لم يتلق غاري لينيكر طوال مسيرته الاحترافية في ملاعب كرة القدم بطاقة جزاء واحدة، صفراء أو حمراء، طوال مسيرته الكروية التي امتدت 16 عامًا وشملت أكثر من 650 مباراة مع الأندية والمنتخب. لكن للأسف، فإن تمسكه بروح اللعب النظيف خارج الملعب كان السبب في إنهاء مسيرته المهنية في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” ، بعدما ظل أبرز وجوهها وأعلى مقدميها أجرا، بسبب برنامجه الشهير "ماتش أوف ذا داي" الذي بدأ تقديمه في عام 1999.
السبب الرسمي لـ "استقالة" لينيكر (ويقول المطلعون على الأمر إنه من الواضح أنه غادر لتفادي فصله من قبل إدارة “بي بي سي”) هو أنه أعاد نشر مقطع حديث للمحامية الفلسطينية -الكندية ديانا بوتو، أضاف إليه محرر فيديو غير معروف تعليقًا يقول: "شرح الصهيونية في دقيقتين" مع رمز تعبيري لفأر. سارع مؤيدو إسرائيل إلى الادعاء بأن لينيكر كان يكرر دعاية معادية للسامية تصور اليهود كفئران، وهو ما كان من أساسيات دعاية ألمانيا النازية البشعة.
إلا أن رسالة "بوتو" كانت دقيقة تاريخيًا وخالية تمامًا من أي خطاب عنصري. إضافة إلى ذلك، يقول لينيكر، إنه لم يلاحظ حتى وجود الرمز التعبيري المسيء، وأنه ما كان ليشارك المقطع لو انتبه إليه. فاعتذر وحذف المنشور. لكن ذلك لم يكن كافيًا. فمنذ أن بدأ لينيكر يتحدث علنًا عن العدالة لفلسطين، أصبح مستهدفا من قبل مؤيدي إسرائيل. ومن المعقول الافتراض بأن أصدقاءهم في مواقع النفوذ داخل أكبر هيئة إعلامية عامة في العالم قرروا هذه المرة أنه لا بد أن يرحل.
من غير المعقول، في أي سياق آخر، تخيل محلل كروي يُطرد بسبب خطأ كهذا. لا أحد يزعم أن لينيكر نشر رسالة معادية للسامية عن عمد. لكن منتقديه الأشد قسوة، وعلى رأسهم مجموعة تُدعى "حملة مناهضة معاداة السامية"، وهي منظمة تدافع عن إسرائيل بشكل سافر، ادّعوا بشكل سخيف أن لينيكر استغل منصبه ليروج "لسياسات دعائية متزايدة... بل ويعزز رسائل لا إنسانية ومتطرفة".
لا توجد دولة أخرى يمكن لمؤيديها إطلاق مثل هذه الادعاءات الخارجة ضد أحد عمالقة الإعلام البريطاني وأن يؤخذوا على محمل الجد. لكننا نتحدث عن إسرائيل؛ نحن في عام 2025، بعد حوالي عامين على أول إبادة جماعية تُبث مباشرة للعالم؛ ونتحدث عن “بي بي سي”، التي اتخذت قرارات تحريرية مروّعة وجبانة لصالح إسرائيل منذ هجمات السابع من أكتوبر 2023. ويعتقد العديد من النقاد أن هذه القرارات ساهمت في التغطية على التدمير المتعمد للحياة وكل مقوماتها في غزة منذ عملية طوفان الأقصى.
