بينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتانياهو يحصل من الرئيس السابق جو بايدن على الدعم العسكري الذي يريده والغطاء السياسي في الأمم المتحدة لاستمرار الحرب في غزة وضد حزب الله في لبنان، كان يتعاون سراً مع حملة دونالد ترامب الانتخابية لمساعدته في انتخابات نوفمبر الماضي ضد بايدن أولاً ثم ضد كامالا هاريس بعد انسحاب بايدن.
كان أهم ما فعله نتانياهو هو المماطلة في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة قبل الانتخابات حتى لا يستفيد منه الدىمقراطيون ومرشحوهم في انتخابات الرئاسة أو الكونغرس. ثم بدأت الأموال تنهال على حملة ترامب من أصدقاء إسرائيل في الولايات المتحدة ومنهم ميريام أديلسون التي قدمت وحدها نحو مائة مليون دولار.
هل كان نتانياهو ناكراً للجميل؟ هل نسي أنصار إسرائيل ما حصلت عليه من بايدن؟
الحقيقة أن نتانياهو نفسه هو من هنأ بايدن بفوزه في انتخابات عام 2020، بما تسبب في شرخ كبير في علاقته مع ترامب، لكن بعكس كثير من العرب، لم يترك العلاقة تتوقف عن تلك النقطة، لأنه يدرك الفارق بين الرجلين.
نحن نسمع كثيراً المثل الشعبي "أحمد مثل الحاج أحمد"، بمعنى أن سياسة أمريكا ثابتة والرئيس هو مجرد أداة لتنفيذ ما توافقت عليه الدولة العميقة بمجمعها السياسي والعسكري. يستسهل المتابعون العرب هذه العبارات كثيرا، لأنها توفر عليهم مشقة البحث والفهم. لكن الإسرائيليين وخصوصاً نتانياهو بخبرته الأمريكية الطويلة لا يكتفي بمعرفة الفرق بين سياسي أمريكي وآخر، لكنه يسعي أيضا لاستغلاله والاستفادة منه، لذلك وجدناه يدعم ترامب والجمهوريين.
هو لم يفعل ذلك لأسباب شخصية، وليس لأن بايدن صرخ فيه أثناء إحدى المكالمات العنيفة بين الرجلين، لكن لأن ترامب والجمهوريين يمثلون اليمين المحافظ في أمريكا بقاعدته السياسية الداعمة لليمين الليكودي وحكومته الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل. ربما لا يكون هناك المزيد من الدعم العسكري الذي سيقدمه ترامب في حرب غزة، لكن الأهم عند نتانياهو هو ما بعد وقف إطلاق النار وإعادة تشكيل المنطقة طبقاً للرؤية الإسرائيلية.
غزة ودعوات "التطهير العرقي"
لننظر مثلا لعبارة ترامب التي يتحسر فيها على صغر مساحة إسرائيل وإمكانية زيادتها، هو بالطبع لن يتبرع لها بجزء من أملاكه الواسعة في (مارالاغو -فلوريدا)، لكنه ذكر ذلك في حفل نظمته ميريام أديلسون التي تريد منه الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وربما العودة لاحتلال غزة، لذلك لم أجد مفاجأة كبيرة في تصريحاته مؤخراً بضرورة نقل الفلسطينيين من غزة إلي مصر والأردن، وأن يتم إنشاء مساكن لهم "يعيشون فيها في سلام… علي المدىٍ الطويل".
إنه تأكيد صريح على "التطهير العرقي" لغزة بما يفتحها لعودة إسرائيل وللمشروعات الاستثمارية والسياحية، فترامب لا يرى في غزة أرضا فلسطينية تضم حوالي مليوني إنسان محرومين من الطعام والشراب ويتعرضون للإبادة الجماعية، لكنه كرجل استثمار وعقارات اكتشف في القطاع ما سبق وتحدث عنه زوج ابنته جاريد كوشنر، فهي موقع ممتاز علي البحر المتوسط وجو لطيف يسمح بإعادة بنائها "بطريقة مختلفة" لا تتضمن بالطبع استيعاب سكانها الأصليين في منطقة هي الأكثر تكدساً في العالم.
