لو تنبأ أحدهم قبل أسبوعين بأن أكثر من نصف قرن من حكم عائلة الأسد في سوريا على وشك الأفول، لظن كثيرون أنه يمزح. فقد كانت قوات حزب الله وإسرائيل لا تزالان تخوضان المعارك في جنوب لبنان؛ وحقول القتل الصادمة كانت لا تزال قائمة في غزة تستحوذ على الضمير العالمي، ولكن دن أن يجرؤ طرف عالمي على اتخاذ إجراءات لوقف جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين؛ وكانت إيران تبدو مستعدة، أو ربما غير مستعدة، لتنفيذ تهديدها بالرد على الهجوم الإسرائيلي الأخير عليها في 26 أكتوبر. قبل أسبوعين تقريبا، كان الوضع في غرب آسيا خطيرًا للغاية وغير مستقر، لكن على الأقل كان بإمكاننا الاعتماد على درجة من الاستمرارية في سوريا... أليس كذلك؟
ثم جاء اتفاق وقف إطلاق النار في 26 نوفمبر ليهدأ جبهة حزب الله وإسرائيل في لبنان. وكالعادة، ادعى الطرفان أنهما أحرزا النصر، ولكن بدرجات متفاوتة من المصداقية. قال الأمين العام الجديد لحزب الله نعيم قاسم إن إفشال أهداف الحرب الإسرائيلية بفضل بسالة المقاومة كان نصرًا أكبر مما حدث في يوليو/أغسطس 2006. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فقد احتفى بالقضاء على قيادة حزب الله، بما في ذلك السيد حسن نصر الله، بالإضافة إلى قتل "آلاف الإرهابيين"، وتدمير "عشرات الأبراج الإرهابية العالية" في الضاحية الجنوبية لبيروت، مما أعاد حزب الله "عقودًا إلى الوراء". ثم أشار نتنياهو إلى ثلاثة مجالات ستركز عليها إسرائيل بعد وقف إطلاق النار: أولاً - إيران، ثانيًا - استعادة وتجديد القوة العسكرية، ثالثًا - زيادة الضغط على حماس في غزة.
بالطبع، لم يكن نتنياهو ليضيف: "أوه نعم، أصدقاؤنا في شمال غرب سوريا الذي تسيطر عليه المعارضة سيطيحون ببشار الأسد، مما سيغير مصير المنطقة بشكل جذري لسنوات قادمة." لكن المؤرخين في المستقبل سيجدون صعوبة في القول بأنه لم يكن هناك أي تنسيق بين إسرائيل وتركيا، حيث شنت جماعة هيئة تحرير الشام الموالية لتركيا هجومًا خاطفًا على حلب في يوم وقف إطلاق النار، وسيطرت بسرعة على حماة وحمص وأخيرًا دمشق في أقل من أسبوعين.
يمكننا تحليل الهجوم الذي قادته هيئة تحرير الشام والنظر في احتمالية التنسيق مع إسرائيل أو عدمه. فما حدث مثل انتصارًا كبيرًا لمعارضي محور المقاومة، أي الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما، مع انضمام تركيا – على ما يبدو – بشكل لا رجعة فيه إلى هذا التحالف بعد عام من الخطابات النارية المناهضة لإسرائيل من الرئيس رجب طيب أردوغان لم ترافقها أي أفعال. وفي المقابل، يُعد ذلك هزيمة كبيرة لأعضاء المحور، إيران وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، وداعم الأسد الدولي روسيا، التي كانت تقاتل إلى جانب القوات السورية ضد المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا. سقوط الأسد، في هذا السياق، له صدى عالمي، وليس فقط إقليميًا، على مستوى يقارن بالحرب الروسية في أوكرانيا.
قد تخرج روسيا من حربها في نهاية المطاف، منتصرة على أوكرانيا الأصغر حجمًا والأكثر ضعفًا، رغم كل الدعم الذي تتلقاه الأخيرة من الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، إلا أن الوضع يختلف في غرب آسيا ، فقد دعمت موسكو بوضوح الفريق الخاسر وستعاني جراء ذلك – خاصة عندما يتعلق الأمر بمصير قاعدتها البحرية في طرطوس، التي كانت تمكنها من بسط قوتها في البحر الأبيض المتوسط.
لكن خسارة إيران بالمقارنة تبدو أكبر وربما تتسبب في مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة. إن تقاعس سوريا عن الرد على إسرائيل على مدى السنوات الماضية كان لافتًا للانتباه، خاصة وأن التصدي لحملة إسرائيل على غزة لم يقتصر على حزب الله فقط بل شمل اليمن الذي يحكمه الحوثيون والمجموعات المسلحة في العراق. قد يتساءل البعض عن السبب الذي جعل الأسد يشكل تهديدًا بينما كانت سوريا تتعرض للهجوم المتكرر من سلاح الجو الإسرائيلي دون أي رد فعل. الجواب بالطبع هو أن سوريا تحت حكم الأسد كانت جسر إيران (عبر العراق) إلى "قاعدة العمليات الأمامية" في لبنان. هذا الجسر قد انهار، حاملاً معه الردع الذي كان حزب الله قادرًا على فرضه، وإن كان غير كافٍ، على الحدود الشمالية لإسرائيل.
