لم تُذرف دموع قليلة أَو كثيرة على سقوط الرئيس السوري بشار الأسد، فواقع الحال أن النظام كان يعيش في سنواته الأخيرة على أجهزة التنفس الاصطناعي متمثلة في داعمين رئيسيين هما روسيا وإيران كجزء من تجاذبات إقليمية ودولية لم يكن فيها هو ولا داعموه من الرابحين في نهاية المطاف. لقد ظل النظام يلعب على تلك التناقضات وكأنها قارب نجاته الوحيد، فلم يبادر إلى إصلاح أو يسعى لاحتواء معارضيه من أبناء شعبه، فتآكلت قاعدته حتى بين مؤيديه، لتصبح مقتصرة على منظومة فساد من الدائرة الضيقة، في ظل عقوبات اقتصادية خانقة جعلت من تبقى من السوريين في المناطق التي تحت سيطرته ينتظرون الخلاص أيا كان شكله.
والحاصل أن نوع الخلاص – وليس الخلاص نفسه- هو ما يثير قلقا إقليميا بشأن ما سيحدث في سوريا مستقبلا. فحتى قبل أسبوع من سقوط النظام، كانت معظم العواصم العربية تنظر إلى تحركات الجماعات المسلحة وهي تقضم المنطقة تلو الأخرى بارتياب، دفع تلك العواصم على صعيدها الرسمي، إلى تمني بقاء نظام الأسد ولو عن طريق إصلاحه من الداخل وهو أمر سبقتها الأحداث إليه بأسرع مما كان يتوقع أحد. ومع مرور الساعات تتعاظم المخاوف العربية من دور تركيا وإسرائيل في سوريا الجديدة، الأولى برعايتها لإعادة تشكيل الأوضاع السورية بما يخدم نفوذها ومصالحها، والثانية باستغلالها الوضع الهش لتفريغ الدولة السورية من مقدراتها العسكرية وتثبيت وقائع جديدة على خط الهدنة.
وقد بدت صورة تقدم جماعات إسلاموية بقيادة هيئة تحرير الشام نحو دمشق وكأنها استئناف لتحركات الربيع العربي التي اندلعت معها الثورة السورية في نفس الوقت تقريبا عام 2011 وشملت وقتها تونس ومصر واليمن وليبيا. ورغم اختلاف السياقات بين تلك الانتفاضات وما حدث في سوريا مؤخرا، فإن المحصلة في نظر المتخوفين منها واحدة، تتمثل في وصول جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة مدعومة بطرف أو آخر من خارج الإقليم.
كان لافتا للانتباه منذ البداية، احتفال الإسلامويين بإسقاط نظام الأسد وكأنه تتويج لمشروعية حركاتهم التي أُقصيت في دول أخرى بفعل فاعل، رغم اتساع هوة المواقف. ففي بلدان مثل مصر وتونس احتكم الإسلام السياسي إلى صناديق الاقتراع وفاز عبرها ثم جاءت الثورات المضادة لتجهض هذا التقدم. لكن الحالة الثورية اعتراها الكثير من الدم في سوريا وخضعت لتحولات وتبدلات بعدما فشلت المعارضات المدنية في إجبار نظام قمعي شمولي على تقديم تنازلات. من ثم يصعب القول أن هيئة تحرير الشام ورديف القاعدة مماثل لحركات تبنت مشروعا مدنيا بنفس إسلامي.
لكن الجدل والخلافات لا يمنع أمرين؛ أولهما هو أن من حق السوريين أن يفرحوا بسقوط نظام الأسد بعدما قُتل في سوريا قرابة نصف مليون شخص منذ عام 2011 وأصبح نصف الشعب السوري تقريبا لاجئا خارج بلده أو نازحا داخلها. أما الثاني فهو التداعيات التي ستنعكس على الإقليم العربي جراء ما حدث في سوريا وكيف ستتفاعل العواصم العربية معه.
الدور التركي
لامت العواصم العربية على مدى الأعوام الماضية على نظام الأسد ربط سوريا بالمشروع الإيراني، وقد رأى كثيرون أن هذا الارتهان كان من العوامل الرئيسية في تغذية الطائفية في الإقليم. لكن هزيمة المشروع الإيراني أو تراجعه بشكل جذري، على خلفية الحرب في غزة ولاحقا في لبنان، بسبب تأييد طهران لحركة حماس وحزب الله، مثلت ضربة صاعقة لنظام الأسد لم يتوقعها أحد. في المقابل تبين أن الجماعات المسلحة التي كانت تتقدم نحو المدن السورية وآخرها دمشق، كانت مدعومة بلاعب إقليمي آخر هو تركيا. وهو أمر لم يخفه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الجمعة الأخيرة قبل سقوط نظام الأسد ولا وزير خارجيته، هاكان فيدان يوم سقوط النظامِ، مبشرا بمرحلة جديدة ترعاها تركيا. هكذا تتبدل الرعاية ويتبدل النظام على أرض سوريا في غضون أسبوع واحد بينما الجامعة العربية ودولها الرئيسية خارج اللعبة.