هذا هو الفارق بين الجمهوريين والدىموقراطيين الذي لم يفهمه كثير من العرب حتى داخل أمريكا فصوتوا لترامب في الانتخابات الأخيرة، بينما كان نتانياهو ينسق معه لترتيبات المرحلة القادمة للحصول على ما لم يمكنه أن يحلم به من الدىمقراطيين. فرغم موقف بايدن المشين من أزمة غزة ودعمه آلة الحرب الإسرائيلية، إلا أنّ إدارته كانت واضحة وحاسمة منذ بداية الأزمة: لا لعودة احتلال غزة ولا لضم الضفة الغربية، ذلك أن هناك تحولات كبيرة داخل القاعدة الدىمقراطية تحول دون ذلك وتدعم حقوق الفلسطينيين وإقامة دولتهم، بما جعل الكاتب المعروف توماس فريدمان يقول يوماً إن بايدن هو آخر رئيس ديمقراطي داعم لإسرائيل.
لكن ترامب ورغم هذه التصريحات والدعم السخي لإسرائيل، واعترافه بالقدس عاصمة لها في انتقاض صريح لسياسة أمريكية استمرت عقودا، ربما يبدو "معتدلا" وسط معسكره من صقور اليمين المحافظ.
ربما تكون المندوبة القادمة لإدارته لدى الأمم المتحدة أليس ستيفانيك، نموذجا على هذه الموجة المتطرفة الداعمة لإسرائيل دون قيد أو شرط، ستيفانيك ترى أن لإسرائيل حقاً توراتياً في الضفة الغربية، ورفضت في جلسة استماع بمجلس الشيوخ أن تعترف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
نموذج آخر، لصقور ترامب، هو مستشاره للأمن القومي مايك وولتز الذي امتنع عن القول إن كانت إدارة ترامب يمكن أن تعترض علي عودة إسرائيل لاحتلال غزة، أما السفير الجديد لدى إسرائيل مايك هاكابي فمعروف بعلاقته القديمة بالمستوطنين اليهود ويرفض الاعتراف بالضفة الغربية التي يقول إنها (يهودا والسامرة). هذه المواقف المتطرفة لا تختلف كثيرا لدى وزيري الخارجية والدفاع.
إيران.. بين خيارين
ورغم تركيز الاهتمام مؤخراً على غزة والفلسطينيين بسبب سخونة الأحداث إلا أن الاختبار الأول والحقيقي لتوجهات الإدارة الجديدة سيرتبط بإيران، فنتانياهو ربما يستجيب تكتيكياً لرغبة ترامب بعدم العودة للحرب في غزة، على الأقل بصورتها التي شهدناها العام الماضي، لكنه سينتظر مكاسب استراتيجية كبرى إما بمشاركة واشنطن لإسرائيل في ضرب المواقع النووية الإيرانية أو تقديم الأسلحة المطلوبة لتنفيذ ذلك خصوصاً القذائف الثقيلة الخارقة للحصون.
لا أعتقد أن ترامب سيسارع في هذا المسار لأنه بشكل شخصي لا يميل للحروب وكما قال في خطاب حفل تنصيبه، إن نجاحه يمكن أن يقاس بالحروب التي يتجنبها، لكن دعونا لا ننسى أنه هو من انسحب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018 متأثراً بنصائح وزير خارجيته وقتها مايك بومبيو ومستشاره السابق للأمن القومي جون بولتون، ثم هو نفسه من أمر باغتيال الجنرال قاسم سليماني رغم تحذيرات السيناتور ليندسي غراهام له من إمكانية إن يؤدي الاغتيال إلى تورط أمريكا في حرب مباشرة مع إيران، وحتى عندما تراجع نتانياهو عن مشاركة إسرائيل في عملية الاغتيال لم يهتم ترامب وقامت بها واشنطن منفردة.
إذن الرجل قد يقول عن نفسه إنه يسعي للسلام، لكن في الحقيقة لا يمكن التكهن بأفعاله.
ويقول تقرير لموقع بلومبرغ إن التوجه الحالي لإدارته هو فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على طهران خاصةً بإعاقة صادراتها النفطية والانتظار لمعرفة إن كانت مستعدة لعقد صفقة جديدة لتحجيم برنامجها النووي، لكن ذلك يظل محكوماً بعنصرين:
أولاً: أن إيران الآن في أضعف حالاتها من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية، بعد تدمير أغلب قواعد الدفاع الجوي فيها وإضعاف حماس وحزب الله بما يجعل إيران غير قادرة على القيام برد قوي ضد إسرائيل، وانتظار مزيد من الوقت قد يعطي إيران الفرصة لإصلاح منظومة الدفاع الجوي بها بالتعاون مع روسيا التي وقعت معها اتفاقية تعاون استراتيجي مؤخراً، مع إمكانية تعويض حزب الله عن بعض ما خسره في حربه الأخيرة.
ثانياً: هناك مؤشرات على أن حكومة نتانياهو لن تترك هكذا "فرصة تاريخية" لتسوية حساباتها القديمة والطويلة مع نظام آيات الله، والتخلص من الصداع النووي الإيراني بشكل حاسم وربما تدمير المواقع النفطية بما يضعف النظام أو يؤدي لإسقاطه.