كانت الحجة ضد لينيكر أنه، انسجامًا مع مهمة “بي بي سي” في تقديم تغطية إخبارية متوازنة، ينبغي أن يظهر موظفوها بمظهر الحياد في القضايا المثيرة للجدل، بما في ذلك مقدمو البرامج الرياضية، ولا سيما الأسماء الشهيرة. وقد رفض لينيكر هذا الموقف في مقابلة مؤخرا، قائلاً إن قضايا مثل السياسة الداخلية البريطانية يجب أن تُعامل بمعيار الحياد، لكن لماذا تحظى إسرائيل بالامتياز نفسه الذي لا يُمنح لدول بعيدة أخرى؟ ثم أشار إلى مقولة قديمة بين الصحفيين تؤكد أهمية تقديم الحقائق على الرأي: "إذا قال أحدهم إن الجو ممطر، وقال آخر إن الجو مشمس، فليس من الصواب نقل وجهتي النظر على قدم المساواة، بل يجب أن ننظر من النافذة ونقول ما نراه!". بكلمات أخرى، لا يمكنك اتباع نهج "رواية الطرفين" عندما تُرتكب أسوأ الجرائم في العالم، ويعترف بها الجناة بل ويحتفلون بها. القيام بذلك يرقى إلى التواطؤ مع المجرم.
لكن الحقيقة في بريطانيا اليوم، وعلى الأرجح في الغرب عمومًا غير ذلك. فإذا نظرت من النافذة ورأيت إسرائيل تمطر غزة بكل ما تملك من قوة عسكرية، وتجوع سكانًا محاصرين، بينما يعلن ساستها على الملأ رغبتهم في قتل أو طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، فإن من الحكمة أن تلزم الصمت، لأنك إن لم تفعل، فقد تعرض حياتك المهنية للخطر، أو ما هو أسوأ من ذلك. لقد تم اعتقال عدد من الصحفيين البارزين المؤيدين لفلسطين بموجب قوانين مكافحة الإرهاب في بريطانيا، وقد يواجهون أحكامًا بالسجن بتهمة... لا نعلم ما هي بعد، لكن الجريمة الحقيقية كانت ببساطة "قيامهم بعملهم بطريقة أظهرت إسرائيل بصورة سيئة". وهذه إدانة لمهنة الصحافة البريطانية بأسرها، أن مثل هذه القصة لم تحظ بأي تغطية في وسائل الإعلام الرئيسية. دعوني أكرر ذلك، ليترسخ في الأذهان: اعتقال عدد من الصحفيين المستقلين البارزين الذين انتقدوا إسرائيل، لم يتم نشره من قِبل أي صحيفة وطنية أو قناة تلفزيونية.
المثير للسالمثير للسخرية، هو أن حكومتنا ووسائل إعلامنا الرئيسية، رغم كل محاولاتها لتحريف الواقع، قد خسرت بالفعل الحرب في سعيها للسيطرة على السردية فيما يخص إسرائيل. فوسائل التواصل الاجتماعي لا يمكن التحكم بها من قِبل مجموعة من رؤساء التحرير النافذين أو أباطرة الإعلام. القصص المصورة القادمة من غزة والضفة الغربية وغيرها على تيك توك وإنستغرام قوية للغاية، ومؤثرة جدًا، لدرجة لا يمكن تجاهلها إلا من قِبل أشد أنصار إسرائيل تعصبًا (أو معتنقي الإسلاموفوبيا). وربما لهذا السبب تحديدًا حظي لينيكر بدعم شعبي هائل، وسخط كبير على “بي بي سي” لانصياعها للضغوط التي طالبت بإبعاده.
فمقال الصحفية كاتي رازال، محررة شؤون الثقافة والإعلام في ال “بي بي سي”، بعنوان "غاري لينيكر: نهاية مؤسفة لمسيرة في ال “بي بي سي"، تعرض لنقد واسع من قِبل المستخدمين على حساب المؤسسة في منصة X ،وعلّقت المستخدمة @TheBluSocialist معبرة عن رأي الكثيرين: "سيذكره التاريخ بكل تقدير... أما “بي بي سي” فستُعرف بأنها المؤسسة الإعلامية المتواطئة في الإبادة الجماعية".
مقال "رازال" احتوى على عدة عبارات مثيرة للسخرية، منها قولها إنه "كان من الصعب تصور استمرار لينيكر في تقديم البرامج للمؤسسة، خاصة في وقت تتورط فيه “بي بي سي” في جدل آخر حول فيلم وثائقي عن غزة، تم سحبه بعد اكتشاف أن الراوي الطفل هو ابن مسؤول في حماس". في الواقع، فإن سحب فيلم "غزة: كيف تنجو في منطقة حرب" لم يكن سوى مثال آخر فاضح على خضوع المؤسسة الإعلامية لضغوط اللوبي الإسرائيلي (وهو ما كتبت عنه تمودا في مارس الماضي). لكن – مثلما حدث مع غاري لينيكر – أظهر الفيلم إسرائيل بصورة سيئة، وكانت النتيجة حتمية.