الخيارات المتاحة لإيران أصبحت أضيق، وقد تقودها إلى تطوير رادع غير تقليدي على أرضها. وهي فكرة مقلقة بالفعل، مع وضع بنيامين نتنياهو لفكرة تغيير النظام في إيران على رأس قائمة مطالبه لفرض الهيمنة الإقليمية ِ!
هل كان هناك استعراض قوة إسرائيلي تجاه سوريا لصرف الأنظار عن المستنقع غير القابل للفوز في لبنان؟ كان ذلك ليكون وسيلة ممتازة لصرف الانتباه عن فشلها في القضاء على حزب الله، وهو الفشل هدد بتقويض قدرة الردع الإسرائيلية. في الوقت نفسه، وجدت هيئة تحرير الشام وتركيا الفرصة سانحة بالتأكيد، نتيجة للاستنزاف الذي ألحقته القوات الإسرائيلية بالمقاومة الإسلامية.
منذ اندلاع الثورة السورية ضد حكم الأسد في عام 2011، لعب حزب الله دورًا محوريًا بالتنسيق مع القوات النظامية وكذلك مع الميليشيات المؤيدة للأسد. كان له دور أساسي في استعادة الأراضي السورية التي سيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية (المعروف اختصارا بالعربية باسم "داعش") وجبهة النصرة (الاسم السابق لهيئة تحرير الشام)، وساهم في إنهاء تسلل المتمردين السوريين إلى لبنان عام 2017
.
لكن المشهد تغير تماما في الأسابيع الأخيرة من 2024 بالنسبة لحزب الله الذي خاض معارك قاسية دون أن ينكسر، أما وإسرائيل فقد استهدفت في آخر عملياتها الجوية الكثيفة على لبنان نقاط العبور إلى سوريا، لمنع الحزب من تقديم أي مساعدة لما أصبح معركة الأسد الأخيرة.
رغم كل ذلك لم يكن سقوط حكومة الأسد على قائمة توقعات كثيرين في أواخر عام 2024، على الأقل حتى الأيام الأخيرة حين بدا انهيار دمشق سريعًا بشكل مذهل. يبدو أن حكم بشار كان متداعيًا بشكل أكبر مما كنا نظن. ولن يُفتقد خروجه من السلطة بنفس الطريقة التي سيفتقد بها اغتيال زعيم حزب الله. كان نصر الله بشخصيته الكاريزمية والخطابة المؤثرة متصلاً بالجماهير بطريقة استثنائية لا يمكن للأسد، بطبيعته المتحفظة كطبيب عيون، أن ينافسها. لقد كان اختيارًا غير متوقع لتولي السلطة بعد وفاة والده القوي حافظ الأسد، الذي حكم سوريا من عام 1970 إلى 2000. وكان الأخ الأكبر باسل الأكثر تأهيلاً للخلافة الأسرية، لكنه توفي في حادث سيارة عام 1994
.
لكن رحيل الأسد ونهاية حكم حزب البعث في سوريا قد يتسبب في توابع زلزالية أكثر مما سببه اغتيال نصر الله.
في عام 2011، أرسل مستشار الأمن القومي الأمريكي الحالي جيك سوليفان بريدًا إلكترونيًا سيئ السمعة إلى وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون – تم تسريبه لاحقًا عبر ويكيليكس – قال فيه إن تنظيم القاعدة، الذي يعتبر سلف هيئة تحرير الشام اليوم، "يقف إلى جانبنا في سوريا". هناك أسباب كثيرة تدعو للاعتقاد بأنه ما زال على جانب واشنطن، رغم التناقض الكبير الذي يتطلبه استيعاب هذه المعلومة بالنظر إلى أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تبعها. والأغرب من ذلك، أن هيئة تحرير الشام، رغم أصولها الإسلامية المتشددة، ليست عدوًا لإسرائيل ويُعتقد أنها لا تشكل تهديدًا لها، على سبيل المثال لو تعهدت بالسعي لتحرير مرتفعات الجولان المحتلة.
الولايات المتحدة، التي توجد عسكريًا أيضًا على الأراضي السورية، ستسعى بلا شك إلى أن تكون لها الكلمة العليا في مستقبل سوريا، وسيكون إزالة سوريا من قائمة أعداء إسرائيل الدائمين أولوية أمريكية وإسرائيلية.
لا أحد يستطيع أن يجزم بما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا بعد سلسلة الأحداث المتسارعة منذ 26 نوفمبر. بعض التجارب السابقة في العالم العربي تنذر بالخطر. لقد شهدت المنطقة موجات من الاضطرابات العنيفة وتغيير الأنظمة من قبل قوى خارجية منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، مما أدى إلى مقتل الملايين وإفقارهم وتشريدهم. إن خلق فوضى أخرى في سوريا على غرار ليبيا أو العراق بعد الحرب سيكون احتمالاً مرعبًا. قلة من الذين تابعوا عن كثب صعود الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية في غرب آسيا في القرن الحادي والعشرين يشعرون بالتفاؤل بشأن المستقبل.