والمسألة الأخرى المتعلقة ب(الفترة الذهبية وتعايش الديانات والازدهار الفلسفي والعلمي في الأندلس) أيام حكم المسلمين، وهي الخلاصة الثانية التي تستخلصها زكية داوود من العرض التاريخي، فمن الواضح أن في أساسها صيغة إيديولوجية تدعو إلى السلم والتفاهم ضدا على الصراعات والحروب بين الأمم والأفراد.
وهي خلاصة مهمة وتوجُّهُها ديموقراطي يسعى إلى إقامة العدل والمساواة و(تسبيل) الحوار كطريقة لحل الخلافات مهما كانت طبيعتها للفائدة الإنسانية المجنية من التعايش والتفاهم.
ولكنني أفترض أيضا أن خلاصة من هذا النوع، وقد أعِدَّت لتحقيقها مخططات وأنفقت عليها أموال إلى أن دُشّنت في أوائل التسعينيات كمؤسسة (النداء المشترك الذي بلور ذلك وَوَقَّعَهُ الإسباني ثاباطيرو وأردوغان التركي)، لم تحقق شيئا يذكر يحمل على الاعتقاد بأن دعواها كانت وجيهة أو ممكنة أو ضرورية، لسبب واضح مفاده أن الأحلاف التي تنعقد على الصعيد الكوني لها طبيعة إيديولوجية وترتبط بالمصالح الحيوية التي للدول، كما تخضع لاستراتيجيات تلك الدول في حماية مصالحها الوطنية والقومية.
غير أنها دعوة ضرورية أيضا على أن تكون بدون أوهام تُحَوِّلُها إلى مطلب دونه، من الناحية الواقعة، كثير من الصعاب، كما لا يمكن أن نرهن وجود الأفراد أو الأمم به لأنها، أي الخلاصة، من عناصر وجود حضاري كان له في التاريخ الماضي (الأندلس مثلا) سياقه الخاص وظروفه العامة.
وأضيف إلى هذا أن (الفترة الذهبية وتعايش الديانات والازدهار الفلسفي والعلمي) هي من الوقائع التاريخية التي وإن يكن عليها أكثر من دليل إلا أنها أخفت باستمرار ما كانت عليه من تفاوت وصراعات ومنافسات وأوضاعا استثنائية في المجمل لا تبرر أية قاعدة ولا تحتمل أن تكون في أساس دعواها أو مضمونها.
وفي اعتقادي الشخصي فإن الخلاصتين معا، رغم ما فيهما من شعور وطني أو إنساني أو عليهما من أوهام إيديولوجية شخصية، لا تَصْلُحَان لتقدير ما نعيش عليه، منذ ما قبل بداية الألفية الثالثة، من عولمة وحروب ومنازعات جهوية وإقليمية، بما في هذا وذاك من أطماع استراتيجية وتحالفات عسكرية وغير عسكرية كبرى عابرة للقارات.
ويبدو اليوم أن التقدم الحضاري والتطور العلمي لا يولي لما في الخلاصتين من مواقف ولا لغيره أي اعتبار حقيقي، لأنها، في عرف التطور الثقافي والتكنولوجي، دعوات فئات لها إيديولوجيات تعبوية تنشط في فترات الانحسار القومي والأزمات الاجتماعية الحادة والقوية والانكسارات المرتبطة بالعزة الوطنية أو بالشعور الوطني الشوفيني.
ويمكن أن نجد في كتاب زكية داوود رجعا لذلك كله من خلال التحليل الذي بلورته لبعض العناصر الفكرية والسياسية العامة التي قرأتها قراءة إيديولوجية في المسارات الفردية أو في المواقف السياسية أو في الإشارات الرامزة إلى ماض تليد إلخ..
وبيان ذلك أنها تقول في الفصل الأخير قبل الخاتمة إن (فرانكو) مثلا عندما سيطرة سيطرة تماما على التراب الإسباني، عام 1939، لهج بنفس الشعارات التي رددها الملوك الثلاث عن انتصار المنتصر وانهزام المنهزم، وأن (الوطنية الكاثوليكية هي الإيديولوجية الرسمية للفرانكوية) (ص 216).
أو بنوع من المقارنة الاحتمالية (إن المثقفين والليبراليين والاشتراكيين هم يهود وموريسكيو الأمس) (ص 217)، أو تعبيرها المتهافت القائل بأن (الإسبانيين يشعرون اليوم بأنهم يريدون التفكير في المشروع الوطني من جديد، غير انهم موجودون في أوربا وهم يعانون تقريبا مما تعاني منه باقي البلدان الأوربية) (ص 219).
على أية فرضية (الانفصال؟ بروز اليمين المتطرف بصورة غير مسبوقة؟) يقوم هذا الحكم في الوضع الملموس الذي توجد عليه إسبانيا؟ يضاف إلى ذلك توصيفها للتناقضات العامة التي تخترق الوجود الإسباني بالقول (إن الشياطين القدماء يعودون للظهور في الوقت الراهن، فيما أصبح للمنهزمين حقوقهم بفضل (جمعيات استعادة الذاكرة التاريخية) (ص 220)، وأن (الإحساس بالضياع هو أصل كل شيء في إسبانيا...
فهو يغذي مفهوما تراثيا وخصوصية هوية) (ص231). إلى أن نصل إلى المثير في الأمر فتستنتج، بناء على تحليل الحمض الجيني، أن (الإسباني المعاصر من الناحية العلمية بربري في جانب منه) (ص 231) بحكم بقايا لا بأس بها للكروموزوم Y E-MB8 الذي هو من أصل بربري (ص231) في شبه الجزيرة الإيبيرية.
ويفهم من هذا أن مفهوم (العرق) البيولوجي هو الأساس في التصنيف استنادا إلى تركيبة معينة غالبا ما تكون مفترضة، في حين أظهرت الأنتربولوجيا، ضمن ما أظهرته، أن التركيبة المشار إليها قد تكون، في الواقع، مع النسبية المفترضة في البحث ضدا على التصور الميتافيزيقي، اختلافات ثقافية ولغوية في العموم.