وربما الأمر الأكثر إثارة للجدل (والذي تجاهلته رازال وكل صحفيي “بي بي سي” الآخرين) هو أن فيلمًا وثائقيًا جديدًا بعنوان "غزة: المسعفون تحت النار"، يحقق في الهجمات الإسرائيلية على المستشفيات والمسعفين في غزة، يتم قمعه داخل المؤسسة، رغم أنه تم إجازته تحريريًا عدة مرات بحسب شركة Basement Films المشاركة في إنتاجه، وما يصعب رؤيته بالفعل هو كيف يمكن ل “بي بي سي” أن تستمر في الادعاء بالحياد، بعد كل هذه المرات التي تم فيها تغييب معلومات جوهرية، أو قلبها رأسًا على عقب، ضمن جهود المؤسسة المستمرة لحماية صورة إسرائيل المتهاوية.
على سبيل المثال، نادرًا ما تذكر "بي بي سي" أن تراكم الأدلة دفع العديد من الجهات الموثوقة إلى الاستنتاج بأن أفعال إسرائيل في غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية. وإذا تجرأ أحد الضيوف في مقابلة على قول ذلك، فإن المذيع في “بي بي سي” يتدخل فورًا للدفاع عن إسرائيل وبشدة. وقد حدث ذلك مرة أخرى في يوم بث حلقة لينيكر الأخيرة. في المقابل، فإن التصريحات العديدة التي ترتبط بالإبادة الجماعية الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين، والتي تشكل دليلاً واضحًا على نية الإبادة، غالبًا ما تُدفن في أعماق مقالات موقع “بي بي سي”، إن تم الإشارة إليها أصلًا. فعلى سبيل المثال، لم تذكر “بي بي سي” أبدًا استشهاد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بقصة "العماليق" التوراتية.
وعلى نطاق أوسع، فإن الكثير من اللقطات الصادمة من غزة التي تصلنا عبر هواتفنا لا تجد طريقها إلى صفحات “بي بي سي”. حتى ذلك المشهد الكريه المتكرر لجنود إسرائيليين يتفاخرون بالتقاط صور مع ملابس داخلية لنساء من غزة، ميتات أو مهجّرات، لم يُذكر قط على موقع المؤسسة الإعلامية. وبصفتي صحفيا سابقًا في غرفة أخبار “بي بي سي”، أؤكد أن هذه القصة كانت ستُغطى فورًا لو أنها كانت جزءًا متكررًا من سلوك أي جيش آخر غير جيش إسرائيل.
ومع استمرار الحصار التجويعي الإسرائيلي على غزة وحملات القصف التي تقتل العشرات من المدنيين يوميًا، مخلّفة بعضًا من أكثر الصور والروايات رعبًا حتى الآن، ظهرت إشارات محدودة إلى أن بعض وسائل الإعلام والساسة بدأوا يغيرون لغتهم المتساهلة تجاه إسرائيل إلى لهجة أكثر نقدًا. لكن، إلى أن نرى خطوات حقيقية - مثل وقف توريد الأسلحة التي تحتاجها إسرائيل لمواصلة حربها، أو فرض عقوبات اقتصادية، أو التدخل المادي لوقف المذبحة الجماعية - فيمكن اعتبار أي تصريحات مجرد كلمات تجمل الواقع القبيح.
وفي هذه الأثناء، فإن اختفاء غاري لينيكر عن شاشاتنا، بسبب منشور على إنستغرام وُصف بأنه مسيء عن غير قصد، يُظهر أننا لا نزال بعيدين جدًا عن القدرة على إجراء نقاش حر وصادق بشأن إسرائيل في بريطانيا .