كيف إذن يتعامل ترامب مع هذه القضية؟
اعتقادي الشخصي أنه سيحاول تجنب الحرب الشاملة وهو في بداية فترته الثانية، لكنه قد يقبل لاحقاً بدعم العمل العسكري الإسرائيلي أو حتى المشاركة الفعلية، خاصة أن وزير دفاعه (بيت هاغسيث) يطالب -ليس فقط بضرب المواقع النووية- ولكن أيضا بتدمير المراكز الاقتصادية، بل والثقافية، بما يتجاوز قوانين الحرب التي يعتبرها "هاغسيث" عائقاً أمام الجنود الأمريكيين. ونلاحظ أن أغلب المحيطين بترامب الآن في الخارجية ومجلس الأمن القومي يتبنون مواقف متشددة جداً تجاه إيران، ربما أستثني من ذلك تولسي غابرد في حالة التصديق على ترشيحها كمدير لأجهزة الاستخبارات الأمريكية وهي تواجه معارضة كبيرة حتى بين الجمهوريين أساساً لهذا السبب.
لذلك فالاحتمال الأقرب أن ترامب لن ينتظر العقوبات طويلًا حتى تحقق أهدافها خاصة بعد أن ثبت فشلها في الماضي، وأرجّح أن يسارع بوضع طهران أمام أحد خيارين: إما الانصياع لاتفاق جديد أكثر صرامة لإنهاء برنامجها النووي تماماً أو مواجهة عملية عسكرية كبرى.
ورقة التطبيع الكامل
هذه إذن هي المعادلة الجديدة في واشنطن التي تربط اليمين الأمريكي بنظيره الإسرائيلي في الكثير من القضايا خاصة الفلسطينية وإيران، وهو ما حرص نتانياهو على تأكيده لسنوات طويلة لحماية المصالح الإسرائيلية في مواجهة ما يراه من تحولات معاكسة بين الديمقراطيين.
لكني مع هذا لا أري الأمر محسوماً نحو فرض تلك السياسات اليمينية المتطرفة خاصة ما يتعلق منها بالفلسطينيين، فلا يزال هناك بعد آخر مفقود وهو قبول إسرائيل في المنطقة بتوسيع الاتفاقات الإبراهيمية والتطبيع الإسرائيلي العلني مع دول الخليج وخاصة السعودية، فهذا هدف كبير أكدت الإدارة الجديدة أنه يمثل أولوية قصوى بالنسبة لها يفتح الباب لتطبيع أكبر مع بقية العالم العربي والإسلامي.
لكن السعودية أكدت أنها تربط هذه الخطوة بالتحرك نحو إقامة دولة فلسطينية، وهو ما يخلق عقبة كبيرة أمام تنفيذ استراتيجية تشكيل المنطقة برؤية إسرائيلية ليكودية. وقد ذكر مايك هاكابي بأن ترامب لا يبالي بدولة فلسطينية، وعندما سُئل مستشار الأمن القومي مايك وولتز عن ذلك، ترك الأمر للمفاوضات مع السعودية. ويقول بعض المقربين من ترامب مثل الزعيم الإنجيلي الصهيوني مايك إيفانز إن التوجه السائد هو حكم ذاتي للفلسطينيين تحت السيادة الإسرائيلية، وهو بالتأكيد سيكون مرفوضاً من جانب الفلسطينيين وسيكون من الصعب على السعوديين أيضاً القبول به، فالسعودية لها مكانتها الكبيرة في العالم الإسلامي وهي لن تضحي بها من أجل صفقة ضعيفة خاسرة.
حتي الآن يتصرف ترامب كإمبراطور علي حد تعبير الكاتب المعروف دافيد اغناشيوس بصحيفة واشنطن بوست حيث وقف في خطاب بالفيديو أمام ملتقي دافوس العالمي يلقي بتوجيهاته وتهديداته لقادة الدول والمسؤولين، لكنه قد يضطر عاجلًا للاختيار بين مسارين: إما التوسع والهيمنة والاحتلال الإسرائيلي أو القبول والاندماج والتطبيع، حيث لن يكون من الممكن الجمع بينهما، وعندها سيدرك أن سلطته الإمبراطورية لها حدودها، في شرق أوسط قد يكون في أكثر حالاته هشاشة وانكساراً، لكنه يظل مثل الرمال المتحركة، تبدو ناعمة علي السطح لكن يمكن أن تجر من يتجاهلها إلي الأعماق.