ربما لم تعرب العواصم الرئيسية مثل القاهرة والرياض وأبو ظبي عن مخاوفها بشكل علني خوفا من اتهامها بمعارضة رغبة السوريين، لكن المؤكد أن دور أنقرة في دعم الحركات الإسلامية كان من أسباب الخلاف الرئيسية مع تلك العواصم في أعقاب الربيع العربي، وقد بدا أن الزمن قد طوى هذه الخلافات بعد سلسلة المصالحات بين تركيا والدول الثلاث. لكن أصداء ما يحدث في سوريا يحمل في طياته مخاوف من إحياء الخلاف القديم خاصة في ظل وجود حركات إسلامية مسلحة لا تنفي تركيا دعمها لها، وإن لأهداف برغماتية.
ولعل تردد القاهرة في الترحيب بتلك التغيرات له مغزى واضح، فأحد أسباب خلاف المؤسسة العسكرية المصرية مع حركة الإخوان المسلمين في عام 2013 كانت دعوة الرئيس المنتخب آنذاك محمد مرسي لفتح باب الجهاد في سوريا. وقد ظلت العلاقات المصرية مع نظام الأسد قائمة حتى بعد ما علقت الجامعة العربية عضوية سوريا، لأسباب تتعلق بالأمن القومي المصري، الذي يعيش حالة حصار شبه كاملة في الوقت الراهن، ولن يقبل، تحت تأثير الحالة السورية، بعودة تيارات جهادية أو إسلاموية حاربها بضراوة على مدى السنوات الماضية. وهو موقف يشابه ربما ذلك الذي اتخذته القاهرة تجاه التغيرات التي شهدتها ليبيا بدعم تركي أيضا، مع اختلاف السياقات. لكن التأثير التركي في تغيرات سوريا بفعل الجوار الجغرافي والجماعات الموالية لها ودعم أنقرة للمعارضة على مدى 13 عاما يفوق كثيرا أي نفوذ عربي. فتركيا تحتل بالفعل مناطق حدودية في الشمال السوري، وتتذرع بضرورة وجودها لمحاربة الانفصاليين الأكراد، لكن قبل ذلك راجت كتابات كثيرة عن تسهيل المخابرات التركية دخول عناصر "تنظيم الدولة الإسلامية" إبان احتلال التنظيم مناطق شاسعة في سوريا والعراق. كثير من الأنظمة العربية تراودها شكوك حول رغبة تركيا في التوسع داخل الإقليمي العربي والمؤكد أن انفرادها بالساحة السورية سيعزز تلك الشكوك.
الدور الإسرائيلي
كانت الحكمة التقليدية تقول إن بقاء نظام الأسد هو الوضع الأمثل لإسرائيل في السنوات الأخيرة، فبعيدا عن دعمه لحزب الله اللبناني وارتباطه بإيران، لم ينخرط النظام في أي مواجهة حقيقية مع إسرائيل منذ توقيع اتفاق الهدنة في عام 1974. وعلى مدى السنوات الماضية كانت أجواء سوريا مفتوحة أمام الطيران الحربي الإسرائيلي ليقصف أينما ووقتما يشاء ما يعتبره أهدافا تابعة لإيران وحزب الله، وحتى منشآت الجيش السوري نفسه. ومن ثم وقفت إسرائيل طوال الأيام التي سبقت سقوط الأسد موقف المتفرج السلبي، في انتظار ما تتكشف عنه التطورات على الأرض.
لكن الصمت الإسرائيلي تبدد يوم رحيل الأسد ليعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن الضربات المتلاحقة للنظام كانت سببا رئيسيا في سقوطه، كما أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي أن سوريا أصبحت "جبهة مفتوحة"، مع إلغاء قرار فض الاشتباك في الجولان وتلويح نتنياهو علنا بورقة أقليات سوريا الذين يمد لهم يد السلام. والمتوقع أنه وحتى تشكل نظام جديد متماسك لديه القدرة على الدفاع عن أراضي سوريا، ستجد إسرائيل الفرصة سانحة أمامها للقيام بعمليات داخل سوريا تحت أي ذريعة. وفي ظل غياب جيش حقيقي، والسعي لتقديم مسوغات قبول لدى العواصم الغربية وواشنطن، لن تجد القوى السياسية الناشئة قدرة على تحدى الاستفزازات الإسرائيلية التي لم تتوقف يوم رحيل الأسد.
