرياضية لصندوق الاستثمارات العامة، وهو صندوق الثروة السيادية في السّعودية، فاستحوذ في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 على نادي نيوكاسل الإنجليزي بنسبة 100% في صفقة بلغت قيمتها أكثر من 300 مليون جنيه استرليني، كما أعلن وزير الرياضة السّعودي في يونيو/ حزيران 2023 انتقال مِلكية أندية الاتحاد والأهلي والنصر والهلال، وهي أكبر أربعة أندية في المملكة،إلى الصندوق بنسبة 75%.
ولم تقتصر استثمارات الصندوق الرياضية على كرة القدم، بل امتدت إلى قطاع الألعاب الإلكترونية أيضاً؛ ففي فبراير/ شباط 2023 رفع الصندوق حصّته في شركة ألعاب الفيديو اليابانية "نينتندو" من 7.08% إلى 8.26%، ليصبح بذلك أكبر مساهمٍ في الشّركة.
ولم يكتفِ صندوق الاستثمارات العامة بذلك، بل شملت استثماراته رياضة الغولف، إذ موّلَ في عام 2022 إطلاق بطولة "LIV Golf" للغولف واستقطبَ كبار نجوم اللعبة العالميين للمشاركة فيها مقابل مبالغ ضخمة، كما أعلن في يونيو/ حزيان الماضي، في بيان مشترك مع رابطة لاعبي الغولف المحترفين "PGA Tour"، وجولة موانئ دبي العالمية "DP World Tour"، عن اتفاقٍ تاريخيٍّ لدمج عملياتهم لتأسيس أكبر كيانٍ في لعبة الغولف على صعيد العالم.
قوة رياضية جديدة
يعتقد بعض المراقبين والمحللين أنّ حجم الإنفاق السّعودي الضخم على بعض الرياضات العالمية من شأنه أن يُحدث تغييراً ليس على الصعيد الداخلي في السّعودية فحسب، بل على مستوى العالم ككُل.
ويرون أنّ الاستراتيجية الحالية للسعودية في وسْعها إحداث زعزعةٍ لمنظومة الرياضة العالمية بأسْرها، بانتزاع المبادرة من الكيانات الغربية التقليدية الراسخة المتمثلة في البطولات والأندية العريقة وبروز السّعودية كقوةٍ فاعلةٍ جديدة يدعمها اقتصاد قويّ وتدفقات مالية نفطية وسخاء غير محدود في الإنفاق.
ما يشير إلى نُشوء مشهدٍ عالميٍّ جديد في الرياضة تتغيّر فيه الكثير من المُعطيات والموازين في ضوء التوظيف الجديد للقدرات المالية الهائلة للقوى الصّاعدة. وهي وجهة نظر وجيهة بالنظر إلى الموارد المالية الضخمة التي تدعم استراتيجية السّعودية في الاستثمار الرياضي.
إذ إنّ صندوق الاستثمارات العامة السّعودي يُدير أصولاً قيمتها 776 مليار دولار في أغسطس/ آب 2023، وفق معهد صناديق الثروة السيادية، فضلاً عن ملكية الدولة لشركة أرامكو التي بلغت قيمتها السوقية، في 15 أغسطس/ آب، 8.325 تريليون دولار، حسب بلومبيرغ.
وفضلاً عن ذلك، فإنّ ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة إنتاج النفط يعني أنه من المتوقع أن تتجاوز صادرات السّعوديةالنفطية 166 مليار دولار هذا العام، أو 16% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق منصة "إكونوميست".
تنويع اقتصادي أم غسْل رياضي؟
تصرّ السلطات السّعودية على أنّ هذه الاستثمارات الضخمة التي تضخّها في الرياضة تأتي في إطار استراتيجية التحوّل الوطني التي ترمي إلى تنويع مصادر دخل البلاد والحدّ من اعتمادها على واردات النفط، والترويج للمملكة كوجهة سياحية ورياضية وترفيهية عالمية.
لكنّ سجلّها المثير للجدل في مجال حقوق الإنسان جعلها عُرضة لانتقادات مستمرّة وَصفت ما تفعله بأنه "غسْل رياضي" ومحاولات لتلميع صورة وليّ العهد في أنظار العالم.
لا سيّما بعد الاتهامات الواسعة التي طالت السّعودية بشأن قمْع المعارضين والحقوقيين وسجْن رجال الدين الذين لم يُظهروا دعماً لسياسات محمد بن سلمان، خاصةً بعد مقتل الصحافيّ السّعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول عام 2018، والحرب التي شنّها التحالف بقيادة السّعودية على اليمن.
غير أنّه في الوقت الذي لم تتوقف فيه الانتقادات للسعودية والتشكيك بالأهداف الحقيقة لهذا التوجّه الجديد، فإنّ الاستثمار الرياضيّ للمملكة في الرياضة العالمية يبدو حتى الآن ناجحاً، على الأقل في الترويج للدولة وذيوع صِيتها. بل يبدو أنه بدأ يؤتِي ثماره كذلك في تحسين الصورة السياسية للدولة رغم ما يُحيط بها من جدل واتّهامات.
فعلى سبيل المثال، تراجعَ الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن موقفه المتشدّد تجاه السّعودية في عام 2019 عندما تعّهد بجعلها دولة "منبوذة"، وأصبح على ما يبدو حريصاً على إصلاح العلاقة مع السّعودية الحليف التاريخي للولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال تأثير العوامل الاقتصادية والجيوسياسية على المشهد العالمي، ومنها أسعار الطاقة والحرب الروسية الأوكرانية وإرهاصات الركود الاقتصادي، التي أعادت ترتيب الأوراق وفرضت واقعاً أصبحت فيه العلاقات الدولية والمواقف السياسية أكثر ارتباطاً بالاستثمارات التجارية وما يترتب على ذلك من نفوذٍ وتأثير وهيمنة.
يمثّل الإنفاق السّعودي السخيّ على الرياضة، جزئياً، انعكاساً للقوى المؤثرة داخل المملكة: التدفّق الجديد من أموال النفط، وطموح محمد بن سلمان في إنشاء مجتمع ذي طابع ليبرالي من الناحية الاجتماعية، وتحسين سمعته المشوّهة في الغرب.
لكنها، بالقدْر نفسه، تعكس أيضاً إيمان السلطات السّعودية بوجود فرصة جديدة في الرياضات العالمية: لجذب جماهير وسيّاح بعدد أكبر واستقطاب فعاليات أكثر، وإطلاق أنواع مختلفة من البطولات والمنافسات.
ويتضمن أحدث تقرير سنوي أصدره صندوق الاستثمارات العامة السّعودي في أغسطس/ آب 2023، الإعلان عن شركةٍ استثمارية خاصة بالرياضة، ما يشير إلى خططٍ مستقبلية أوسع في هذا المجال.
وإذا كان من المتوقع أن يسجل بنزيمة ورونالدو ونيمار عدداً وافراً من الأهداف في الدوري السّعودي، فالمملكة نفسها لديها الكثير من الأهداف السياسية والدبلوماسية والترويجية التي تبتغي تحقيقها.