تعيد المواقف الإسرائيلية تلك التذكير بحديث نتنياهو عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط حسب المزاج الإسرائيلي في وقت يبدو من المستبعد فيه أن تتحرك تركيا لمواجهة إسرائيل في الساحة السورية، بل إن المرجح أن يكون توازن المصالح ومناطق النفوذ بديلا لأية مواجهة. هنا تبدو إسرائيل كرابح أكبر، فقد أبعدت إيران عن حدودها وسقط النظام الذي كان مؤيدا لحزب الله وفي تغير مباغت جاء إلى السلطة من يعادون حزب الله وإيران دون أن تكون لديهم القدرة في الوقت الراهن ولوقت طويل سيأتي على مواجهة تدخلات إسرائيل التي تهدف لتفريغ سوريا من أي مكون عسكري بما يجعلها ساحة مفتوحة أمامها ربما لسنوات قادمة. .
الدور الكردي
يمثل الأكراد حوالي عشرة في المئة من مجموع سكان سوريا الذي بلغ 20.4 مليون نسمة في عام 2021 حسب تقديرات المخابرات المركزية الأمريكية. وربما يكون المكون الكردي من أكبر المستفيدين من سنوات الاضطراب التي عمت سوريا منذ عام 2011. فرغم مشاركة الأكراد في بدايات الثورة، إلا أن طموحاتهم الانفصالية تعززت بعد ذلك. ومع انسحاب القوات الحكومية من شمال وشرق سوريا، شكلت الفصائل الكردية منطقة الحكم الذاتي الخاصة التي أصبحت أمرا واقعا. كانت الفصائل الكردية بقيادة قوات سوريا الديمقراطية حليفا رئيسيا للولايات المتحدة في الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية " داعش"، وتمثلت المكافأة التي حصلت عليها في توسيع منطقة الحكم الذاتي التي تحتوي على حقول النفط والغاز الأكبر في سوريا، وتتمركز فيها في الوقت الراهن قوات أمريكية عددها 900 جندي تحت مسمى ملاحقة فلول "داعش". ورغم أن الأكراد يمثلون عشر السكان تقريبا فإنهم يسيطرون على ربع مساحة سوريا ومنها مدن ذات غالبية عربية مثل الرقة.
التوسع الكردي هو أحد أسباب إصرار تركيا على خلق منطقة عازلة في الشمال السوري بعمق يصل إلى 30 كيلومترا، مع إصرار أنقرة على التدخل ضد أنشطة حزب العمال الكردستاني الذي تقول إن الجماعات الكردية في سوريا مرتبطة به. لكن أكراد سوريا يتمتعون بالدعم الأمريكي رغم إعلان الرئيس المنتخب دونالد ترامب معارضته لاي تدخل أمريكي في تطور الأحداث في سوريا، وسعيه في ولايته الأولى لسحب القوات من هناك بشكل كامل وهو أمر عارضه البنتاغون. ورغم إعلان تركيا عن تأييدها لوحدة الأراضي السورية، فهناك مخاوف من ألا يستجيب الأكراد لهذه الدعوة وأن يحظوا بدعم أمريكي في مطالبهم. ربما تكون الفيدرالية هي الحل الأمثل، لكن من سيقبل بها في الجانب العربي وكيف؟ وهل يمكن أن تكون الطموحات الكردية على حساب المكون العربي قنبلة موقوتة في السعي لتأسيس النظام الجديد؟ فتجربة الفيدرالية في العراق التي ضمنت وجود إقليم كردستان ليست ناجحة إلى الدرجة التي تغري بتكرارها في سوريا لكنها إذا طبقت ضمن حدود عادلة للأرض والثروة قد تكون أمرا حتميا في ظل غياب إطار ديمقراطي شامل.
يراهن كثيرون على قدرات السوريين ومستوى وعيهم بأن يؤدي إلى تحول يخلق سوريا جديدة تستوعب كل أبنائها، خاصة بعد حصاد الدم الذي أغرق البلاد في ظل نظام ديكتاتوري قمعي جثم على قلوبهم لأكثر من خمسين عاما. ولكي يحدث ذلك لابد من دور عربي فاعل وداعم لسوريا اقتصاديا وسياسيا يعزز وحدتها ويوازن بقية الأدوار التي تسارع لملء الفراغ الذي نأمل أن يكون مؤقتا.